في يونيو/حزيران الماضي، وقبل ثلاثة أشهر من اغتياله بغارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت، ظهر الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله في خطاب توجه خلاله بتحذير غير تقليدي، ليس إلى إسرائيل أو إلى الولايات المتحدة كما هو معتاد، ولكن إلى قبرص، الدولة الجزرية في قلب المتوسط، وقال نصر الله في خطابه إن “فتح المطارات والقواعد القبرصية للعدو الإسرائيلي لاستهداف لبنان يعني أن الحكومة القبرصية أصبحت جزءا من الحرب، وستتعاطى معها المقاومة على أنها جزء من الحرب”.
سريعا نفى الرئيس القبرصي، نيكوس خريستودوليديس، تورط بلاده في الحرب، واصفا اتهامات حزب الله بأنها “غير لطيفة”، ومشيرا إلى أن جمهورية قبرص “جزء من الحل وليست جزءا من المشكلة”، حيث إنها أدّت دورا “اعترف به العالم العربي والمجتمع الدولي بأسره” في فتح ممر بحري يسمح بإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، في محاولة لتضخيم الدور “الإنساني” لبلاده في الصراع، والالتفاف على الاتهامات التي وجهها حسن نصر الله.
فناء إسرائيل الخلفي
وبغض النظر عن هذا السجال الكلامي، تُعبِّر تلك الاتهامات عن تحول كبير في النظرة إلى قبرص، من خصم تاريخي لإسرائيل إلى حليف لها. يشير جوزيف مسعد، أستاذ السياسة العربية الحديثة في جامعة كولومبيا الأميركية، إلى وجود أطماع تاريخية للحركة الصهيونية في قبرص، حيث أشاروا طويلا إلى المستعمرات العبرانية في الجزيرة (المعروفة باسم “كَفْريسيم”) بوصفها نموذجا للاستيطان المستقبلي. وكانت جماعة “البريطانيين-الإسرائيليين”، وهي جماعة بروتستانتية بريطانية تأسست عام 1874، من بين أكثر الجماعات حماسا لفكرة الاستيطان اليهودي في شرق المتوسط.
لتحقيق هذا الغرض، أنشأت الجماعة “صندوق الاستعمار السوري” أو “جمعية إغاثة اليهود المضطهدين في أوروبا الشرقية”، الذي نجح في شراء أراضٍ قريبة من فلسطين، وبدأت عملية إرسال المهاجرين اليهود إلى المستوطنات الجديدة. وبحلول عام 1883، أُنشئت أول مستعمرة يهودية في مدينة اللاذقية السورية، لكنها استمرت لمدة عام واحد فقط، حيث نُقِلَ المستوطنون اليهود في اللاذقية، إضافة إلى مجموعة جديدة من اليهود القادمين من روسيا، إلى قبرص لإنشاء مستعمرة في جنوب غرب الجزيرة التي استولت بريطانيا عليها، لكنَّ هؤلاء المستعمرين لم يتمكنوا من مواكبة متطلبات العمل الزراعي هناك، فقرّروا المغادرة سريعا.
لم تكن تلك التجربة القصيرة نهاية أحلام الصهيونية في قبرص، التي كانت موضع اهتمام ناشط يهودي ألماني يُدعى ديفيس تريتش، من رأى في الجزيرة فرصة لمستعمرة مستقبلية لليهود. وفي عام 1897، سافر تريتش لحضور المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل السويسرية، حيث التقى هناك ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية وعرض عليه فكرته، وبحلول المؤتمر الصهيوني الثالث عام 1899، ألقى تريتش خطابا دافع خلاله عن فكرة “فلسطين الكبرى”، معلنا أن استعمار قبرص سوف يكون جزءا من المشروع الصهيوني لاستيطان فلسطين وليس بديلا عنه.
وفق ذلك، أنشأت جمعية الاستعمار اليهودي مستعمرة في قبرص لليهود الروس على بُعد 14 كيلومترا من نيقوسيا، وكان عدد سكانها أقل من 200 شخص، لكنها تفككت بحلول عام 1927، حين اختار سكانها استعمار فلسطين بدلا من قبرص. وقبل ذلك، كانت قبرص أحد المقترحات التي قدمها وزير المستعمرات البريطاني جوزيف تشامبرلين للحركة الصهيونية، قبل أن يستقر بهم الحال على فلسطين.
