غزة- في لحظة، تحوّل الدكتور رائد قدّورة إلى مجرد “رقم” رصدته وزارة الصحة الفلسطينية، التي تُحصي على مدار الساعة ضحايا الحرب المروعة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
ولكن الاستماع إلى شهادات معارف قدّورة، وكذلك بقية الشهداء، يكشف أن خلف كل رقم، ثمّة قصة، قصة “حُلم” اجتهد صاحبه كثيرا في سبيل تحقيقه، وحكاية ألم وأمل وطموحات كبيرة، لم يسمح لها الاحتلال بأن ترى النور.
عمل قدورة على مدى 8 سنوات بجد لتحقيق حلمه في الحصول على درجة الدكتوراه، والفوز بفرصة عمل جيدة، وفي سبيل ذلك بذل كثيرا من التضحيات.
ولكن الاحتلال الإسرائيلي قضى على آمال وتطلعات قدورة في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حينما قصف منزل عائلته في بلدة جباليا، شمالي القطاع، وقتله برفقة نحو 55 من أقاربه، بينهم أطفاله الأربعة، ووالداه، وأغلب إخوته وأخواته وأبنائهم، بينما أصيبت زوجته بجروح بالغة.
معاناة وحلم
حصل قدّورة على درجة البكالوريوس في الأدب الإنجليزي عام 2011، وفي العام التالي فاز بفرصة عمل “مترجما” في مركز دراسات في مدينة غزة.
ولكنّ طموح قدّورة، ورغبته في تحسين وضعه المعيشي ومكانته الاجتماعية، دفعه للسفر إلى ماليزيا عام 2013، في رحلة طويلة استغرقت 8 سنوات، حصل خلالها على درجة الماجستير من جامعة مالايا، والدكتوراه من الجامعة الوطنية الماليزية “يو كيه إم” (UKM).
ورغم أن طموحه أفقده عمله في غزة، والذي كان مصدر دخله الوحيد، لكنه أصر على تحقيق حلمه، واستمر في تحصيله العلمي، وكان عليه المواءمة بين متطلبات الدراسة وبين الإنفاق على أسرته.
وبعد أن بدأ قدورة في حصاد ثمار تعبه، وحصل على فرصة عمل في دولة الكويت مدرسا للغة الإنجليزية، قدِم غزة قبل الحرب لزيارة عائلته، دون أن يتمكن من المغادرة، وقتلته صواريخ الاحتلال.
يقول الدكتور يوسف الجمل، وهو صديق شخصي لقدورة، إنه كان “عصاميا، اعتمد على نفسه، حيث إنه فقد عمله بعد 6 أشهر من وصوله لماليزيا، وبحث عن فرص عمل أخرى في مجال الترجمة والبحث، والعمل الإنساني”.
وتابع الجمل “واصل رائد الدراسة والعمل لمدة 8 سنوات كاملة، وبعد حصوله على درجة الدكتوراه في تخصص العلاقات الدولية، تمكّن من الحصول على فرصة عمل في الكويت، في مجال تدريس اللغة الإنجليزية ليبدأ مرحلة جديدة من حياته”.
وخلال الحرب، وقبل استشهاده بأسبوعين، وضعت زوجته طفلتين توأمين في ظروف بالغة القسوة، إذ أجريت لها عملية ولادة قيصرية بدون تخدير في مستشفى كمال عدوان، نظرا للحصار الذي تفرضه إسرائيل على إدخال الأدوية للقطاع.
وثق أهوال الحرب
تعرفت الدكتورة نورما هاشم، وهي ناشطة اجتماعية ماليزية ومحررة لـ3 كتب حول الأسرى الفلسطينيين، على قدورة للمرة الأولى عام 2012، حينما ترجم لها -عبر الإنترنت- بعض القصص لكتاب “يوميات الأسرى” (الفلسطينيين) الذي أصدرته عام 2013.
