عبّرت حماس في أكثر من موضع عن إدراك دقيق ومسبق بطبيعة التحولات في المجتمع الإسرائيلي والسياسة الإسرائيلية، فالمجتمع يميل نحو اليمين المتطرف بشكل متسارع، وبدأت مؤسسات إسرائيل العسكرية والسياسية تأخذ تدريجيا سمة المجتمع المتطرف.
وفي ظل هذا المشهد، ترعى الولايات المتحدة مسار تطبيع العلاقات السعودية مع إسرائيل، وهو تحول جيوسياسي كبير سيؤدي إلى تجاوز القضية الفلسطينية وترك مصير الفلسطينيين تحت تصرف حكومة نتنياهو المتطرفة. وتعمل الولايات المتحدة على دمج إسرائيل في المنطقة وبناء نظام إقليمي جديد، بالموازاة يواصل مسار التطبيع طريقه دون عقبات كبيرة، ويأخذ موضعه في البيئة السياسية للمنطقة بما له من تأثير على الموقف العربي والإسلامي من إسرائيل.
في مواجهة ذلك، كان لدى الفلسطينيين خيارات محدودة لمنع تصفية القضية وحسم الصراع لصالح إسرائيل، والتصدي لمسار دمج إسرائيل في المنطقة، ومنحها وضعية قيادتها وتقرير مصيرها. والخيار الأكثر فاعلية هو المقاومة العسكرية من غزة، والتي صممت شكل المعركة الحالية كي تعطل مسارات تصفية القضية وتجاوز الفلسطينيين عبر مسارات محلية وإقليمية ودولية.
ما خطر الحكومة المتطرفة الحالية؟
تضم الحكومة الإسرائيلية الحالية أحزابا يمينية دينية قومية متطرفة، ولهذه الأحزاب برنامج أيديولوجي ديني يتعلق بتهويد القدس والسيطرة عليها بشكل كامل وهدم المسجد الأقصى أو إجراء تغييرات حقيقية على وضعه، ولم يعد هذا البرنامج يمثل شعارات لمجموعات سياسية ودينية معزولة في المجتمع الإسرائيلي، بل أصبح برنامجا تتبناه الحكومة وتقرر له ميزانيات وأدوات.
فزعيم التيار الديني سموتريتش هو اليوم وزير المالية، ووزير في وزارة الدفاع، وله صلاحيات شبه مطلقة في الضفة الغربية، وهو في نفس الوقت زعيم مجموعات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية كفتيان التلال وغيرهم، وهم يكونون مليشيا شبه عسكرية يمكن أن تشكل تهديدا حقيقيا في الضفة الغربية وتنفذ برنامجها بشكل مستقل، كما أن لدى سموتريتش برنامجا للسيطرة على الضفة ومضاعفة عدد المستوطنين فيها وطرد الفلسطينيين من أراضيهم، وقد عبر عن رؤيته للصراع عبر مؤلفات ومقالات عديدة نشرها منذ بداية بروزه كزعيم استيطاني متطرف.
في الوقت ذاته، يرأس الوزير المتطرف إيتمار بن غفير وزارة الأمن الداخلي، وله صلاحيات تتعلق بالقدس وبفلسطينيي الداخل المحتل عام 1948، وبالأسرى في سجون الاحتلال، وهو يوظف صلاحياته لتحقيق برنامج متعلق بطرد فلسطينيي الداخل وفلسطينيي شرق القدس من أراضيهم وبيوتهم، وقد استطاع في ظل قدرته على ابتزاز نتنياهو تشكيل ما يسمى الحرس الوطني، وهو جهاز فوق شرطي يرتبط به بشكل مباشر، وسيسيطر عليه متطرفون من حلفائه في المنظومة الأمنية والعسكرية.
ونظرا لكون نتنياهو لا يملك سوا البقاء في الحكومة والتحالف مع هذه المجموعات المتطرفة، في ظل ما يواجهه من قضايا فساد وانقسام سياسي حاد، فإنه يمنح حلفاءه المتطرفين كل ما يرغبون فيه، من أجل ضمان تماسك حكومته، حصنه الأخير قبل ذهابه للسجن، وعليه، فإن مسار تصفية القضية الفلسطينية على يد هذه الحكومة هو برنامج حقيقي وله خطط عمل حكومية.
ما هي الخيارات الإسرائيلية؟
وضع الهجوم الباغت لحماس دولة الاحتلال الإسرائيلي في مأزق من الخيارات المتاحة، فالخيارات العسكرية الإسرائيلية باتت تقليدية، وسبق تجريبها مرارا دون أن تحدث فارقا في المعضلة التي تواجهها مع المقاومة في قطاع غزة، فالهجمات الجوية بالطائرات والقصف المدفعي قد تكون قادرة على إلحاق أضرار في البنية التحتية والمباني في قطاع غزة، ولكن الاحتلال يدرك أن هذا لن يجدي نفعا في دفع حماس للتراجع.
لكن الحكومة الإسرائيلية ستعمد في كل الأحوال لهذا الخيار ابتداءً، نظرا لحاجتها لاستعادة صورتها وثقة الجمهور بالجيش والمنظومة الأمنية، اللذين تعرضا لضربة كبيرة سيكون لها تداعيات على ثقة الأطراف الدولية والجمهور الإسرائيلي.