نتيجة لهذا التاريخ المضطرب مع الحركة الصهيونية، والغرب ممثلا في الاستعمار البريطاني، انحاز القبارصة نسبيا إلى الفلسطينيين بوصفهم ضحايا لمشروع إحلالي كان يستهدف قبرص نفسها في مرحلة من تاريخه، رغم أن ذلك لم يمنع نيقوسيا من الاعتراف بإسرائيل (دون فتح سفارة في الأراضي المحتلة) عام 1960.
وقد انضمت نيقوسيا إلى حركة عدم الانحياز خلال مؤتمر القمة الأول للحركة في بلغراد عام 1961، وطوَّرت علاقاتها مع مصر في عهد جمال عبد الناصر، وصوَّتت ضد إسرائيل في قضية اللاجئين الفلسطينيين، ودافعت عن حق عودة الفلسطينيين أمام الأمم المتحدة.
وبشكل أكثر أهمية، افتتحت قبرص مكتبا تمثيليا لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1975، واستقبلت ممثلي الحركة على أرضها، وكان من الطبيعي أن تتوج هذه المواقف بالاعتراف بالدولة الفلسطينية بمجرد الإعلان عنها عام 1988. وقد أثارت هذه المواقف غضب إسرائيل في غير ما مناسبة، لدرجة أنها اعتبرت السيدة الأولى أندرولا فاسيليو، زوجة الرئيس القبرصي السابق جورج فاسيليو، شخصا غير مرغوب فيه في إسرائيل، عندما حاول وفد برئاستها مقابلة ياسر عرفات، رئيس السلطة الفلسطينية آنذاك، الذي وضعه الإسرائيليون قيد الإقامة الجبرية في رام الله عام 1993.
لكنَّ مياها كثيرة جرت في أنهار السياسة في المنطقة تسببت في تحول الموقف القبرصي تجاه إسرائيل من الخصومة إلى الصداقة. في البداية، وضع انضمام قبرص إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004 نيقوسيا رسميا في خانة التحالف الغربي المنحاز ضمنا وعلنا إلى إسرائيل، ما أجبر البلاد على تحويل بوصلتها، كما تسببت خلافات الطرفين (نيقوسيا وتل أبيب) مع تركيا في دفعهما إلى أحضان بعضهما بعضا. والأهم، ساهمت اكتشافات الغاز في البحر المتوسط في خلق مصلحة مشتركة حقيقية بينهما، ما دفعهما للاتفاق على ترسيم حدودهما الاقتصادية الخالصة، لتتحول قبرص تدريجيا إلى “فناء خلفي لإسرائيل”، بحسب وصف أحد الدبلوماسيين السابقين في نيقوسيا.
قاعدة عسكرية واسعة
أبعد من التقارب السياسي، والمنافع الاقتصادية المشتركة، انخرطت قبرص في علاقات عسكرية وثيقة مع إسرائيل تجاوز عمرها عقدا كاملا، وهذه العلاقات تحديدا هي ما دفعت نصر الله لتحذير قبرص علنا بشكل لا يقبل اللبس، حيث يُجري الجيش الإسرائيلي مناورات عسكرية منتظمة في الجزيرة منذ عام 2014، بعض هذه التدريبات يقتصر على عناصر من الجيش الإسرائيلي فقط، دون مشاركة القوات القبرصية، بمعنى أن نيقوسيا مجرد مُضيفة لهذه التدريبات.
الأهم من المناورات هو مضمون تلك المناورات التي تجريها إسرائيل في قبرص، وتحمل رسائل عدائية لا يمكن تجاهلها لأطراف إقليمية، مثلما كان الحال في مناورة “عربات النار” التي أقيمت في يونيو/حزيران 2022، وقام جيش الإسرائيلي خلالها بمحاكاة هجوم بريّ محتمل على معاقل حزب الله اللبناني، والتدريبات التي أجراها سلاح الجو الإسرائيلي في إبريل/نيسان الماضي (2024) بغرض محاكاة توجيه ضربة للأراضي الإيرانية وتنفيذ هجمات بعيدة المدى، وذلك في إطار استعداده لهجوم محتمل من إيران، ردًّا على الغارة الجوية التي شنها الاحتلال على سفارة إيران في دمشق في مطلع الشهر ذاته.
