غزة- يتنقل عاطف ريّان بين نحو 20 قِدرا كبيرا مصفوفة بعناية فوق حفرة تشتعل فيها النيران، للتأكد من نضوج اللحم، تمهيدا لإضافة الأرز. وبعد أن أمر بإضافة الملح بكميات محددة لبعض القدور، أهاب بالعاملين معه الإسراع في تجهيز الطعام، نظرا لاقتراب موعد تسليم الوجبات.
ويدير ريّان تكية خيرية في مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، أسّسها بعد أيام من بدء الحرب الإسرائيلية الوحشية على القطاع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وكان دافعه الأساسي من تأسيس التكية هو المساهمة في إطعام عشرات الآلاف من النازحين الذين تدفقوا من شمال القطاع إلى وسطه.
دور مهم
ويرى مراقبون أن التكافل الاجتماعي، خلال الحرب، كان له دور مهم في منع انهيار الأوضاع بشكل تام، وسد -إلى حد ما- فراغ أحدثه غياب المؤسسات الدولية.
وإلى جانب الغارات الوحشية التي أسفرت عن استشهاد قرابة 19 ألف شخص، فرضت إسرائيل حصارا مشددا على القطاع، وقطعت إمدادات المياه والكهرباء والأدوية، وقننت بشكل كبير عملية إدخال المساعدات الدولية.
ويقول ريّان -للجزيرة نت- إنه بدأ العمل مع فريقه التطوعي في 20 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وما يزال مستمرا في تقديم الطعام للمحتاجين. وأكد أن هذا التكافل، خلال الحرب، يعزز صمود السكان.
وفي البداية، بدأ عمله داخل مدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء، لكن ضيق المكان دفعه إلى الانتقال لآخر يتسع لهذا العمل الخيري. ويوضح أنه يطبخ في هذه الأيام وجبات تحتوي على الأرز واللحم، وتكفي نحو 5 آلاف شخص في اليوم.
ويوزع ريان الوجبات الساخنة على النازحين في مراكز الإيواء وعلى الجرحى والمرضى وذويهم في مستشفى “شهداء الأقصى” ومركز الزوايدة الطبي.
وتعتمد التكية في تمويلها على تبرعات “أهل الخير” داخل فلسطين وخارجها، ويقول بهذا الصدد “الله يُيسر هذا الأمر من بعض الإخوة المحبين لحق الشعب في الحياة والبقاء، فيقدموا لنا بعض المال من هنا وهناك، حتى نستطع طهي هذه الوجبات”.
لكنّ هذا العمل الخيري لا يخلو من صعوبات كبيرة جراء نفاد البضائع بسبب الحصار الذي تفرضه إسرائيل. وأول هذه المشاكل نفاد غاز الطهي، والاعتماد على الحطب الذي بدأ أيضا ينفد وترتفع أسعاره.
ويشرح ريّان “أولا اعتمدنا على الغاز، ثم الحطب الذي بدأ ينفد، اليوم وجدتُ صعوبة حتى أوفر كمية مناسبة منه لطهي طعامي، كما أن أسعاره تضاعفت، كنا نشترى الكيلوغرام منه بنصف شيكل، واليوم إذا وُجد نشتريه بـ3.5 شياكل (حوالي دولار واحد)”.
كما ارتفعت أسعار الملح حيث كان ثمن الكيس ذي 25 كيلوغراما 15 شيكلا (4 دولارات) ووصل سعره ألف شيكل (266 دولارا). وتعاني التكية كذلك من شحّ الأرز وارتفاع سعر الكيس الذي يزن 20 كيلوغراما من 120 شيكلا (35 دولارا) إلى نحو 370 شيكلا (حوالي 100 دولار) وأكد ريّان “نعاني من كل شيء، لكننا نحاول الاستمرار”.
فرق تطوعية
وفي مدينة رفح، أقصى جنوبي قطاع غزة، دفعت المأساة الإنسانية الكبيرة -التي يعيشها مئات الآلاف من النازحين الذين أجبرهم جيش الاحتلال على الرحيل من محافظة خان يونس- العديد من المبادرين إلى تأسيس فرق تطوعية لإغاثتهم.
