جنين- داخل غرفة صغيرة في قسم الولادة بمستشفى ابن سينا التخصصي في مدينة جنين شمال الضفة الغربية، تعيش هدى أبو يونس مع توائمها الثلاثة منذ أكثر من 4 أشهر، وترافقها في سرير الغرفة والدة زوجها التي كانت مرافقة لها حين حُوّلت من قطاع غزة إلى جنين للولادة منتصف سبتمبر/أيلول الماضي.
بدأت قصة هدى مع تأخرها في الإنجاب مدة 13 عاما، وبعد محاولات متكررة لزراعة الأجنة، نجحت المحاولة الأخيرة بحمل 3 توائم، وتقرر على أساس ذلك أن تكون ولادتها في الضفة الغربية، بسبب ضعف النظام الصحي في قطاع غزة، وبعد التنسيق حُوّلت إلى مستشفى ابن سينا التخصصي في مدينة جنين.
تقول هدى “كان حملي صعبا. خصوصا بعد محاولات كثيرة للزراعة، وتعرضي لخطر الإجهاض لأن بنية جسمي لم تتحمل الوزن الثقيل في الحمل. ولأن مستشفيات غزة كانت تعاني من ضعف عام مع استمرار الحصار المفروض منذ سنوات طويلة على القطاع، حولوني إلى جنين وهنا وضعت توائمي في الشهر السابع، كانوا بحاجة لدخول الحضانة لمدة شهرين”.
فرحة منقوصة
وخلال مدة علاج مواليد هدى في الحضانة كانت الحرب على غزة قد بدأت وأصبح من المستحيل عودتها مع أطفالها ووالدة زوجها إلى بيتها في خان يونس. تقول إن المستشفى تحول إلى بيتها، وكل أحلامها التي بنتها في مخيلتها طوال شهور حملها بأن تعود إلى غزة مع أطفال طال انتظارهم، وأن يتم استقبالهم في غرفة خاصة، ومع احتفال كبير، كل ذلك تبخر وأصبح همها الوحيد أن يبقى زوجها في غزة على قيد الحياة لرؤية أطفاله.
“زوجي كان يحلم أن يرى أطفاله، بعد 13 عاما من دون أولاد، كان ينتظر عودتنا بفارغ الصبر، وكنا قد جهزنا كل شيء لموعد عودتنا معهم إلى المنزل. قُصف المنزل وهُجرت العائلة ومُنعنا نحن من العودة، لا أمل في عودتنا حتى الآن ولا يوجد أي طريقة. أصبح عمر أطفالي 4 أشهر ونحن نعيش في غرفة في المستشفى”. تقول أبو يونس.
وفي القسم ذاته من المستشفى تعيش أفنان أبو عيسى وأطفالها الثلاثة وقريبتها منذ أكثر من 6 أشهر بدون أي أمل في حل قريب لحالتهم، التي تشبه إلى حد كبير قصة هدى أبو يونس.
كان موعد ولادة أفنان في مستشفى ابن سينا أواخر يوليو/تموز الماضي، وقبل بداية الحرب على غزة بـ3 أشهر، حيث أدخل أطفالها الثلاثة إلى الحضانة وتقرر موعد خروجهم من المستشفى بعد استقرار حالتهم فجر الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الماضي؛ أي مع اليوم الأول للحرب.
“تم تحويلي إلى جنين لإدخال توائمي حضانة متطورة والتي لا يتوفر مثلها في مستشفيات القطاع، وبعد استقرار حالتهم الصحية، سمحوا لنا بالمغادرة لكن على الجانب الآخر توقف التنسيق لوصولنا إلى معبر إيرز العسكري بسبب بدء العدوان على غزة”. تقول أبو عيسى.
وتضيف “رزقني الله بولدين وبنت بعد 7 سنوات من الحرمان، كانت فرحتي لا توصف، وكان زوجي وأهلي في انتظار خروجهم من الحضانة سالمين لنتمكن من العودة إلى المنزل، لكن اليوم يتم أطفالي 6 أشهر وزوجي لا يعلم عنهم شيئا، حتى لا يعرف كيف هي أشكالهم”.
تحول المستشفى لمنزل
وتصف قريبة أبو عيسى السيدة صباح 60 عاما حياتهم بالصعبة جدا، فهم يقيمون في المستشفى منذ 6 أشهر ولا يغادرونه أبدا، ولا يوجد تواصل مع عائلتهم بغزة، فحتى الاتصالات الشحيحة إن توفرت تكون مكالمة صوتية قصيرة ومن دون فيديو بسبب انقطاع الكهرباء والإنترنت في غزة.