يطرح ذلك تساؤلا عن الفائدة المرجوة من أداء تلك المناورات المثيرة في قبرص، مع العلم بأن نيقوسيا لا تتمتع بمقومات أو خبرة عسكرية كبيرة، فهي لا تمتلك طائرات مقاتلة، وتقتصر قوتها الجوية على 20 مروحية، أغلبها مصمم لمهام البحث والإنقاذ البحري، إضافة إلى عدد محدود من بطاريات الدفاع الجوي والوحدات المضادة للطائرات، كما لا يزيد عدد العاملين في الجيش القبرصي على 16 ألف فرد فقط، ما يجعلها قوة عسكرية هامشية في أفضل الأحوال.
فسَّرت مصادر في الجيش الإسرائيلي ذلك بقولها إن اختيار الجزيرة وقع نظرا إلى أن تضاريسها الجبلية الممتدة على طول سهل ساحلي تشابه تضاريس لبنان، وهي حجة يمكن دحضها بسهولة، تاركة المجال لتفسيرات أكثر جدية، منها ما تناولته وسائل إعلام قبرصية عام 2012 حول رغبة إسرائيل في امتلاك قاعدة عسكرية في قبرص ونشر مقاتلاتها في الجزيرة، ما يشير إلى أن التمرينات الإسرائيلية في قبرص ربما تكون أكبر من مجرد تدريبات عادية، وترقى لتكون شكلا من أشكال الوجود العسكري في الجزيرة الإستراتيجية.
وعموما، يبدو أن قبرص ليس لديها مشكلات كبيرة مع تلك النِّيات، إذ لن تكون إسرائيل أول قوة تمتلك وجودا عسكريا على الجزيرة، حيث تمتلك بريطانيا قاعدتين عسكريتين بقبرص في أراضي ديكيليا بالشرق وأكروتيري في الجنوب، وهي “مناطق سيادية” خاضعة للسيطرة البريطانية الكاملة، وقد احتفظت بها بريطانيا بعد استقلال قبرص عنها بموجب اتفاقية لندن 1959، وتُمثِّل هذه القواعد نحو 3% من المساحة الكلية للجزيرة.
وهناك أيضا “معسكر” كاسل، وهو قاعدة تابعة للبحرية الألمانية في ميناء ليماسول تستخدمها قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “اليونيفيل”، ناهيك بالرسو المتكرر للسفن والقطع العسكرية الأميركية الذي حوَّل الجزيرة إلى “قاعدة للجيوش الأجنبية”، بحسب تعبير المعارضة في قبرص نفسها.
ومن نافلة القول التأكيد أن التعاون القبرصي الإسرائيلي يحظى بالمباركة الأميركية، ففي مارس/آذار 2019، أكد مايك بومبيو، وزير الخارجية الأميركي آنذاك، دعم بلاده جهود التعاون بين قبرص وإسرائيل، في حين أقر الكونغرس الأميركي قانون شراكة الأمن والطاقة في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، وهو القانون الذي سمح لواشنطن بدعم الشراكة بين إسرائيل وقبرص واليونان بشكل كامل في مجالات الطاقة والدفاع، كما أثمر إلغاء القيود المفروضة على مبيعات الأسلحة الأميركية للجزيرة، وهي القيود التي أقرَّتها واشنطن عام 1987 بهدف احتواء النزاع بين القبارصة اليونانيين والأتراك.
مصداقا للقانون، رفعت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب حظر التسليح جزئيا عن قبرص عام 2020، قبل أن ترفعه إدارة بايدن الحالية بشكل كامل عام 2022، في خطوة وُصفت بأنها رغبة من واشنطن في اجتذاب الجزيرة بعيدا عن النفوذ الروسي، وذلك بعد اتفاق نيقوسيا وموسكو عام 2015 على إتاحة موانئ الأولى للسفن العسكرية الروسية.
