ثمة توجه جديد برز في أروقة السياسة البريطانية وهو أن المحتجين السلميين ضد مجازر غزة متطرفون خطيرون وحاقدون، في حين أن المدافعين عن تلك المذابح الجماعية التي أزهقت أرواح عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين معتدلون جديرون بالاحترام من التيار السائد في المجتمع.
بهذه المقدمة، استهل كاتب العمود أوين جونز مقاله في صحيفة غارديان البريطانية، منتقدا فيه تضارب مواقف النخب السياسية تجاه الحرب التي تدور رحاها في القطاع المحاصر.
وأشار جونز إلى تصريح رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك الذي ورد فيه أن هناك “إجماعا متزايدا” على أن “حكم الغوغاء يحل محل النظام الديمقراطي”، وهو إعلان يرى جونز في مقاله أنه جعل العالم ينقلب رأسا على عقب، ويحق للمرء أن يسأل عن السبب.
أما كيف تجلى ذلك للعيان، فهو أمر له دلالته، بحسب كاتب المقال. ففي الوقت الذي طالب فيه الحزب القومي الأسكتلندي بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، كان حزب العمال البريطاني في وضع حرج إذ ظل يرزح تحت وطأة ضغوط مارسها ناخبون معارضون للحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل على القطاع الفلسطيني، ولاحت بوادر تمرد هائل داخل البرلمان وأبدى وزراء في حكومة الظل استعدادهم للاستقالة.
عقاب جماعي
لكن زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر لن يقبل اقتراح الحزب القومي الأسكتلندي. وتساءل جونز عن السبب، وتولى بنفسه الإجابة، إذ قال إن المقترح أشار إلى “العقاب الجماعي” الذي تمارسه إسرائيل على سكان غزة ردا على هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وأكد جونز أن عبارة “العقاب الجماعي” تنطوي على إقرار بارتكاب جريمة حرب، مما يستوجب منطقيا من الدولة البريطانية اتخاذ إجراء من قبيل حظر الأسلحة وفرض عقوبات على إسرائيل.
وأعرب عن اعتقاده أن ضغوطا من هذا النوع هي الوسيلة الواقعية الوحيدة التي يملكها حلفاء إسرائيل لتغيير تصرفاتهم في هذه المرحلة، لكن أضحى جليا أن حزب العمال ليس على استعداد للمضي قدما في هذا الاتجاه، وسيكتفي بإطلاق إدانات “مؤقتة” يدرك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنها لا تعدو أن تكون للاستهلاك المحلي، ويمكن تجاهلها بشكل آمن.
وذكر كاتب المقال أن تباين المواقف السياسية في بريطانيا يتجلى في موقف حزب العمال والحزب القومي الأسكتلندي، فبينما دعا الأول إلى “وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية”، طالب الثاني “بوقف فوري لجميع العمليات القتالية” إلا أن مطالبته لم تتضمن إشارة إلى العقاب الجماعي.
وتطرق مقال غارديان إلى النقاشات التي دارت في مجلس العموم (الغرفة الصغرى للبرلمان البريطاني) بشأن التعامل مع حرب غزة، وما تخللها من محاولات للتأثير على مواقف النواب الأمر الذي قد يراه البعض “تسييسا بغيضا من الناحية الأخلاقية، لأنه يتلخص في رفض حزب العمال إلصاق جريمة العقاب الجماعي الواضحة للعيان بإسرائيل”.
دمار شامل
ويقول الكاتب إن غزة تعرضت، في نهاية المطاف، لدمار شامل إلى الحد الذي أدى إلى تغير سمتها وهيئتها حتى إنه يمكن رؤية ذلك من الفضاء، مضيفا أن التقارير تفيد بأن الكلاب الجائعة تأكل الجثث المتحللة.
وعود على بدء، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بعد ذلك –برأي أوين جونز- هو: من هم المحتجون الذين يشكلون تهديدا؟ وأردف أنه في مجتمع تعصف به الإسلاموفوبيا، أصبح قطاع عريض من المتظاهرين المسلمين عرضة للاستهداف.
فإذا كان هؤلاء يشكلون خطرا إلى هذه الدرجة، فلماذا لا تطالهم حملة اعتقالات جماعية؟ سؤال استنكاري يوجهه جونز للسلطات البريطانية، مشيرا إلى أن وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان كانت قد أوعزت بأن الإسلاميين هم الذين يديرون شؤون البلاد بالفعل.
بيد أن لي أندرسون نائب رئيس حزب المحافظين السابق ضيق نطاق المؤامرة لتقتصر على لندن حين ألمح ضمنا إلى أن عمدة المدينة يُعد من “الخلايا الإسلامية النائمة”.
وشدد الكاتب على ضرورة أن يعترف المحافظون بتفشي النزعة العنصرية في أوساطهم، لكنه يرى أن ذلك نابع من محاولة متعمدة لدمغ معارضي قصف عشرات الآلاف من المدنيين وإطلاق النار عليهم وتجويعهم، بأنهم هم “المتطرفون الخطيرون الحقيقيون”.
وخلص مقال غارديان إلى أن المؤسسات السياسية والإعلامية في بريطانيا تدرك أن أي محاسبة حقيقية سيجردها من شرعيتها الأخلاقية، إذ لا يمكنها أن تتظاهر بالجهل، ذلك أن القادة والمسؤولين الإسرائيليين أعلنوا على الملأ بما سيفعلونه بالضبط ألا وهو تجويع “الحيوانات البشرية” -كما وصفوا الفلسطينيين- وتحرير جنودهم من “كل القيود”، وتحميل المدنيين المسؤولية الجماعية واعتبارهم “نازيين”، ومحو “قطاع غزة عن وجه الأرض”.