ترينتو – تتزايد مسؤولية المراكز الإسلامية التي تخدم المهاجرين العرب والمسلمين في الدول الغربية في هذه الأوقات جراء تصاعد المد اليميني المناهض للمهاجرين في عدد من الدول الأوروبية، ومنها إيطاليا، مما يلقي على قيادات هذه المراكز الإسلامية مسؤوليات متزايدة في الدفاع عن حقوق المهاجرين العرب والمسلمين، والتعريف بالصورة الحقيقية للإسلام، وأيضا مساعدة المهاجرين العرب والمسلمين خصوصا الجدد منهم في الاندماج في مجتمعاتهم، وأيضا التدخل لحل الخلافات داخل مجتمعات المهاجرين.
في هذا الحوار الذي أجريناه في مدينة ترينتو في الشمال الإيطالي مع رئيس المركز الإسلامي الثقافي في المدينة أبو الخير بريغش، يشرح الأخير خلفيات وغايات انطلاق المركز الإسلامي بهذه المدينة المتوسطة الحجم، وطبيعة الخدمات التي يقدمها للجالية المسلمة في المدينة، كما يتطرق بريغش لتفاصيل الوساطة الثقافية والدينية التي يقوم بها المركز للتعامل مع عدد من الخلافات التي تنشب بين مسلمي ترينتو.
ويبين رئيس المركز الإسلامي لترينتو في المقابلة التي أجريت في مقر المركز، الاختلاف في تعامل السلطات الإيطالية مع حجاب المسلمات عن تعامل نظيرتها الفرنسية التي أقرت عدة تشريعات متشددة تجاه لباس المسلمات في بلدها، لكن أبو الخير بريغش يشدد على أن من أخطر التحديات التي يواجهها المسلمون في إيطاليا هو تصاعد موجة الشذوذ الجنسي والإلحاد.
-
ماذا يقدم المركز للجالية المسلمة بمدينة ترينتو في مختلف المجالات؟ وكيف تطور عمله منذ تأسيسه؟
عمر مركزنا 5 عقود، فلما جئت إلى ترينتو وحصلت على الشهادة الجامعية في الطب، بدأ العمل مع الأقليات المسلمة في المدينة مع الجيل الأول ثم الثاني فالثالث، وحاليا نعمل مع الجيل الرابع في إيطاليا.
وكانت بداية العمل الإسلامي هي خدمة الناس والمجتمع وما يسمى الجالية ولو أنها ليست بالتسمية الصحيحة، لأننا أصبحنا مقيمين في هذا البلد، وأصبحت بلادنا وبلاد الأجيال المتعاقبة.
في بداية الأمر كانت إيطاليا لا تمنح الإقامة إلا لفئة محدودة جدا من المهاجرين، وانحصر ذلك في السفراء وأعضاء القنصليات ولبعض التجار وذوي المصالح الاقتصادية، وفي العام 1989 فتحت إيطاليا أبواب الإقامة للمهاجرين لحاجتها لليد العاملة بعدما سبقتها دول أوروبية أخرى في هذه الخطوة.
وأولى وفود المهاجرين المسلمين إلى إيطاليا كانت مكونة من شباب دون عائلاتهم، وبعد استقرار أوضاعهم ومع مرور الوقت جلبوا أسرهم ليستقروا معهم بالبلد، فارتفعت أعداد المسلمين ليقارب عددهم حاليا 3 ملايين من شتى الجنسيات ومن مناطق مختلفة من شمال أفريقيا والشرق الأوسط وشرق آسيا.
المركز الإسلامي الثقافي في ترينتو يقدم خدمات عامة للمسلم وغير المسلم، ومنها البحث عن عمل وعن السكن، وترجمة الوثائق، والوساطة الثقافية والدينية
وفي ظل الغربة وصعوبة الحياة، برزت الحاجة إلى المراكز الإسلامية والمساجد لتكون بمثابة أماكن لتعارف وتعاون أبناء الأقلية المسلمة في إيطاليا، ومثلما هناك صعوبات مرتبطة ببلاد المهجر، فإن ثمة فرصا للتعاون بين النخبة المسلمة وعموم المسلمين الموجودين في إيطاليا.
ويقدم المركز خدمات عامة للمسلم وغير المسلم، ومنها خدمة البحث عن عمل وعن السكن، وترجمة الوثائق، والوساطة الثقافية والدينية، التي يقصد بها التدخل عندما تقع خلافات داخل أماكن العمل في ترينتو بين رب العمل والعامل، وفي المدرسة، وداخل العائلة نفسها.
