كيغالي – بدأت رواندا رسميا إحياء الذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية ضد التوتسي في مراسم حضرها رؤوساء حاليون وسابقون وممثلون عن أكثر من 37 دولة أفريقية وأوروبية وعربية، ومنظمات إقليمية ودولية.
ودخلت البلاد في حداد رسمي يستمر أسبوعا، تُنكس خلاله الأعلام وتتوقف أي احتفالات، واختارت رواندا إحياء الذكرى هذا العام تحت عنوان “نتذكر، نتحد، نتجدد” ليضيء على مسيرة التحول وخطوات العدالة الانتقالية خلال العقود الثلاثة الماضية.
ذاكرة ذات رهبة
بدأت المراسم بوضع أكاليل من الزهور على قبور جماعية، تضم رفات آلاف الضحايا الذين قتلوا في كيغالي، وسار بعدها الرئيس برفقة كبار الشخصيات من مواقع القبور الجماعية إلى ساحة مفتوحة، حيث أشعل مع السيدة الأولى “شعلة الذاكرة” التي ستبقى متقدة خلال الأيام المئة المقبلة.
وأحيا الروانديون ذكرى الإبادة في موقع “غيسوزي”، الذي دُفن فيه قرابة 250 ألف ضحية قتلوا خلال 100 يوم من المجازر، وتحول إلى موقع تذكاري يوثق قصص الضحايا ويضم صورا وممتلكات شخصية تمكنت لجان التوثيق من جمعها منذ بدء العمل المؤسساتي لتأريخ الإبادة عام 2000.
يعتري الزائر للمتحف قرب النصب التذكاري للإبادة الجماعية في كيغالي شعور بالرهبة والصدمة، فقد علقت على جدران إحدى القاعات صور للضحايا وقصاصات تروي بعضا من قصصهم، وتوثق المكتبة الملحقة بالموقع يوميات قاسية مرت على رواندا، كما أنها تحتوي أرشيفا كاملا من الصحف الأجنبية ومراسلات رسمية وشهادات للناجين ومحاضر المحاكم المحلية التي أنشئت بعد المجازر.
تاريخ مؤلم
تعتبر رواندا تاريخ 7 أبريل/نيسان من كل عام تاريخا يؤشر على بداية المجازر الجماعية عام 1994، وذلك بعد يوم من مقتل الرئيس جوفينال هابياريمانا بسقوط المروحية التي كانت تقله أثناء عودته من جلسة مفاوضات انعقدت في تنزانيا.
في ذلك اليوم، بدأت مليشيا “إنتراهاومي” التابعة لحزب هابياريمانا الحاكم بوضع حواجز في العاصمة، وقتل كل من ينتمي لإثنية “التوتسي”، حيث كان التعرف على الإثنية ممكنا بسبب الهويات المعتمدة في رواندا منذ الاستعمار البلجيكي، والتي تحدد الانتماء الإثني.
وسرعان ما توسعت رقعة المجازر خارج العاصمة وعمّت البلاد، وترافقت مع عمليات تحريض في وسائل الإعلام، وفي السادس من يوليو/تموز سيطرت جبهة رواندا الوطنية على كيغالي لتضع حدا للإبادة.
خذلان المجتمع الدولي
“لقد اخترنا أن نفكر أبعد من أفق المأساة، وأن نصبح شعبًا له مستقبل”، هكذا خاطب الرئيس الرواندي بول كاغامي الحضور الرسمي الذي شارك في إحياء الذكرى، وقال في كلمة له إن “الخيارات التي اتخذها الروانديون، وإيمانهم بأن إحياء الأمة أمر ممكن، أسهمت في التقدم الذي حققته البلاد”، وأضاف “لقد اخترنا أن نفكر أبعد من أفق المأساة وأن نصبح شعبًا له مستقبل”.
ولم يغب الجانب السياسي عن كلمة كاغامي، حيث قال إن بلاده “ستبقى ممتنة لجميع الدول التي ساندت رواندا”، وخص بالذكر جهود جنوب أفريقيا بزعامة نيلسون مانديلا، حيث تكفلت حينها ببعثات أطباء كوبيين عملوا على إعادة تأهيل القطاع الصحي بعد المجازر، واحتضنت طلابا روانديين في جامعاتها.
ووصف كاغامي في كلمته موقف المجتمع الدولي إبان المجازر بأنه اتسم بـ”الجبن والخذلان”، وأثنى على “الوضوح الأخلاقي لممثلي دول مثل نيجيريا والتشيك ونيوزيلاندا في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، الذين قاوموا بشجاعة الضغوط الدولية، وكانوا أول من وصفوا المجازر بأنها إبادة جماعية”.
يُذكر أنه في ذلك العام (1994) كانت قوة تابعة للأمم المتحدة وبلجيكا منتشرة في رواندا، لكنها لم تنل تفويضا لوقف المجازر، وانسحبت بعد مقتل جنود بلجيكيين، أما فرنسا فأرسلت قوات لها بذريعة إقامة منطقة آمنة، لكن حكومة رواندا تتهمها بعدم بذل جهد كاف لوقف المذابح.
وتصر باريس على نفي تورطها في مأساة رواندا، وترفض الإقرار والاعتذار، فبعد سنوات من التوتر الدبلوماسي، اكتفى الرئيس إيمانويل ماكرون خلال زيارته كيغالي عام 2021 بالقول إن “واجب بلاده هو الاعتراف بمعاناة الشعب الرواندي”.
وقال كاغامي إن “مأساة رواندا هي تحذير من أن الانقسام والتطرف يمكن أن يؤديا إلى الإبادة الجماعية في أي مكان من العالم، إذا تُركتا دون رادع”، وحذر مما وصفها بـ”أصوات تعلي السياسات القبلية بما قد يمهد للتحضير لتطهير عرقي”، حسب وصفه.