أما الخيارات الأخرى المتاحة فتتعلق بعمليات برية جزئية أو شاملة ضد قطاع غزة، إلا أن ذلك يعتريه جملة من التحديات؛ أبرزها العدد الكبير من الأسرى الذين استطاعت حماس جلبهم إلى قطاع غزة، وهم حسب تقديرات أولية بالمئات، وهو ما سيعرضهم لخطر كبير قد لا تستطيع حكومة دولة الاحتلال الإسرائيلي تبريره.
وثاني تحديات العمليات البرية أن جيش الاحتلال الإسرائيلي سيعمل في مناطق سكنية مكتظة، وسيسبب ذلك ضحايا بين المدنيين يصعب تحمله على صعيد المجتمع الدولي، مما ينقل الإدانة الدولية ضد دولة الاحتلال وربما الولايات المتحدة، التي تعلن عن دعمها لإسرائيل وتسعى لإرسال مساعدات عسكرية.
وإن كان الأداء القتالي النوعي الذي ظهرت به حماس في هجومها على المواقع العسكرية والمستوطنات في محيط قطاع غزة سيوضع في حسبان صانع القرار العسكري والسياسي لدى إسرائيل، فإن الخسائر البشرية الكبيرة، والتي بلغت حصيلتها في اليوم الثاني من العملية أكثر من 700 قتيل و 2500 مصاب بالإضافة للأسرى، قد تقلل بدورها من تخوف صناع القرار الإسرائيلي.
احتماليات التصعيد
تصاعد الأحداث في غزة والإقبال الإسرائيلي على ارتكاب مجازر ضد السكان، قد يدفع أطرافا أخرى للانخراط في المواجهة، وهو الأمر الذي بدأت إرهاصاته برسالة حزب الله باستهدافه مواقع عسكرية إسرائيلية في مزارع شبعا، وتصريحات رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله، الشيخ صفي الدين، أن الحزب لا يقف على الحياد في هذه المواجهة.
ومما يعزز التخوف من هذا الاحتمال التصريحات الأميركية منذ اللحظات الأولى، والتي جاءت على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن، أن واشنطن تحذر من استغلال الوضع الذي تمر به إسرائيل من قبل أطراف أخرى، يقصد بها على وجه التحديد حزب الله، وهو ما عاد وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن للتعبير عنه بكل وضوح، وذكر حزب الله على وجه الخصوص.
يأتي هذا التصعيد في المنطقة على خلاف الرغبة الشديدة لإدارة بايدن منذ توليها الحكم في واشنطن، فهي سعت وبذلت جهودا كبيرة لاستقرار المنطقة ومنع اندلاع صراعات فيها، نظرا لحاجتها التركيز على الصراع في روسيا، وإعادة ضبط إستراتيجيتها الدولية في الشرق الأوسط، في سياق تنافسها المحموم مع الصين ورغبتها في تكريس قيادتها الدولية.
تعقد هذه التحديات من خيارات دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي أخرجت خيار الاجتياح البري من تفكيرها الإستراتيجي للتعامل مع غزة بعد حرب عام 2014، وجنحت بدلا من ذلك لخيارات احتواء غزة، وتنفيذ إستراتيجية المعركة بين الحروب، والتي تستند على الجهد العسكري الجوي.
وعليه، فإن وضع خيار العمليات البرية ضد غزة سيكون بمثابة مقامرة كبيرة لجيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي أظهر هشاشة غير مسبوقة في أدائه الاستخباري والعملياتي، كما تثبت التجربة مع نتنياهو أنه يميل للحذر في التعامل مع مثل هذه النوع من التحديات، وسيكثف جهده للوصول للوضع السابق، ما قبل السابع من أكتوبر، من خلال محاولة التنسيق مع الولايات المتحدة ومصر وقطر، للتأثير على حماس للقبول بوقف لإطلاق النار.
ماذا كسب الفلسطينيون حتى الآن؟
حتى اللحظة، استطاعت حماس أن تقلب الطاولة في الوضع الفلسطيني وفي المنطقة برمتها، وأن تؤكد صعوبة تجاوز الفلسطينيين في أي محاولة لتصفية قضيتهم، كما تؤكد حماس على ريادتها في البيئة السياسية الفلسطينية وأنها تكرس قدراتها العسكرية والسياسية في مواجهة التحديات الكبرى التي تواجه الفلسطينيين، على مستوى المساس بالمقدسات واستفراد الجيش والمستوطنين بالضفة الغربية.
إن تمكن حماس من أسر هذا العدد الكبير من الجنود والمستوطنين سيجعل لها اليد العليا في تحرير الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، الأمر الذي سيعزز من مكانتها وشعبيتها بشكل شبه مطلق، في ظل تراجع كبير للسلطة الفلسطينية التي تعاني انسدادا مطبقا في مشروعها السياسي الذي لم يتبقَ منه شيء، وتراجع في شعبيتها في الضفة الغربية.
إن مشاريع التطبيع مع دول عربية وازنة وإسرائيل تحتل بلا شك مكانة في عقل حماس، وهي حريصة على تعطيل هذا المسار، أو في الحد الأدنى منع تداعياته من الإضرار بالقضية الفلسطينية.
نجحت حماس في دفع جميع الأطراف لإعادة حساباتها، ووجهت صفعة كبيرة لإسرائيل، وكسرت صورتها في تصورات صناع القرار الدوليين والإقليميين، ومن المتوقع أن يكون لذلك تداعيات داخل إسرائيل نفسها وفي المنطقة وعلى مسارات التطبيع، ولا تزال المعركة في غزة وما حولها في بدايتها ولم تأخذ شكلها النهائي المفتوح على احتمالات عديدة.