موسكو- عاد الحديث عن الأزمة الديموغرافية مجددًا إلى التداول على المستويات الرسمية والأكاديمية والشعبية في روسيا، وسط دعوات بضرورة الإسراع في اتخاذ إجراءات طارئة لمواجهة هذا التحدي الخطير والأزمة الممتدة لأكثر من قرن.
وتعرّف الأزمة الديموغرافية في روسيا بأنها “الانخفاض في تكاثر السكان وما يترتب عليه من عواقب متوقعة” وتتمحور ملامحها الرئيسية حول الحجم الكبير للانخفاض السكاني نتيجة ارتفاع عدد الوفيات وانخفاض معدل المواليد، وانتشار ظاهرة أسرة الطفل الواحد التي تمنع تكاثر السكان.
وبمقدار التباعد الروسي عن مبادئ الليبرالية الغربية، تعالت الأصوات لجهة إيجاد حلول “محلية” للوضع الصعب فيما يتعلق بمعدل الولادات، ووضع إستراتيجية “روسية خالصة” لكن الصوت الطاغي في البلاد يطالب باستخدام التوجهات الغربية كأساس للسياسة الديموغرافية.
أرقام تحذيرية
وفقًا لهيئة الإحصاءات الروسية، بلغ عدد سكان روسيا اعتبارًا من بداية العام الجاري نحو 146.15 مليونًا، في حين بلغ الرقم 146.44 مطلع يناير/كانون الثاني 2023.
وكانت روسيا قد فقدت عام 2022 وحده نحو 600 ألف شخص، وفي ذروة وباء كورونا فقدت أيضا أكثر من مليون نسمة، ويحذر خبراء من أنه في حال لم يتم اتخاذ تدابير فعالة لزيادة معدل المواليد، فمن المتوقع أن ينخفض سكان البلاد بحلول عام 2035 بمقدار 8 ملايين شخص آخر.
وبحسب توقعات الأمم المتحدة، إذا استمرت هذه الوتيرة على حالها، سينخفض عدد الروس إلى 112.2 مليون شخص بحلول عام 2100. أما السلطات فترجح أن يستمر عدد الولادات في الانخفاض الفترة ما بين عامي 2023 و2026، بينما يرى مختصون إن هذه الأرقام تمثل صدى للفجوة الديموغرافية التي حدثت في التسعينيات.
وتشير حسابات هيئة الاحصاءات الروسية أنه بحلول الأول من يناير/كانون ثاني 2046 سيبلغ عدد السكان 138.8 مليون نسمة، وسيقل إجمالي انخفاضها السنوي بأكثر من النصف، أي من حوالي 370 ألف شخص عام 2023 إلى نحو 180 ألفًا عام 2045، كما تقدر الهيئة أن معدل المواليد سينخفض من عام 2023 إلى 2027، لكنه سيبدأ في الزيادة اعتبارًا من 2028.
حلول هجينة
ووفقًا لما يقوله الباحث في الدراسات الاجتماعية فلاديمير كوشول، يجب على الدولة وبشكل عاجل زيادة معدل المواليد بين السكان الأصليين، ووقف تدفقهم إلى الخارج، وتشكيل رؤية مشتركة للمستقبل لكل من السكان الأساسيين والمهاجرين.
ويقول للجزيرة نت إنه يمكن مضاعفة معدل المواليد من خلال الجمع بين الدعم المالي وتوجيه الأسر الشابة نحو قيم إنجاب الأطفال، مذكرا بضرورة الاهتمام بتكريس القيم الأسرية وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وصياغة فكرة وطنية موحدة تعيد توجيه الأسر الشابة نحو إنجاب الأطفال وتحفيزها بامتيازات اقتصادية، كالمساعدة في حل قضايا الإسكان وزيادة المدفوعات لكل طفل لاحق.
ويعتبر الباحث أن الحفاظ على نفس المستوى السكاني الموجود حاليًا يتطلب الوصول لمعدل خصوبة إجمالي يبلغ حوالي 2.1 مولود لكل امرأة، لكنه يوضح أن معدل المواليد حاليا لا يصل إلى هذا المستوى.
وتعترف إيلينا خيفيتس، نائبة رئيس قسم الاقتصاد والتنمية الاجتماعية في “مركز البحوث الإستراتيجية”، بوجود انخفاض في عدد السكان مع انخفاض معتدل نسبيًا في معدل المواليد. ووفقا لها، فإن التدابير المقترحة -وخاصة للعائلات الكبيرة- تأتي في الوقت المناسب، ومن شأنها مواجهة التحديات الديموغرافية.
وترى أن التركيز على هذه الفئة خطوة في الاتجاه الصحيح، لأن “خطر الفقر بالنسبة للأسر التي لديها أطفال يتجاوز بشكل كبير خطر تلك التي ليس لديها أطفال، وأكثر من 90% من إجمالي السكان الفقراء يعيشون مع أطفال قاصرين”.
العودة إلى القيم
من جانبه يرى الخبير في قضايا الديموغرافيا ألكسي شيرباكوف أهمية استعادة مؤسسة الأسرة، مشيرًا إلى أن الأزواج الشباب يتمتعون بمستوى عالٍ من الحافز لإنجاب الأطفال بالسنوات الأولى من الزواج، لكن خلال هذه الفترة نفسها غالبًا ما يواجهون الاختيار بين المهنة والدخل من ناحية، والرغبة في إنجاب الأطفال من ناحية أخرى.
وفي الوقت نفسه، يعتبر هذا الخبير أن السلوك الزوجي والإنجابي يعتمد على عدة عوامل، كالتوجه القيمي نحو الأسرة وإنجاب الأطفال، وصحة الوالدين، والظروف الاجتماعية والاقتصادية.
ويوضح أنه مع وجود سياسة ديموغرافية مختصة يصبح من الممكن “إعادة إنتاج السكان” أي الحفاظ على حجمهم الحالي، لأن ضمان التكاثر البسيط للسكان لا يمكن تحقيقه إلا مع زيادة كبيرة في عدد الأسر الكبيرة، حسب قوله.
ويشير في حديثه إلى الأسباب الأكثر شيوعا لرفض إنجاب الأطفال في الأسر الكبيرة، كالمعيشة الضيقة وانخفاض الدخل، وزيادة التكاليف عند اتخاذ قرار بإنجاب كل طفل لاحق.
ويوضح الخبير أنه في الفترة ما بين عامي 2007 و2016 تم تعديل “رأسمال الأمومة” في حال إنجاب طفلين أو أكثر، مع وضع تسهيلات لمعالجة مشكلة السكن، حيث حدثت زيادة كبيرة خلال هذه الفترة في حالات ولادة الطفل الثاني والأول.
ويسمّى “رأسمال الأمومة” أحيانًا “رأسمال الأسرة” وهو مقياس دعم الدولة للعائلات التي تربي أطفالا. ويقدم هذا الدعم عند ولادة أو تبني طفل يحمل الجنسية الروسية، وهو برنامج حكومي تم إطلاقه عام 2007 لزيادة معدل المواليد.
ويذكر الخبير ألكسي شيرباكوف أنه -عام 2019- تم اعتماد قانون لدعم الدولة للأسر في سداد التزامات الرهن العقاري، الأمر الذي كان له تأثير جيد على ولادة الطفل الثالث.
لكنه يشير إلى أن دعم الدولة بشكله الحالي ينتهي تأثيره عند الطفل الثالث، ومن الواضح أن الدعم غير كافٍ لولادة الطفل الرابع وما بعده، وهو دعم شبه غائب تقريبًا في كثير من الأقاليم.