-
كيف يمارس المركز الوساطة الثقافية والدينية؟
يمارس المركز هذه الوساطة من خلال إدارته والقائمين عليه بشكل عام، مثلا عندما تقع خلافات بين الآباء والأمهات من جهة وبين الأبناء من جهة أخرى، وبين الزوج والزوجة، وبين رب العمل والعامل، فيأتي أحد الطرفين ليطلب مساعدة المركز الإسلامي الثقافي، آنذاك نبذل جهدنا للمساهمة في حل الخلافات بطريقة أو بأخرى.
بعض الحالات رغم تدخلنا يكون مصيرها الفشل جراء تعنت أحد الطرفين، ولكن في الغالب الأعم يكون تدخل المركز مفيدا جدا وناجحا، لأنه سواء الطرف الإيطالي (رب العمل) أو الطرف المسلم (العامل) بحاجة إلى جهة يلجؤون إليها ليفهموا حقيقة بعض الأمور، فمثلا يسألنا رب العمل الإيطالي: هل الإسلام يقول كذا وكذا مثلما يقول هذا العامل المسلم؟
-
حبذا لو تقدم لنا نماذج ناجحة في الوساطة التي تقومون بها ويكون لها علاقة بالدين الإسلامي بين طرف مسيحي وآخر مسلم في ترينتو.
أغلب الحالات تكون بين أصحاب العمل والعمال بحكم أن الطرف الأول لا يفهم طبيعة حياة المسلم، فمثلا عامل مسلم ملتزم نهاره في العمل لا يسمح له بأداء الصلوات في أوقاتها المحددة، فإذا شرح العامل لمشغله حاجته لوقت يؤدي فيه الصلوات الخمس، فقد يرى رب العمل في ذلك محاولة من العامل للتهرب من العمل، ولكننا يشرح المركز الإسلامي الثقافي لرب العمل أن ذلك من مقتضيات الدين الإسلامي، وأنه جزء لا يتجزأ من التدين.
وكذلك الأمر بالنسبة لحجاب المرأة المسلمة، فكم تعاني المسلمات في بلاد الغربة، إذ إن العديد من الناس هناك يرون في الحجاب مجرد عادة أو إجبار من الآباء أو الزوج، فيتدخل المركز ليبيّن ما ينص عليه الدين الإسلامي في هذا الباب، وفي كثير من الأحيان نجد تفهما لدى الطرف الإيطالي لهذه الخصوصية الدينية، بل إن بعض أرباب العمل الإيطاليين لما فهموا مقتضيات الإسلام في مسألة الصلاة، خصصوا قاعة للعمال المسلمين لكي يقيموا فيها هذه الشعيرة.
-
كيف هو الوضع في إيطاليا بشأن زي المسلمة، سواء الحجاب أو العباءة، مقارنة بما جرى في الفترة الأخيرة في فرنسا من تشديد للقوانين وقرارات الحكومة إزاء زي المسلمة؟
الوضع في إيطاليا ولله الحمد مختلف تماما عما يجري في فرنسا، فليس ثمة أي تشدد من السلطات الإيطالية، فالقانون المحلي يقر بقرارات من رئاسة الوزراء ومن وزارة الداخلية بأن حجاب المرأة المسلمة جزء من دينها، ولذلك يسمح للمسلمة في الوثائق الرسمية مثل بطاقة الهوية وجواز السفر بارتداء الحجاب، الشرط الوحيد هو أن يكون الوجه واضحا.
والمشكلة لا تأتي من القانون الإيطالي ولكن من الناحية الاجتماعية وتقبل بعض الأطراف في إيطاليا، ومن بعض الموظفين الإيطاليين الذين لديهم تشدد، وعندما تذهب إليهم بعض النساء لتجديد بطاقات الهوية أو جوازات السفر يقولون لها اخلعي الحجاب.
وآنذاك نتدخل في المركز لنقول لهذا الموظف أو ذاك إن القانون الإيطالي يسمح للمرأة المسلمة وحتى لبعض الأقليات الدينية بأن يلبسن ما يفرض عليهن دينهن، شريطة احترام بعض المقتضيات القانونية مثل إظهار الوجه كاملا في الصورة عند إنجاز بعض المعاملات.
