أظهر برنامج “المتحري” ضمن تحقيق استقصائي تناول قضية اختفاء قرابة 2000 من أطفال يهود اليمن، إثر وصولهم معسكرات الاستقبال الإسرائيلية منتصف القرن الماضي، بدعوى وفاتهم، عدم صحة تلك المزاعم، وأن عمليات انتزاعهم من أسرهم كانت “ممنهجة ومنظمة” لصالح جهات أشرفت على إتاحتهم لتبني أسر يهودية أخرى.
وكشفت حلقة البرنامج التي بثتها قناة الجزيرة الجمعة (2023/10/6)، بعد عامين من البحث والتحري، من خلال باحثين وذوي عدد من هؤلاء الأطفال، أن تلك العمليات كانت تتم بنسق واحد عبر مراحل متعددة، بدأت قبل وصول هؤلاء الأطفال وأسرهم إلى إسرائيل.
ووقعت تلك الأحداث خلال عام 1949، حين قامت الوكالة اليهودية بترحيل نحو 50 ألفا من يهود اليمن، في عملية أطلق عليها “بساط الريح”، لضمهم إلى مكونات المجتمع اليهودي خلال تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن قرابة 2000 من أطفالهم اختفوا تباعا بدعوى الوفاة، وما زال مصيرهم مجهولا حتى اللحظة.
واطلع تحقيق البرنامج الذي حمل اسم “بساط التيه” على العديد من الوثائق من الأرشيف الإسرائيلي الرسمي التي تدعم، التشكيك في رواية وفاة هؤلاء الأطفال، وتؤكد وجود ملابسات عديدة تدعم ما ذهب إليه باحثون وأسر بعض هؤلاء الأطفال، من أنهم لا زالوا على قيد الحياة، وأنه جرى اختطافهم لأهداف غير معلنة.
كما نقل التحقيق شهادات حصرية لذوي عدد من الأطفال المختفين، عرضوا خلالها ملابسات الاختفاء، وما واجهه من تعنت خلال محاولتهم التوصل إلى أطفالهم المختفين، وتأكيدهم عدم التسليم برواية وفاتهم، واستمرار نضالهم حتى معرفة الحقيقة.
أعضاء الكنيست يؤكدون
ورصد البرنامج تصريحات حاسمة وصادمة، أدلى بها أعضاء في الكنيست الإسرائيلي داخل أورقته، تؤكد رؤية الأهالي والباحثين، ومنهم ميخال ولديجر، ويوناتان مشرقي، إضافة إلى عوفر كاسيف، الذي أكد أن شهادات الوفاة والدفن لهؤلاء الأطفال مشكوك فيها ويمكن اعتبار أغلبها زائفا.
وفي حديثها للبرنامج، كشفت شوشانا مدموني، وهي أكاديمية إسرائيلية من أصول يمنية، متخصصة في ملف الأطفال المفقودين، بأن العديد من حالات اختفاء هؤلاء الأطفال كانت تبدأ بأخذهم من أهاليهم الذين تم توطينهم في مخيمات استيعاب المهاجرين دون موافقة الأهالي، وفي اليوم التالي يقولون لهم إنهم مرضوا ونقلوا إلى المستشفى، ثم يزعمون موتهم.
ولفتت مدموني، والتي كان لها عمتان فقدتا ولديهما بالطريقة ذاتها، أنه لم يكن يسمح للأهالي أخذ جثامين أطفالهم أو حتى معرفة أماكن دفنهم، كما لم يتم إعطاؤهم شهادات وفاة ولا حتى السماح بإقامة عزاء لهم، وهي الأمور التي كانت تؤكد أن ادعاء وفاتهم غير صحيح.
وفي هذا السياق، أشارت الباحثة الإسرائيلية ذات الأصول اليمنية، أن نظرة استعلائية كانت حاضرة خلال التعامل مع الأسر اليهودية من أصول يمنية، فأغلب الأوروبيين كانوا ينظرون نظرة استخفاف لكل اليهود الذين يأتون من العالم العربي، مستحضرة حديث إحدى الممرضات لها بأنهم قدموا معروفا لأبنائهم حين انتشلوهم من فقر أهاليهم.
رفضوا فعاد أبناؤهم!