قبرص ما بعد الطوفان
مهَّدت هذه الإجراءات لتحويل قبرص إلى ما يشبه قاعدة عسكرية للمصالح الغربية، وعلى رأسها دعم إسرائيل، وهو ما ظهر بوضوح في أعقاب طوفان الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول 2023، حيث تجاوز دور الجزيرة الإتاحة الكلاسيكية لمجالها الجوي وأراضيها وموانئها للمجهود العسكري الغربي الداعم لإسرائيل والمناورات والتدريبات المشتركة، أو حتى مجرد منع القطع البحرية الروسية من الوصول إلى موانئ الجزيرة الجنوبية، وفقا لرغبة واشنطن.
تشير تقارير متواترة إلى أن الجزيرة كانت بمنزلة “المركز العسكري الدولي” الداعم لعمليات قصف غزة، حيث أجرت الولايات المتحدة عمليات نقل أسلحة إلى إسرائيل “بانتظام” عن طريق القواعد الجوية البريطانية في قبرص منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كما انطلقت منها غارات استهدفت اليمن في يناير/كانون الثاني 2024 على خلفية مساندة الحوثيين للمقاومة في غزة.
فوفقا لصحيفة “هآرتس” الإسرائيلية، قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بنقل أسلحة من قواعدها الضخمة في أوروبا إلى إسرائيل باستخدام قواعد في قبرص في أعقاب طوفان الأقصى. وخلال شهر واحد، هو شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023، توجهت أكثر من 40 طائرة نقل أميركية، و20 طائرة نقل بريطانية، إضافة إلى سبع مروحيات نقل ثقيلة إلى قاعدة أكروتيري الجوية في قبرص، وكانت هذه الطائرات تحمل الأسلحة والقوات من مستودعات إستراتيجية تابعة للولايات المتحدة وحلف الناتو.
هبطت العديد من هذه الطائرات في الختام في قاعدة نيفاتيم الجوية الواقعة في جنوب إسرائيل قرب صحراء النقب، كما هبط بعضها في مطار بن غوريون في تل أبيب، وقد حملت هذه الطائرات مركبات مدرعة من ضمن الأسلحة الأميركية المنقولة إلى الجيش الإسرائيلي. يُذكر أن المسافة بين قاعدة أكروتيري في قبرص وإسرائيل تناهز 400 كيلومتر، مما يعني أن الرحلة الجوية بينهما تستغرق قرابة 30 دقيقة فقط.
وفيما يبدو فإن عمليات النقل بدأت قبل ذلك بفترة، حيث أعلنت وزارة الدفاع الإسرائيلية في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وقبل بدء الغزو البري الشامل لقطاع غزة بأكثر من أسبوع، عن تسلمها شحنة أولى من مركبات أميركية مدرعة بقيمة تزيد على 400 مليون دولار، ضمن حزمة المساعدات العسكرية المخصصة من واشنطن لتل أبيب.
وتزامن ذلك مع إرسال واشنطن طائرتي نقل عسكري من طراز “سي 17 غلوب ماستر” (المعروفة بقدرتها على نقل المعدات الثقيلة) إلى أكروتيري بقبرص، بعد إقلاعهما من قاعدة روتا الأميركية بجنوب إسبانيا في يوم 18 أكتوبر/تشرين الأول 2023 (أي قبل يوم واحد من إعلان وزارة الدفاع الإسرائيلية تسلم المدرعات). كما تؤكد المصادر إرسال واشنطن طائرة “غلوب ماستر” أخرى إلى قبرص في الـ25 من الشهر ذاته من قاعدة رامشتاين الجوية في ألمانيا، مقر القيادة الجوية لحلف شمال الأطلسي.
في سياق مشابه، أبرزت صحيفة “نيويورك تايمز” إرسال الجيش الأميركي مُسيّرات من طراز “MQ-9 Reaper” أو “الحصادة” إلى غزة في أعقاب طوفان الأقصى. وقد اعترف مسؤولون أميركيون بإرسال هذه المسيّرات، لكنهم أكدوا أنها غير مسلحة، وأنها مزوّدة بأجهزة استشعار الغرض منها البحث عن الرهائن. وذكرت الصحيفة أنها اكتشفت تحليق تلك الطائرات من خلال موقع إلكتروني لتتبع الرحلات الجوية، وأن مسار الرحلة يشير إلى احتمال انطلاقها من قاعدة أكروتيري في قبرص.
