برلين- من جديد يواجه صحفيون متعاطفون مع القضية الفلسطينية في ألمانيا تحديات طردهم من عملهم، بعد إعلان مؤسسة الإذاعة والتلفزيون “إس دبليو آر” (SWR) في جنوب غرب البلاد، إعفاء المذيعة السورية هيلين فارس من إدارة برنامج حواري وإنهاء العمل معها.
وجاء ذلك بسبب ما وصفته الهيئة بـ”مواقف سياسية متطرفة” عبّرت عنها فارس على وسائل التواصل، وتحديدا حديثها عن تطبيق يمكن من خلاله التعرّف على البضائع الإسرائيلية، وبالتالي تسهيل مقاطعتها.
وتقدّم فارس، وهي صانعة محتوى أيضا، عددا من البرامج الحوارية، وتعاقدت معها القناة الألمانية بناء على شهرتها في تطبيق “إنستغرام” الذي يتابعها عليه 100 ألف مستخدم. لكن القناة قالت عنها إنها “انتهكت مبدأ الحياد المطلوب في إدارة البرامج الحوارية”، كما أثرّت على استقلاليتها واستقلالية الهيئة، من خلال نشاطها على وسائل التواصل.
لكن ما سرّع قرار القناة في إعلان تخليها عن هيلين فارس هو الحملة التي شُنت ضدها من الإعلام الداعم لإسرائيل، خصوصا من صحيفة “بيلد” الشعبوية ذات الانتشار الواسع، لكن الغريب -وفق ما تؤكده فارس للجزيرة نت- أن القناة قرّرت وقف العمل معها دون سماع وجهة نظرها في الموضوع.
وتوضح أنه بعد نشر الصحيفة الخبر عنها، ووصفها بأنها “معادية للسامية”، حاولت التواصل مع رئاسة تحرير هيئة البث، بعد علمها أنهم يعدون بيانا في الموضوع، وبعد يوم كامل، طُلب منها الانضمام إلى محادثة عن طريق تطبيق “زووم”، حيث تم إخبارها بالقرار خلال الدقائق الأولى من المحادثة.
تقول فارس “لم أصدق أن طاقم القناة بأكمله لم يفكر بالاتصال بي والتحدث معي لمعرفة كيف يمكن حل هذه المشكلة”. وتضيف “بل إن الإدارة قامت بتعميم البيان الصحفي قبل إجراء المحادثة معي!”، لافتة إلى أن الفيديو الذي تسبب بطردها كان يخص رفضها شراء منتجات شركة يدعم رئيسها التنفيذي الاقتصاد الإسرائيلي.
كلمة السر “بي دي إس”
صنّف البرلمان الألماني حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) جهةً معادية للسامية، كما تربط وسائل إعلام وأحزاب داعمة لإسرائيل بين مقاطعة البضائع الإسرائيلية وبين سلوك في عهد النازية كان يشجع على عدم التعامل مع التجار والمحلات اليهودية، وهو ما ظهر في خبر صحيفة “بيلد” التي ربطت بين مواقف هيلين فارس وبين شعار نازي قديم، يشجع على عدم شراء البضائع من اليهود.
لكن داعمي “مقاطعة إسرائيل” يرفضون مثل هذا الربط، ويؤكدون أن المقاطعة هي آلية ضغط على إسرائيل لوقف الاحتلال، وليست موجهة لأيّ دين، خصوصا أن يهودا كثرا ضمن اليسار، يدعمون حركة “بي دي إس”، كما أن محاكم ألمانية متعددة نقضت قرار تجريمها، واعتبرت حظر أنشطة منظمات تدعم الحركة أمرا غير قانوني.
غير أن ارتباط مؤسسة تابعة لهيئة البث العام، والتي تموَّل مباشرة من جيوب سكان ألمانيا، يجعلها تحت ضغوط كبيرة عندما توجه اتهامات مشابهة لأطقمها، خصوصا عندما تكون الحملة من وسائل إعلام يمينية ذات انتشار كبير، حيث يكون الهدف من تغطيتها مواضيع مشابهة ليس إخبار الجمهور بالضرورة، بقدر ما هو ضغط على المؤسسة لاتخاذ قرار حاسم.
