طرطوس – تشهد السواحل السورية مؤخرا نشاطا متزايدا في رحلات الهجرة غير النظامية لعشرات المهاجرين عبر قوارب تنطلق من سواحل مدينتي طرطوس واللاذقية باتجاه منطقة كاب غريكو جنوبي شرقي قبرص.
وأشار تقرير حديث لصحيفة “فيلي نيوز” القبرصية إلى أن واحدا من كل اثنين من المهاجرين غير النظاميين الذين وصلوا إلى قبرص هذا العام جاء من سوريا، مقارنة بواحد من كل 4 العام الماضي.
وبلغت نسبة السوريين من إجمالي طالبي اللجوء في قبرص لهذا العام 53% مقارنة بنسبة 23% في العام الماضي، بحسب البيانات الصادرة عن دائرة الهجرة والأجانب التابعة للشرطة القبرصية.
وتشكل سواحل محافظة طرطوس محطة الانطلاق المفضلة لدى المهربين والمهاجرين على حد سواء، ذلك لقربها من الجزيرة المتوسطية (200 كيلومتر) وانخفاض مستوى التشديد الأمني على القوارب وحركة الملاحة مقارنة بمحافظة اللاذقية.
ويعاني السوريون في مناطق سيطرة النظام من أسوأ واقع معيشي منذ بداية الحرب في البلاد قبل نحو 12 عاما، ويعيش نحو 90% منهم تحت خط الفقر منذ عام 2012، مما يدفع بالكثير منهم إلى المخاطرة بحياتهم في رحلات هجرة غير نظامية عبر البحر الأبيض المتوسط لتحقيق الأمل في حياة كريمة بعيدا عن بؤس الواقع المعاش في بلدهم.
تكلفة عالية لرحلة غير آمنة
تركز حركة الهجرة غير النظامية من سوريا إلى قبرص على السواحل النائية الممتدة من مدينة طرطوس إلى مدينة بانياس (شمالي طرطوس)، حيث يتم نقل العشرات على متن مراكب صيد خشبية غير صالحة لنقل البشر أو الإبحار لمسافات طويلة، مما يهدد حياة المهاجرين.
ويقول “أبو جعفر” -مهرب من طرطوس- في حديث للجزيرة نت إن “المهاجرين على متن رحلاته يتوافدون من مختلف أنحاء سوريا، لكن الأكثرية هم من أبناء المدن الساحلية (طرطوس واللاذقية)”.
وعن الإجراءات المتبعة لتسيير الرحلات، يشير أبو جعفر إلى أن الركاب يتجمعون أولا في شقق أو فنادق قريبة من نقطة الانطلاق بانتظار اكتمال العدد المقرر للرحلة، وبعد أن تصبح الأحوال الجوية ملائمة لتسيير القارب ويكتمل العدد، يُجمع المسافرون بالقرب من نقطة الانطلاق، ويتم أخذ المبالغ المالية منهم وتزويدهم بستر نجاة، بعدها تحين لحظة الانطلاق.
ويضيف أبو جعفر “أنفذ رحلتين أو أكثر أسبوعيا حسب حالة الطقس، وتكلفة الرحلة للشخص البالغ هي 3500 دولار، وللطفل 2000 دولار، ويصل الركاب إلى الجزيرة -إذا كان الطقس مستقرا- خلال 6 ساعات على أبعد تقدير”.
وعن الارتفاع النسبي لأسعار تلك الرحلات، يقول عمران (37 عاما)، وهو صحفي وناشط حقوقي من مدينة طرطوس، للجزيرة نت إن “معظم المهربين هم جزء من شبكات تهريب تنشط تحت غطاء أمني يوفر الحماية لهؤلاء المهربين مقابل مبالغ مالية كبيرة تدفع للمتنفذين، مما يؤدي إلى ارتفاع أسعار تلك الرحلات”.
وعلى الرغم من تأكيد أبي جعفر أن عدد المهاجرين على متن قواربه لا يتجاوز الـ25 راكبا في كل رحلة، فإن مهاجرين وصلوا إلى قبرص أفادوا بأن أعداد الركاب على متن القارب تبلغ في بعض الأحيان 60 راكبا في قارب بالكاد يسع 15 راكبا.
وتنطلق هذه القوارب بقيادة وإشراف أحد المهاجرين (يعفى من الدفع) ممن يملكون خبرة في شؤون الملاحة، أو ممن يتلقون إرشادات وتعليمات من المهربين لقيادة الرحلة بعد أن يضع المهرب للقوارب الخشبية أو المطاطية محركا إضافيا، وتصل معظم القوارب إلى ساحل منطقة كاب غريكو جنوبي شرقي قبرص.
أوجه المعاناة
ويواجه المهاجرون واللاجئون السوريون في قبرص ظروفا معيشية وإنسانية صعبة مع تردي الخدمات في مراكز الاستقبال الخاصة بهم، وتأخر البت في طلبات لجوئهم إلى شهور طويلة، وقلة فرص العمل، وتنامي العنصرية في البلاد ضدهم مؤخرا.
ويقول جهاد رحال (28 عاما)، وهو عامل بناء سوري ومهاجر وصل على متن قارب من بانياس إلى قبرص، للجزيرة نت “لقد غادرت سوريا باتجاه قبرص على متن قارب مع نحو 40 شخصا آخرين، وكان معظمنا من الشباب، وكانت رحلتنا يسيرة، فوصلنا للجزيرة بعد 7 ساعات، ومن هناك تم نقلنا إلى مركز قرب العاصمة القبرصية نيقوسيا حيث سجلوا معلوماتنا، وقدمت هناك طلب حماية للحصول على حق اللجوء”.