بدورها، كشفت صحيفة “ديكلاسيفايد” البريطانية، المختصة في شؤون الدفاع والاستخبارات، عن قيام طائرات نقل عسكري بريطانية بـ33 رحلة بين قواعدها في قبرص ومطار بن غوريون في إسرائيل على مدار أسبوعين فور بدء عمليات قصف غزة، وفي حين أكدت وزارة الدفاع البريطانية قيام قواتها بـ17 رحلة من هذه الرحلات، رفضت إعطاء تفاصيل بخصوص المعدات أو الأفراد الذين نُقِلوا على متنها.
أبعد من ذلك، أشارت صحيفة “ديلي إكسبريس”، نقلا عن مصادر رفيعة المستوى، إلى أن طائرات “إف 35” الإسرائيلية استخدمت قاعدة أكروتيري مباشرة خلال الأشهر الأولى من قصف غزة، وأن امتناع بريطانيا عن إتاحة القاعدة لسلاح الجو الإسرائيلي في وقت لاحق كان بسبب خشية وزراء المملكة المتحدة من التورط في جرائم ضد الإنسانية، بعدما قضت محكمة العدل الدولية في يناير/كانون الثاني الماضي بأن “من المرجح أن إسرائيل ترتكب أعمال إبادة جماعية في غزة”.
ومع انتقال الحرب إلى الجبهة اللبنانية، أصبح الدور القبرصي في خدمة المصالح الغربية والإسرائيلية مرشحا للزيادة، حيث يمكن للطائرات المقاتلة قطع المسافة من قبرص إلى سواحل لبنان في غضون عشر دقائق فقط. وقد رصدت مواقع مخصصة بالفعل توجه 7 طائرات أميركية من طراز “غلوب ماستر” إلى قواعد في قبرص، تزامنا مع تصعيد جيش الاحتلال عملياته في جنوب لبنان، منها 4 طائرات انطلقت من قاعدة رامشتاين في ألمانيا، في حين أقلعت اثنتان من قاعدة ماكجواير الجوية في ولاية نيوجيرسي الأميركية، وكانت الأخيرة قادمة من قاعدة روتا الواقعة في جنوب إسبانيا.
#USAF Boeing E-3B Sentry AWACS from Chania Int. Airport in Souda bay between #Crete and #Cyprus islands in east #Mediterranean Sea. pic.twitter.com/5cJ7L6xz3S
— AegeanHawk (@AegeanHawk) September 6, 2024
وكر الثعالب
إجمالا، عززت هذه القواعد القبرصية، المُدارة بواسطة أميركا وبريطانيا، من قدرة إسرائيل على جمع المعلومات الاستخبارية والمراقبة، إضافة إلى إمكانية السيطرة على الطرق البحرية في المنطقة، كما استطاعت من خلالها الحصول على الدعم العسكري خلال الفترات الحرجة، ويُعد ذلك امتدادا للمزايا الاستخبارية والمعلوماتية طويلة الأمد التي وفرتها جغرافيا قبرص لواشنطن وحلفائها منذ سبعينيات القرن الماضي. ففي ذلك الوقت، أنشأت واشنطن في قبرص رادارا فوق الأفق يُسمّى “حذاء الكوبرا”، وذلك لمراقبة عمليات الطيران واختبارات الصواريخ في جنوب روسيا.
في غضون ذلك، استفادت واشنطن من متطلبات تخفيض الميزانية التي لاحقت بريطانيا واضطرارها للاستعانة بالموارد الأميركية للحفاظ على قواعدها في قبرص وتحديثها من أجل توسيع أنشطتها ووجودها في هذه القواعد، بما في ذلك السماح لوكالة الأمن القومي الأميركية باستغلال مركز اتصالات “آيوس نيكولاوس” الواقع في ديكيليا، وذلك لاعتراض الاتصالات وجمع المعلومات من المنطقة.