وبسبب حساسية الموضوع المتعلق بفلسطين وإسرائيل في ألمانيا، لأسباب منها التاريخ الألماني النازي، تتبنى جلّ وسائل الإعلام الألمانية خطا غير متوازن في التغطية، وهو ما تؤكده فارس بالقول “معظم الصحفيين الألمان الذين يعملون في منصات إخبارية ألمانية كبيرة، يتلاعبون بالقراء حتى يصدقوا ما يكتبون، يصورون كل ما فعلته الحكومة الإسرائيلية وجيشها خلال الأشهر الستة الماضية بعكس ما يجري في الواقع”.
طرد وتوقيف
ليست هيلين فارس الأولى التي يتم إيقافها عن عملها، فقد أعلنت هيئة البث البافارية والقناة الثقافية “إيه آر تي إي” (ARTE) وقف التعاون مع الصحفي الألماني-النيجيري مالكوم أوهانوي، غداة هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، إثر قوله “إذا كانت ألسن الفلسطينيين مقطوعة بشكل مستمر، فكيف سيدافعون عن أنفسهم بالكلمات؟”، واعتبرت القناتان كلامه دعما لحركة حماس.
ووصل الأمر لطرد صحفيين لمجرد النقاش الداخلي في مؤسساتهم، ومن ذلك طرد صحفية لبنانية، كانت تقضي تدريبا داخل مؤسسة “أكسل شبرينه” الداعمة لإسرائيل، بعد تساؤلها عن مصداقية السردية الإسرائيلية في الحرب على غزة، وهي السردية التي تدافع هذه المؤسسة بشدة عنها، وتعتمدها في وسائل إعلامها، خصوصا صحيفة “بيلد” وقناة “فيلت”.
وتُعد أشهر قضية فصل صحفيين في ألمانيا على خلفية الموضوع ذاته، هي طرد مؤسسة “دويتشه فيله” 7 صحفيين عربا بسبب منشورات قديمة تم النبش عنها ونشرتها صحيفة محلية، مما أدى إلى ضجة واسعة وحملات من الإعلام الداعم لإسرائيل، لكن القضاء الألماني حكم لصالح عدد من المطرودين، وأعادت المؤسسة ملزمة واحدا منهم إلى عمله.
كما سبق لهيئة البث في غرب ألمانيا دبليو دي آر( WDR) أن أوقفت المذيعة الألمانية الفلسطينية نعمة الحسن، التي تعمل كذلك طبيبة، بعدما كان من المقرّر أن تبدأ في تقديم برنامج علمي عام 2021، وبدأ الجدل عندما عاد صانع محتوى يميني إلى صور قديمة لها في مسيرة القدس ببرلين التي رفعت رموزا مؤيدة لحزب الله، وكذلك لإعجابها بمنشورات تنتقد إسرائيل على “إنستغرام”.
يُعد الخوف من فقدان الوظائف، وتحديدا من أن تصبح السمعة متعلقة بتهمة “العداء للسامية” حتى ولو لم يتم إثباتها قضائيا، أو كانت مسيسة ومرتبطة بمواقف ضد سياسات إسرائيل، السبب وراء التزام عدد من الصحفيين المتعاطفين مع الفلسطينيين الصمت أو حتى تعاملهم بحذر زائد للغاية عند إنجاز تقارير تخصّ الوضع في فلسطين.
لكن هيلين فارس تؤمن بالعكس، وتقول “لا أهتم لمساري المهني في ألمانيا إذا كان الثمن هو الصمت على الإبادة الحالية” وتضيف “تهديد مالي لا يعدّ تهديدا إذا ما تمت مقارنته بما يعيشه الفلسطينيون في غزة، ولا يوجد أيّ عذر لعدم النضال لأجل حق تحرير جميع الشعوب”. وتؤكد بقولها “نضالي لن يتوقف، ما دامت صحتي النفسية والعقلية تسمح لي بذلك، فسأتابع معركتي لأجل حقوق كل الشعوب في الحرية وفي حقوق الإنسان”.