ولم تبدأ المعاناة الفعلية لجهاد إلا بعد خروجه من مركز الاستقبال، إذ أمضى الشاب العشريني 7 شهور في قبرص دون أن يتمكن من الحصول على وظيفة، قبل أن يتمكن مؤخرا من العمل في مخبز بالقرب من مكان إقامته، ويقول “إن جهلي بالإنجليزية ولغة البلد جعلاني عاجزا عن العمل لوقت طويل، كما أن مكان إقامتي بعيد عن المدن الحيوية مما كان سببا مضافا في معاناتي، وفي العموم فإن فرص العمل للاجئين هنا شبه معدومة”.
ويتابع “ولو لم يستقبلني أقربائي في منزلهم لكنت اليوم أنام في الشارع كحال الكثير من اللاجئين السوريين الذين أعرفهم في قبرص”.
ويعاني اللاجئون والمهاجرون غير النظاميين في قبرص من أزمة سكن تضطرهم إلى المبيت في الأماكن العامة أو المهجورة نتيجة لارتفاع إيجارات الشقق السكنية وعدم امتلاكهم مصدر دخل ثابت.
وكانت الشرطة القبرصية أخلت في أغسطس/آب الماضي مجمعا سكنيا مهجورا اتخذه اللاجئون مسكنا لهم بعد احتجاج أهالي المنطقة على وجودهم فيه، وتم إخلاء المجمع من 600 لاجئ ظلوا بلا مسكن.
وإلى جانب قلة فرص العمل وصعوبات السكن، يعاني جهاد وغيره من اللاجئين والمهاجرين السوريين إلى قبرص من البطء الشديد في سير معاملات اللجوء التي تدور في دهاليز البيروقراطية القبرصية أشهرا طويلة قبل أن يتم البت فيها.
يقول جهاد “رغم تقديمي جميع الأوراق والمعلومات المطلوبة للسلطات، فإني لا أزال بانتظار موعد مكتب إدارة الهجرة منذ 7 شهور تقريبا، فحتى اليوم لم يصلني منهم أي رد، وعلمت من أقربائي هنا أني قد أضطر إلى الانتظار مدة طويلة للحصول على الإقامة المؤقتة، وربما تتجاوز هذه الفترة ثلاث سنوات، لكني آمل أن أنجح فيما بعد في السفر إلى أوروبا أو لمّ شمل زوجتي وأولادي”.
وفضلا عن ذلك، يواجه اللاجئون في قبرص عنصرية متصاعدة ضدهم بدعم من بعض الكيانات السياسية في البلاد، حيث شهدت قبرص في سبتمبر/أيلول الماضي مظاهرة حاشدة رفع المتظاهرون فيها شعار “اللاجئون غير مرحب بهم”.
واقع أشد مأساوية
وعلى الرغم من سوء أوضاع اللاجئين في قبرص، فإنها تبقى “أفضل ألف مرة مما نعيشه هنا في سوريا”، وفقما تقول بيسان (25 عاما)، وهي أم سورية لطفلين تعيش في ريف دمشق.
وتضيف بيسان في حديث للجزيرة نت “لم نعد وزوجي قادرين على تأمين قوت يومنا، فما بالك بحفاظات الأطفال وعلاجهم والتدفئة والحاجات اليومية التي أصبح ثمنها يقصم الظهر؟”.
وتؤيد بيسان قرار زوجها اللحاق بركب من يهاجرون عن طريق طرطوس إلى قبرص، وتقول “إنْ سافر زوجي إلى هناك، فمن الممكن أن يجد عملا وأن يرسل لنا ما نحتاج إليه للبقاء على قيد الحياة، ولكنه إن بقي هنا فإننا سنموت جوعا عاجلا أم آجلا”.
وإلى جانب عائلة بيسان، تعاني العائلات السورية في مناطق سيطرة النظام من واقع معيشي وخدمي هو الأشد بؤسا منذ اندلاع الأزمة في البلاد قبل 12 عاما.
فمع الانهيار المستمر لسعر صرف الليرة أمام العملات الأجنبية (دولار واحد = 14 ألف ليرة)، وانخفاض القدرة الشرائية لرواتب الموظفين في القطاعين العام والخاص بمتوسط رواتب لا يتعدى 175 ألف ليرة (12.5 دولارا)، والغلاء المستمر في أسعار السلع الأساسية، يواجه السوريون واقعا مأساويا يصعب التعايش معه أو التحايل عليه.
كما يضطر آلاف الشبان السوريين المطلوبين لتأدية الخدمة العسكرية في مناطق سيطرة النظام إلى البحث عن سبل للهجرة خارج البلاد، وتغدو قبرص خيارا مناسبا مع تشديد تركيا ولبنان الإجراءات الأمنية على حدوديهما لضمان توقف تدفق اللاجئين السوريين.
ووفقا للأرقام الرسمية القبرصية، فقد ازداد عدد الوافدين إلى قبرص بنسبة 60% في الأشهر الخمسة الأولى من العام 2023 مقارنة بالعام الماضي.
ورغم ذلك، قال وزير الداخلية القبرصي كونستانتينوس يوانو، مؤخرا في تصريح لوسائل إعلام قبرصية، إن حكومته لا تنوي ترحيل السوريين بسبب “الوضع المتفجر” في بلدهم.
ولكنه أشار إلى أنه إذا تم اعتبار بعض المناطق في الدولة المجاورة آمنة، فسيفتح الطريق لعودة المهاجرين غير النظاميين إلى سوريا.
وكانت المفوضية السامية للأمم المتحدة قد قالت في تقرير لها، نشر في النصف الأول من العام الجاري، إن عدد اللاجئين السوريين لا يزال الأكبر على الصعيد العالمي، إذ يتوزع 6.5 ملايين لاجئ سوري على 130 دولة حول العالم.