ويقول وائل أبو محسن، وهو قائد إحدى الفرق التطوعية التي تضم قرابة 20 شابا، إنهم يعملون على توزيع الطعام، وتوفير الملابس والأدوية على ضحايا الحرب.
ويلفت أبو محسن -للجزيرة نت- إلى أن الأوضاع الإنسانية في رفح “بالغة السوء”. ويضيف أن عدد السكان الأصلي حوالي 270 ألف نسمة، وأنه يصل اليوم إلى مليون بعد تشريد وتهجير مئات الآلاف من خان يونس.
وتابع “الوضع في رفح كارثي، خيام النازحين تملأ الطرقات والأماكن الخضراء والفارغة والملاعب، لا يوجد متسع لأحد”. وكان جيش الاحتلال -الذي بدأ قبل نحو أسبوعين توغلا بريا في محافظة خان يونس- قد أمر السكان بالنزوح إلى منطقة رفح.
وذكر أبو محسن أن العديد من أهل الخير ومحبي الشعب الفلسطيني وخاصة من الخارج يرسلون التبرعات لفريقه وللفرق الأخرى. وتذبح مجموعته يوميا بقرتين إلى ثلاث، ويطبخ الطعام، ويقدمه للنازحين في مراكز الإيواء. كما يعملون على توزيع الملابس، وخاصة للأطفال.
ويوضح “يفتقد غالبية النازحين للملابس اللازمة، حيث خرجوا بملابسهم الشخصية وكان الطقس دافئا واليوم أصبح باردا، لذلك نعمل على كسوتهم”.
كما امتد نشاط الفريق إلى توزيع الأدوية على النازحين، خاصة لأصحاب الأمراض المزمنة، وللأطفال. ويؤكد أبو محسن “التكافل له دور كبير في التخفيف من هول ووطأة الحرب الإسرائيلية والأوضاع الصعبة”.
تكافل وتآزر واضح
ولم تقتصر مظاهر التكافل على التكايا والمبادرات التطوعية، بل تعدتها إلى العديد من الأمور، ومنها تقديم العائلات المساعدة للنازحين بشكل مباشر، كالمال والسكن والمياه والملابس والفراش، وحتى أدوات المطبخ.
يقول الكاتب والمحلل السياسي وسام عفيفة -للجزيرة نت- إن “التكافل حاضر في المشهد اليوم بشكل لافت، وهناك تآزر واضح في تقاسم الموارد الشحيحة وخاصة المياه والسلع الغذائية”.
ولا يقتصر التكافل، بحسب عفيفة، بين أفراد العائلة الواحدة، بل تعداها إلى تقديم الأُسر في الوسط والجنوب المساعدات لأخرى من الشمال، رغم أنها لا ترتبط بها بسابق معرفة. ورأى أن التكافل سد الفراغ الذي أحدثه غياب المؤسسات الإغاثية الدولية التي قال إنها “لم تقم بدورها”.
ويضيف “عندما نزح عشرات الآلاف من الشمال، نزع جنود الاحتلال منهم كل ما يملكون على الحاجز جنوب مدينة غزة، حتى ملابسهم. ووصلوا للجنوب، ولم تستقبلهم منظمات الإغاثة كوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) أو الصليب الأحمر، من استقبلهم هم مواطنون لا يعرفونهم، وقدموا لهم المساعدات من باب التكافل الاجتماعي”.
كما أشار عفيفة إلى أنه من الظواهر اللافتة: إرسال المغتربين في الخارج، الأموال لذويهم وأصدقائهم بطرق مختلفة وهو ما أنقذ “عائلات من كوارث في ظل عدم وجود مصدر رزق للمشردين”.
ورأى أنه لولا الدور الذي لعبه التكافل الاجتماعي “لكانت الكارثة أكبر، ولكانت المجاعة أحد أسباب الموت، وكان من الممكن نشوب الفوضى والقتل والاشتباك والسرقات والجريمة”.