غزة- في الرابعة فجرا من إحدى الليالي السوداء التي يعيشها قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي، استيقظنا على أصوات وصراخ سكان البرج السكني الذي نقطنه، فنزلنا من شققنا في الحال، حيث تلقت إدارة البرج إنذارا بإفراغه من المواطنين العزل فورا.
ولكم أن تتخيلوا الخوف الذي ينتاب الناس بعد سماعهم خبر إخلاء منازلهم، حيث يسرع الجميع لأخذ أهم الوثائق أو الممتلكات المالية للهروب في أقل من 5 دقائق وسط صراخ الأطفال وبكاء النساء وتوتر الرجال، ويغادرون البرج حائرين إلى أين يذهبون.
قصف دامٍ
العائلات التي يُنذرها جيش الاحتلال بالإخلاء، بات يُنظر لها على أنها “محظوظة”، فمئات المنازل قُصفت على رؤوس ساكنيها دون تلقي إنذار مسبق، مما أدى إلى سقوط مئات الشهداء والجرحى.
بعد إخلاء منزلنا، أصبحنا نجول الشوارع في وحشة الليل حيث أصوات الطائرات الحربية تغير بين الحين والآخر على أهداف متعددة، ولا يتوقف القصف الدامي منذ أيام.
وتوجهنا إلى مدراس “الأونروا” المكان الذي يلجأ له المواطنون مضطرين في هذه الظروف رغم إغلاقها العديد من المدراس بعد إعلان الاحتلال مدينة غزة وشمال القطاع منطقة حرب ومطالبته السكان بالهجرة إلى ما بعد وادي غزة جنوب القطاع.
ولجأ إلى مدارس الأونروا مئات الآلاف بعد إخلاء منازلهم بعد أيام قليلة من بدء انتقام الجيش الإسرائيلي من سكان القطاع في 7 أكتوبر/تشرين الأول الجاري، إضافة إلى نزوح الآلاف لمناطق ما بعد وادي غزة.
خوف وقهر
وما إن وصلنا إلى إحدى مدارس الأونروا التي تخلو من أية خدمات، وجدنا المدرسة تعج بالمدنيين الهاربين بعد إخطار الإجلاء أو ممن دُمرت منازلهم، وسط حالة من الخوف والقهر تجسدها تعابير وجوههم.
وعند مدخل المدرسة يقول الستيني أبو محمد -للجزيرة نت-، “خرجت مياه الصرف الصحي على الناس منذ أيام ولا أحد يحل المشكلة ولم نتلق أية مساعدات من طعام وشراب وكساء وأغطية، أصبح البرد ليلا أشد لأن فصل الشتاء قريب”.
بدا على وجهه إحساس بالإهانة وقلة الحيلة وتنهّد قائلا “شعور صعب أن تخرج من بيتك رغما عنك بلا شيء وقد بنيته منذ 30 عاما بعرق جبيني، وفي لحظة سوته صواريخ هذا الاحتلال الظالم بالأرض”.
وقابلتني سوزان رفقة طفلتها التي تبحث لها عن مكان تنام فيه، وتحدثت -للجزيرة نت- على عجالة قائلة “جئت هنا قبل 3 أيام ولا أعرف كيف وصلت فأنا أسكن في حي تل الهوا جنوب مدينة غزة”.
حزام ناري
وتروي سوزان “أخلينا المنزل في الساعة الثانية فجرا عندما تلقينا بلاغا من الاحتلال مع أبراج عديدة بجانبنا يُعلمنا بنيّتهم تدمير مربع سكني، لكنهم لم يعطونا فرصة وبدأت الطائرات بقصفنا وإخراجنا وسط الحزام الناري”.
والحزام الناري هو نوع من القصف تنفذه طائرات الاحتلال الإسرائيلي على امتداد الشوارع تدمر من خلاله كل شيء من بنى تحتية وكهرباء وبيوت قرب الشوارع المستهدفة، ويتم قصف منطقة محدودة بشكل عنيف ومكثف ومتتابع بصواريخ عالية التدمير.
وتابعت السيدة باكية “لا أعرف كيف وصلت إلى هنا، فقد سرت مع أطفالي الصغار وسط لهيب النيران التي تخرج من الصواريخ والأشلاء حولي في كل مكان وأصوات القصف المرعبة تزيد الأمر سوءا، يبدو أني محظوظة لأنني إلى الآن في سجل الأحياء”.
وأكدت أن الوضع في مدارس الأونروا لا تصفه الكلمات، فقد خرجَت من منزلها بأطفالها دون ملابس لهم ولا طعام، ولا علاج ابنها المصاب بمرض مزمن، كما أن أقرب مستوصف للمكان لا يتوفر به العلاج المناسب لطفلها.
تشريد جديد
من جهتها، حدثتنا مريم التي هربت من قدر إلى قدر أصعب، فهي تسكن في منطقة حدودية مشتعلة كباقي المناطق، فكل غزة باتت تتعرض للمصير ذاته والجميع مستهدف من قبل الاحتلال.
خرجت مريم -وهي أم لـ4 أطفال- وعائلتها من بيت حانون شمال القطاع هربا من القصف العنيف نحو أقارب لها في منطقة “المقوسي” غربي مدينة غزة، ظانة أن الأمور قد تكون أفضل وأكثر أمنا.
ولم تستقر الأم لساعات حتى جاء إبلاغ من الجيش الإسرائيلي بإخلاء المنطقة ذات الكثافة السكانية العالية والأبراج السكنية الكثيرة، لتعيش وعائلتها التشريد من جديد.
ووصفت النازحة من شمال القطاع حالها وسكان تلك المناطق قائلة “لم نذق طعم النوم منذ أيام وهربنا من مكان لآخر بحثا عن الأمان، لكن نجد في كل المناطق نفس المصير والقصف”.
وأضافت “العالم صامت أمام ما نتعرض له من استهداف وتهجير وتدمير للبيوت على رؤوس ساكنيها، ولا أحد يستطيع أن يقول لا لإسرائيل. القصف متواصل على مدار الساعة والضرر طال حتى مدارس الأونروا والإسعاف والصحفيين والمشافي، فلا حصانة ولا خصوصية لأي مؤسسة نتوجه إليها في غزة”.
حياة تحت الركام
وفي طابق المدرسة الثاني، قابلت رجلا مسنا، اقتربت منه خجِلة فكل الأسئلة باهتة أمام ما عاناه الرجل المكنى “أبو بكر”، فقد هدم الاحتلال منزله عليه وأسرته، ولم يتبق من العائلة سواه وابنته.
ومكث أبو بكر ساعات عديدة تحت الركام حتى تمكنت فرق الإنقاذ من إخراجه. ووصف -للجزيرة نت- تلك الساعات بألم “انتظرت لطف الله ولم يكن في بالي شيء سوى لقاء الله، حتى وجدت نفسي بين أيدي رجال الدفاع المدني، وبلطف من الله نجوت مع ابنتي وفقدت 13 فردا من أبنائي وأحفادي”.
وتابع “لا أتوقع أنهم كانوا يبحثون عني، بل عن جثث الشهداء، لكنهم فوجئوا بي أتنفس بين الركام ووجدوا ابنتي المصابة بجواري”.