القاهرة– في سابقة تاريخية، كشفت وزارة الدفاع المصرية عن وثائق عسكرية سرية نادرة، يعود تاريخها إلى حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973، حين بدأت مصر وسوريا هجوما مفاجئا وجريئا ضد إسرائيل؛ لاسترداد الأراضي المحتلة، في حرب ضارية استمرت نحو 3 أسابيع.
الوثائق التي جاءت تحت عنوان “وثائق حرب أكتوبر 1973.. أسرار الحرب”، شملت تقارير العمليات القتالية، ووضع القوات، وسجلات المعلومات الاستخبارية، ومعلومات مفصلة عن التخطيط الإستراتيجي للحرب، وتقييما للوضع الداخلي لمصر وإسرائيل، وتفاصيل أخرى.
وجاء نشر الوثائق المصرية بعد أشهر من إفراج تل أبيب في سبتمبر/أيلول الماضي عن الأرشيف الكامل للحرب.
ورفْع القاهرة السرية عن وثائق حرب أكتوبر، التي سبق أن نشر قادة الحرب جزءا كبيرا منها في مذكراتهم، أثار تساؤلات حول الدلالة الزمنية لنشرها، في ضوء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وما يثار عن أن العلاقات المصرية الإسرائيلية في أدنى مستوياتها. خاصة أن القاهرة أعلنت مشاركتها في الترافع أمام محكمة العدل الدولية، غدا الأربعاء، بشأن ممارسات إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
دلالة التوقيت
في حين لم تُفصح وزارة الدفاع المصرية عن أسباب رفع السرية عن الوثائق، ربط مراقبون الأمر بمرور 50 عاما على الحرب، وكذا الأوضاع الأمنية الإقليمية غير المستقرة، بما فيها العدوان على غزة، والمساعي الإسرائيلية في تهجير الفلسطينيين إلى سيناء المجاورة.
وفي هذا السياق، يقول الخبير في الأمن القومي المصري اللواء محمد عبد الواحد، إن رفع السرية جاء رغبة من بلاده في إطلاع المصريين -خاصة الشباب- والمهتمين بالتوثيق التاريخي، على الوثائق الحقيقية والمتعددة والمتنوعة عن الحرب، التي جاء بعضها بخط يد قادتها العسكريين.
وفي حديث للجزيرة نت، ربط اللواء محمد بين توقيت النشر والتوترات الدولية والإقليمية الراهنة، “وعلى رأسها العدوان الإسرائيلي على غزة وعدم التنبؤ بمستقبل الصراع، وفي ضوء التصريحات الإسرائيلية غير المسؤولة حول إجبار الفلسطينيين على النزوح إلى سيناء”.
وشدد على أنه “كان من الضروري عرض بطولات الجيش في حربه ضد إسرائيل؛ لتعزيز ترابط الشعب بقيادته وتوحيد الجبهة الداخلية، إذا ما حدث أي نوع من التصعيد، والذي قد يصل إلى التصعيد العسكري في الفترة المقبلة”، وفق قوله.
كما أشار إلى أن حرب غزة “كانت لها آثار سلبية ألقت بظلال محبطة على المجتمع المصري؛ بسبب العدوان والدعم الأميركي المتواصل لإسرائيل، ما زاد من تأثر وارتباط المصريين بالمقاومة الفلسطينية خاصة إعلامها المرئي، الذي يظهر الجندي العادي (من المقاومة) وهو يفجّر أقوى دبابة عالمية من طراز ميركافا”.
ومن ثم، يقول محمد عبد الواحد، كان على مصر أن تبين لشعبها أنها نفّذت مثل هذه البطولات، وأن الجندي المصري هو أول من دمّر في حروبه ضد إسرائيل دبابات العدو بسلاح “آر بي جي”.
مضامين الوثائق
تضمنت الوثائق العسكرية التي نشرتها وزارة الدفاع المصرية عبر موقعها الإلكتروني الرسمي، محاور رئيسة؛ هي:
- حرب يونيو/حزيران 1967، ثالث الحروب العربية الإسرائيلية بعد حرب 1948.
- والعدوان الثلاثي (إسرائيل وفرنسا وبريطانيا) على مصر 1956.
- إلى جانب التخطيط الإستراتيجي للحرب بمراحلها المختلفة حتى وقف النار في 28 أكتوبر/تشرين الأول 1973.
- ودور الإعلام العسكري.
- والهيئات والمنظمات الدولية والإقليمية ودورها.
- ومذكرات القادة، تحديدا رئيس الأركان -وقتها- المشير عبد الغني الجمسي.
- والدعم العربي لمصر.
تعرض الوثائق المنشورة طبيعة الحراك السياسي والعسكري المصري، في الفترة التي تلت مبادرة “روجرز” الأميركية، التي دخلت حيز التنفيذ يوم 8 أغسطس/آب 1970 حتى صبيحة حرب السادس من أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وهي مبادرة قدّمها وزير الخارجية الأميركي -آنذاك- ويليام روجرز، يوم 5 يونيو/حزيران 1970، لوقف النار، استجاب لها الطرفان، قبل أن تسقط في 4 فبراير/شباط 1971، حين أعلنت القاهرة رفض تمديد المبادرة واستمرار حالة اللاسلم واللاحرب، مع بدء قيادتها وضع الخطط لاسترداد سيناء.
ركزت الوثائق -بشيء من التفصيل- على عملية “جرانيت 2 المعدلة”، وهي خطة إستراتيجية هجومية على الأهداف الإسرائيلية في سيناء والبحر الأحمر وخليج عدن، غُيّرت مرات عدة بمسميات مختلفة، وصولا لتنفيذها في حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول بمسمى “العملية بدر”.