“والدهم لم ير صورهم منذ بداية الحرب، نحن نتحدث عن قرابة الأربعة أشهر، كيف يتحمل أب انتظر 7 سنوات ليكون عنده أطفال ألا يرى صور أطفاله 4 أشهر، وألا يراقب نموهم، وتطورهم الحركي والحسي، نحن نعيش طوال الوقت على أعصابنا، لا يوجد اتصال لنطمئن عليهم، ولا يوجد طريقة لنرجع إلى غزة، أنا أدعو الله ليل نهار أن تتوقف الحرب ويلتئم شملنا”، تقول السيدة صباح.
وتضيف “نحن سكان مخيم البريج، منازلنا كلها تدمرت، ورحلت عائلاتها وتفرقت. بعضهم رحل إلى الجنوب وبعضهم بقي في البريج ونحن هنا، في جنين، تقطعت بنا السبل كثيرا، هذا عدا عن العيش في المستشفى لهذه المدة الطويلة”.
ومع مرور 100 يوم على العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، تزداد أوضاع المرضى الغزيين الموجودين في مستشفيات الضفة الغربية سوءا، بعد وقف التنسيق مع الارتباط الفلسطيني لتسهيل عودتهم إلى أهلهم في غزة، واضطرارهم للبقاء في المشافي لحين وقف الحرب. ويضم مستشفى ابن سينا في جنين قرابة 15 عائلة من مناطق مختلفة من القطاع، يعيشون في غرف في الأقسام المختلفة للمستشفى.
وتختلف معاناة كل أسرة منهم باختلاف سبب وجودها في جنين لكنهم يشتركون في تفاصيل يومية كثيرة أهمها بعدهم عن أهلهم وحرمانهم من التواصل معهم، وعدم مقدرتهم على ترك المستشفى لصعوبة توفر مأوى آخر.
غزة المصغّرة
تقول ميساء صافي 30 عاما “أنا أم لـ3 أطفال تركتهم في غزة وأتيت مع طفلتي أرجوان التي تعاني من نزيف في المعدة لإجراء عملية جراحية لها، وكنت حاملا في الشهر الثامن. وخلال وجودي هنا تدهور وضعي الصحي وأصبت بتسمم الحمل، واضطر الأطباء لإجراء عملية قيصرية لي قبل أن تنتهي شهور حملي ووضعت طفلي معمر، واليوم أنا مع طفلين هنا في جنين يعانون من أمراض معقدة وبقية أولادي في غزة”.
وكانت صافي قد قدمت مع طفلتها المصابة بنقص الأكسجين منذ الولادة وتعالج بشكل دوري في مستشفى ابن سينا لإجراء عمليات في المعدة لوقف نزيف متكرر فيها. لكنها علقت في المستشفى مع طفلتها أرجوان ومولودها الجديد معمر.
تبكي صافي وهي تتحدث عن أطفالها الثلاثة الذين تركتهم مع والدهم في غزة، وتقول إن من أصعب الأمور على أي أم أن تبتعد عن أطفالها طوال هذه الأشهر، خصوصا أنهم بحاجتها في أدق تفاصيل حياتهم.
وتضيف “في آخر مكالمة بيني وبينهم منذ حوالي أسبوع، قالت لي ابنتي التي تبلغ من العمر 5 أعوام “ماما ليش تركتينا ورحتي؟ أنت رح ترجعي أكيد؟”، كان سؤالها قاسيا جدا على قلبي، اشتقت لهم، وطوال الوقت أخاف أن يصلني أي خبر عن تعرضهم للقصف أو فقدانهم، نحن نعيش أياما صعبة، بعدنا عنهم قاس جدا والحرب تطول مع الأسف”.
وترى العائلات الغزية التي تقيم بشكل إجباري في مستشفى ابن سينا التخصصي في جنين أن ما يخفف عن كل واحد منهم شوقه لأهله وخوفه عليهم هو وجودهم مع بعضهم، ومساندتهم لبعضهم البعض، في حين يقولون إن ما تمر به جنين من اقتحامات ليلية وتدمير للمباني والطرقات، وقصف بالطائرات المسيّرة، يشعرهم أنها غزة المصغرة.