يُعد مركز “آيوس نيكولاوس” واحدا من أربع منشآت تجسس تابعة لوكالة الأمن القومي الأميركية في قبرص، وفقا لتسريبات إدوارد سنودن عام 2013، ويُعتقد أنها تقوم بتجميع المكالمات والرسائل النصية ورسائل البريد الإلكتروني من مختلف أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وعادة ما تستهدف هذه العمليات الزعماء الحكوميين في البلدان المحيطة وغيرهم من كبار القادة والعسكريين، إضافة إلى وكالات الأمم المتحدة والمنظمات التجارية والشركات الخاصة وقوات الشرطة والجيش والجماعات السياسية.
وتشير “جراي ديناميكس” (Grey Dynamics)، وهي شركة استخبارات خاصة مقرها لندن، إلى أن التعاون الوثيق بين واشنطن وإسرائيل أدى إلى إمداد الأخيرة بالكثير من البيانات الصادرة عن مركز نيكولاوس، وكان بعض هذه البيانات متعلقا بالقادة الفلسطينيين، بما يشمل أماكنهم وأنشطتهم، مما مكّن الموساد الإسرائيلي من تنفيذ حملة اغتيالات ناجحة ضد أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية في فترة السبعينيات.
أبعد عن ذلك، ثمة تقارير غير رسمية تؤكد وجود قاعدة للموساد الإسرائيلي في جزيرة قبرص، وهو ما أبرزه الصحفي الفرنسي والخبير في شؤون الشرق الأوسط، جورج مالبرونو، الذي يشير إلى تاريخ التعاون الأمني بين قبرص وإسرائيل، بما في ذلك استخدام المجال الجوي القبرصي من قِبَل المقاتلات الإسرائيلية. ويستشهد مالبرونو في ذلك بأقوال مصدر عسكري فرنسي، يقول إن مقاتلات إسرائيل دائما ما تقوم بدوران واسع في المجال الجوي القبرصي بعد إقلاعها من قواعدها، وذلك لتجنب رصدها بواسطة أي أنظمة دفاع جوي.
تتوافق هذه الحقائق البنيوية مع المعلومات المتفرقة التي تداولتها صفحات متخصصة على مواقع التواصل ومواقع “الاستخبارات مفتوحة المصدر” مؤخرا حول رصد طائرتي إنذار واستطلاع مبكر أميركيتين من طراز “سينتري أواكس” (E-3B Sentry) أمام السواحل اللبنانية، قبيل الهجوم الإسرائيلي على مقر حزب الله اللبناني، الذي أدى إلى اغتيال الأمين العام للحزب حسن نصر الله وعدد من قيادات الحزب البارزين.
رُصِدَ مسار هذه الطائرات من خلال موقع بيانات الملاحة الجوية (Flightradar 24)، ورُبط بينها وبين الهجمة الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية. وقد انطلقت إحدى الطائرتين من خانيا في جزيرة كريت اليونانية باتجاه سواحل لبنان، وهي الطائرة التي تحمل الرقم التسجيلي 780578، أما نقطة انطلاق الطائرة الأخرى التي تحمل الرقم التسجيلي 750556 فكانت مجهولة. ومع ذلك، تشير البيانات الملاحية إلى أن هذه الطائرة رُصدت في المسار بين خانيا في جزيرة كريت وقبرص قبل قرابة 20 يوما من اغتيال نصر الله، وتحديدا في السادس من سبتمبر/أيلول الماضي.
في الختام، بغض النظر عن حجم الدور الذي تلعبه قبرص في الحرب الإقليمية الحالية، فما هو مؤكد أنه أكبر بكثير مما تعترف به نيقوسيا، الأمر الذي يشير لتنامي تعاون قبرص مع إسرائيل في السنوات الأخيرة، سواء في المجالات العسكرية أو الاقتصادية، وانتقاله إلى تعاون إستراتيجي ملحوظ في سياسة الجزيرة. فقبرص التي كانت قد اعترفت بالدولة الفلسطينية بمجرد الإعلان عنها، ودافعت عبر قنواتها الدبلوماسية عن حقوق الفلسطينيين في فترات مختلفة، تعيد تعريف موقعها وانحيازاتها. ومع استمرار الحرب الإسرائيلية وإعادة رسم خطوط التماس وتشكيل التحالفات، فإن الدور الذي تؤديه قبرص سيظل محط اهتمام، وستتعاظم أهميته للقوى الإقليمية والدولية على حدٍّ سواء.