وضمن الشهادات التي حصل عليها البرنامج، ما كشفه الدكتور توم بيساه، وهو عالم اجتماع إسرائيلي مهتم بقضية الأطفال المفقودين، من أن عددا من الحالات القليلة التي رفض فيها الآباء مزاعم وفاة أبنائهم وهددوا الفريق الطبي، انتهى الأمر بظهور أطفالهم، وتم إعادتهم وهم يرتدون ملابس جميلة، ما يكشف أنه كان يتم تجهيزهم لمنحهم إلى آخرين.
وأضاف بأن ظاهرة الاختفاء بلغت ذروتها عام 1950، وأنه توجد شهادات وإفادات تقدر عدد المختفين بنحو ألفي طفل، مرجحا أن يتجاوز العدد الحقيقي ذلك، لأن حالات كثيرة لم تصلهم كباحثين، ومن ثم فإنه يتوقع أن يكون عدد الأطفال المختفين بضعة آلاف.
أما جيمس أيستوود، وهو باحث متخصص في الشؤون الإسرائيلية، فيؤكد أن إخفاء أطفال اليهود اليمنيين، كان يتم بطريقة ممنهجة ومعد لها سلفا، وأن شبهات عديدة تؤكد أن الأطفال الذين اختفوا قد تم في الحقيقية إعدادهم للتبني.
وأضاف أن وثائق المنظمات التي اشتركت في عملية نقل اليهود من اليمن إلى إسرائيل، تكشف أنهم كانوا ينظرون إلى الأطفال بأنهم أثمن ثروة تجلب إلى الدولة الجديدة، لافتا إلى أن السياح من أميركا كانوا يحظون بفرصة الوصول لهؤلاء الأطفال أكثر من أمهاتهم بعد أخذهم منهم بدعوى رعايتهم في أماكن مناسبة.
وأشار إلى أنه تم إخفاء العديد ومن الوثائق بالأرشيف الإسرائيلي، والتي كان من الممكن أن تكون ذات أهمية قصوى لعمل لجان التحقيق، حيث كان يتم تدميرها أو يعلن عن فقدها قبل جلسات تلك اللجان، أو يتم حذف أسماء الأطفال بعد نسخها.
هستيريا الديمغرافيا
أما سمدار لافي وهي عالمة انثروبولوجيا إسرائيلية من أصول يمنية، فترى أن “هستيريا الديمغرافيا” لدى إسرائيل، هي أحد الدوافع الرئيسية لأخذ هؤلاء الأطفال من أسرهم، حيث تقوم المواطنة على أساس الديانة والعرق، وهو ما تراه أمرا “في غاية الفاشية” حسب تقديرها.
وتوضح في حديثها لبرنامج “المتحري” أنه يجب أن تكون أصول المواطن يهودية لـ5 أجيال من جانب الأم، ومن ثم فإن اليهود الأشكناز (من أصول أوروبية)، ممن لا أطفال لهم يمكن أن يجدوا في أطفال يهود اليمن ضالتهم، لأن اليهود الشرقيين لم يتزاوجوا من خارج طائفتهم، ولذا فإن أطفالهم لا يشك في يهوديتهم.
وترى أن هناك قدرا كبيرا من الخطورة في هذه القضية، حيث إنه من شأنها أن تكون أحد أسباب سقوط الدولة الإسرائيلية، وذلك إذا ثبت الأمر وعرف العالم حجم العنصرية السائدة داخل المجتمع اليهودي، فلن تحظى إسرائيل بذلك القدر الكبير من التعاطف الموجود، حتى من قبل المجتمع اليهودي الغربي.
بينما كشفت هداس زيف، وهي ناشطة في منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان الإسرائيلية، أن هناك “مجرمين” حولوا القضية إلى عمل تجاري، تكسبوا من خلاله عبر أخذ هؤلاء الأطفال من أسرهم وإيصالهم إلى منظمات معروفة بنشاطها في التبني.
ومؤخرا، وبعد تكوين لجان تحقيق كانت تنتهي عادة بتأكيد الرواية الرسمية بوفاة هؤلاء الأطفال، وهو الأمر الذي كان يقابل بسخط الأهالي وتنظيم احتجاجات وفعاليات مختلفة، حاولت السلطات الإسرائيلية شراء صمت الأهالي عبر تقديم تعويضات مشروطة بغلق الملف وعدم الحديث عنه مرة أخرى، وهو الأمر الذي قوبل بالرفض.