وفي حديث خاص للجزيرة نت تصف هاشم، قدورة خلال تلقيه دراسته العليا في ماليزيا بالقول “كان طالبا مجتهدا للغاية، وكان مشرفه على رسالة الدكتوراه سعيدا جدا به، لأنه كان يتبع تعليماته دائما، وأدى العمل بشكل جيد”، وتضيف “أريد أن أتذكر رائد شخصا طيبا وذا قلب طيب ونظيف، لقد كان محبوبا من قبل كل من عرفه”.
وتكشف هاشم أن قدّورة كان يتواصل معها بشكل منتظم خلال الحرب، ويبعث لها رسائل توثق وحشية الاحتلال فيها، إذ بعث لها في 11 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وبعد أيام قليلة على بدء الحرب، يقول “تعرض منزلي يوم أمس، لأضرار مباشرة وجسيمة نتيجة قصف منزل مجاور لمنزلي، تم قصف المنزل دون سابق إنذار، ووقعت مجزرة راح ضحيتها جميع سكان المنزل، بينهم 5 فلسطينيين”.
وفي 11 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أرسل قدورة إلى هاشم صورة لابنتيه التوأمين سما ولمى، وأخبرها أن زوجته ولدتهما بعملية قيصرية دون تخدير لعدم توفره في المستشفى، فأصابت هذه الرسالة هاشم بـ”الرعب الشديد، لأن ذلك كان سيكون مؤلما وصعبا للغاية” كما تقول، وفي الرسالة ذاتها أخبر قدورة هاشم أن “القنابل تتساقط في كل مكان”، ثم عاد ليخبرها أنه لا يجد حليبا لطفلتيه، لأنه “غير متوفر بسبب الحرب”.
ويتضح من رسائل قدورة لهاشم أنه أصبح خبيرا في معرفة نوع الصاروخ الذي يسقط حوله إن كان صاروخ طائرة استطلاع، أو طائرة حربية من طراز إف 16، أو طائرة حربية من طراز إف 35، أو قذائف مدفعية، أو رصاص من مروحية أباتشي.
ويضيف قدورة في نص إحدى رسائله “نستطيع الآن سماع صفير الصاروخ قبل سقوطه على منزل جيراننا، تماما كما حدث لنا أمس، عندما تم استهداف شقة تبعد عنا 30 مترا فقط، وتحطمت نوافذ منزلنا، مما أصاب النساء والأطفال بالرعب”.
تحول إلى “قصة”
وبعد أن كان قدورة يقصّ على هاشم أنباء الحرب وويلاتها وقصص الشهداء، فجأة أصبح هو نفسه خبرا، بعد أن وصلها نبأ استشهاده في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، تقول هاشم حيال ذلك “وصلني خبر مقتله مع 55 من أفراد عائلته، بقصف الاحتلال منزله، كنا جميعا نبكي ونعجز عن الكلام”.
تقول هاشم “ينبغي ألا يتحوّل الفلسطينيون إلى مجرد أرقام، وأن تظل نسخة الغرب الخاصة لما يحدث في فلسطين هي المسيطرة، يجب على العالم أن يسمع منهم”، وترى أن قدّورة هو مجرد مثال على آلاف الشهداء الذين قتلهم إسرائيل، ولم تُحكَ قصصهم بعد، حيث إنهم قيّدوا كـ”أرقام” في سجل ضحايا هذه الحرب.
وتضيف “أريد أن يسمع العالم أصوات الفلسطينيين، وهذا ما تأمل كتبي الثلاثة عن السجناء الفلسطينيين تحقيقه، سوف يستمر الغرب لفترة طويلة في تقديم نسخته الخاصة لما يحدث في فلسطين، نريد أن نسمع من الفلسطينيين ما يحدث بالفعل، وكيف تتأثر حياتهم باحتلال أراضيهم”.
وتشير الناشطة إلى مقولة سمعتها من صديقها الفلسطيني، أستاذ الأدب الإنجليزي الدكتور رفعت العرعير، تقول “إلى أن تتمكن الأُسود من سرد قصصها، ستظل حكايات الصيد تمجّد الصياد دائمًا”، وتختم هاشم حديثها بالقول “بالمناسبة، الاحتلال قتل أيضا العرعير خلال الحرب في قصف منزله بغزة، وينبغي كذلك ألا يصبح مجرد رقم في سجل الضحايا”.