كما توضح أعمال الخداع الإستراتيجي والتعبوي لحرب تحرير الأراضي المحتلة في كلّ من مصر وسوريا، التي كان من بين أغراضها إخفاء نيات الحشد والتعبئة العامة.
تطرقت الوثائق إلى عدد من تقارير الموقف والسجلات العسكرية بداية أيام الحرب، ومن الضربة الجوية الأولى، والتمهيد النيراني، وعبور قناة السويس، حتى تدمير خط بارليف (ساتر ترابي على الشط الشرقي لقناة السويس)، وإسقاط المواقع الإسرائيلية، إضافة إلى تكوين وبناء رؤوس الكباري (لعبور القوات قناة السويس) وصد الهجمات المضادة للعدو، وتطوير الهجوم شرقا في عمق سيناء.
-
ثغرة الدفرسوار
ومن بين الوثائق العسكرية المنشورة تلك التي تروي تفاصيل الهجوم الإسرائيلي المضاد ليلة 15 و16 أكتوبر/تشرين الأول 1973، ومحاصرة الجيش المصري الثالث غرب قناة السويس، في المعركة المعروفة بـ”ثغرة الدفرسوار”، أو “المزرعة الصينية”.
وقالت وزارة الدفاع عن المعركة إنها “كانت محاولة إسرائيلية مخفقة لتقليص حجم الانتصار المصري، وحفظ كرامتها التي سقطت في الحرب رغم الدعم الأميركي”، مشيرا إلى ما قاله رئيس الأركان الإسرائيلي -آنذاك- موشي ديان “لقد حاولنا وكل محاولتنا ذهبت أدراج الرياح، وليس أمامنا إلا أن نستمر حتى النهاية المريرة”.
كما كشفت تفصيليا العمليات العسكرية خلال هذه المعركة، لكن دون أن تتطرق إلى الخلاف الشهير بين الرئيس محمد أنور السادات ورئيس الأركان الفريق سعد الدين الشاذلي؛ بسبب كيفية التعامل مع الثغرة، وهو الخلاف الذي انتهى بإقالة الشاذلي قبل نهاية حرب أكتوبر، وتعيين الجمسي بدلا منه.
-
مباحثات الكيلو 101
أشارت الوثائق إلى أنه بعد اليوم الـ16 للحرب صدر قرار من مجلس الأمن يقضي بوقف جميع الأعمال العسكرية بدءا من 22 أكتوبر/تشرين الأول، وهو ما قبلته مصر لكن إسرائيل خرقته، مما أدى إلى صدور قرار آخر يوم 24 التزمت به إسرائيل بداية من يوم 28 من الشهر ذاته.
وأوضحت أن إسرائيل اضطرت بعد ذلك إلى الدخول في مباحثات عسكرية للفصل بين القوات، في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني 1973، والمعروفة بـ”مباحثات الكيلو 101″ وهي منطقة على طريق السويس- القاهرة، اتُفق فيها على وقف النار، وتولي قوات الطوارئ الدولية المراقبة، مع بدء تبادل الأسرى والجرحى، وهذا الاتفاق كان مرحلة افتتاحية في إقامة السلام بين الجانبين.
من بين ما كشفته الوثائق العسكرية تقرير سري في الشهر التالي للحرب، لرئيس الأركان الجمسي عن العمليات العسكرية، وضّح فيه أبرز العقبات التي قابلت الخطة العسكرية للهجوم، وكيف تم التغلب عليها؛ ومنها:
- الدعم الأميركي لإسرائيل دبلوماسيا وعسكريا.
- الدفاعات الإسرائيلية على طول القناة.
- إضافة إلى المانع المائي وخط بارليف، والساتر الترابي، والخطوط الدفاعية للعدو في عمق سيناء، والتفوق الجوي الإسرائيلي.
- ومضيق تيران (على خليج العقبة بالبحر الأحمر)، كونه أحد الأسباب الرئيسة لحرب 1967، بعد أن أغلقت مصر المضيق الذي كان شريانا رئيسا تعتمد عليه إسرائيل تجاريا، ويُعدّ الطريق الوحيد لإمدادها بالبترول.
-
خسائر إسرائيل
قدَّر تقرير الجمسي خسائر إسرائيل في الحرب، بسقوط حوالي 5 آلاف قتيل في المعارك على الجبهة المصرية وحدها، وحوالي 12 ألف جريح، وإسقاط 270 طائرة تمثل نصف طائراتها الجديدة، و36 قطعة بحرية تمثل ثلث قطعها البحرية، و900 دبابة، دون أن يكشف عن عدد أسرى العدو، أو الخسائر المصرية في الأرواح والمعدات، بيد أنه شدد على أنها لا تقارن إطلاقا بخسائر إسرائيل.
وكشف التقرير عن عدد من المحادثات العسكرية المصرية مع الدول التي دعمت مصر وسوريا خلال الحرب، وأمدّتها بمقاتلات وجنود؛ ومنها: الجزائر والمغرب وتونس وليبيا والسعودية والعراق والسودان ويوغسلافيا (صربيا).
وذكر الجمسي في تقريره عن الحرب، أن سلاح البترول والأرصدة والعلاقات الاقتصادية كان لها دور فعّال في دعم الموقف المصري، وتحقيق العزلة الدولية لإسرائيل، وتعميق الخلافات بين الولايات المتحدة وحلفائها، ما أظهر الوحدة العربية في أقوى صورها المعاصرة.