بخلاف ما يجري في فرنسا، ليس ثمة أي تشدد من السلطات الإيطالية تجاه الحجاب، فالقانون المحلي يقر بموجب قرارات من رئاسة الوزراء ووزارة الداخلية بأن حجاب المرأة المسلمة جزء من دينها
-
إذن جوهر مهمة مركزكم هو الحفاظ على الهوية الدينية الإسلامية واللغة العربية للمسلمين الموجودين في هذه المنطقة الإيطالية، فكيف تقومون بهذا الأمر؟
أولا بالقيام بالأنشطة الدينية البحتة، ومنها إقامة الصلوات الخمس وصلاة الجمعة وصلاة العيد، وإحياء المناسبات الدينية والاجتماعية عندما يولد مولود أو يتوفى شخص ما، كما يحتضن المسجد الموجود في المركز الإسلامي الثقافي مناسبات أخرى مثل الأفراح والعقيقة، وتوثيق عقود الزواج.
إضافة إلى ذلك، يهتم المركز باللغة العربية، فهو موضع قلق كبير لدينا، فهي لغة القرآن، فمن لا يجيد هذه اللغة يصعب عليها فهم النص القرآني، وأيضا اللغة مهمة لأنها وسيلة تواصل بين الأجيال الصاعدة من المهاجرين المسلمين في إيطاليا وبين أقاربهم في بلدان المنشأ.
وكم من الأطفال والشباب عندما يأتون من بلدانهم الأصلية يقولون: لا نريد العودة إلى تلك البلاد، وعندما نستفسر عن السبب يردون بأنهم لا يجيدون الحديث بالعربية ولا نتفاهم مع أجدادنا وأعمامنا وخالاتنا.
في المقابل، هناك صورة معاكسة، فالذين تعلموا اللغة العربية في المساجد من الطلاب والتلاميذ -ساعد في ذلك تعاون أسرهم- عندما يذهبون إلى بلدانهم الأصلية يرجعون منها وهم سعداء، لأنهم يتواصلون لغويا من أقاربهم وذويهم، بل إن النماذج التي وقفت عليها أن أحد الطلاب رجع واستقر في بلد عربي، وعندما دخل إلى إحدى المدارس هناك تفاجأ معلم العربية بمستواه اللغوي رغم أنه قادم من بلد أوروبي مثل إيطاليا، وعندما سأله المعلم عن السبب، قال له الطالب إنه تعلم العربية في المركز الإسلامي.
ونرى أن جهد تعليم العربية الذي يقوم به مركزنا، وكل المراكز الإسلامية في إيطاليا بدرجات متفاوتة، هو جهد مقدس، حيث يتم بذل تضحيات كبيرة بتوفير المعلمين المناسبين المتمرسين الذين نقيم لهم دورات تدريبية، وليس كما كان في الماضي بطريقة تطوعية عفوية.
كما أننا لم نعد نعتمد في تعليم العربية على مناهج دراسية تجلب من البلدان العربية كما كان الأمر في السابق، بل على مناهج يؤلفها كتاب يعيشون في دول أوروبية بحيث يكون المنهج مناسبا للبيئة الأوروبية للطلاب المسلمين.
-
ما أكثر الإشكاليات والصعوبات التي يتصدى لها المركز إلى جانب ملف الإسلاموفوبيا؟
من أبرز الصعوبات والمشاكل الخطيرة التي تحدث ما يتعلق بالشباب والفئات الناشئة المسلمة في إيطاليا، ألا وهي تعرضهم للهجوم في الفضاءات الاجتماعية والتعليمية بغرض إفساد الفطرة لدى هؤلاء الشباب من الناحية الأخلاقية والدينية مثل الشذوذ الجنسي والإلحاد.
وهذا الأمر ينبع من كون هؤلاء الشباب المسلمين تفرض عليهم طبيعة الحياة في إيطاليا العيش أغلب الوقت مع الإيطاليين، سواء في المدارس أو الرحلات المدرسية، فإذا لم يكن أولياء الأمور على درجة من الوعي والثقافة والمعرفة العامة والدينية، والمعرفة بأصول التربية والعلاقة مع الأبناء، فإنه تحدث حالات مؤسفة للغاية.
ونحن بحاجة إلى خبراء في القضايا النفسية والدينية البحتة، رغم أنه يتوفر في الكثير من المراكز الإسلامية أئمة متخصصون في الشريعة ويساهمون بشكل كبير في هذه التوعية المطلوبة، ولقد أنشأ مؤخرا المعهد الإيطالي للعلوم الإسلامية والإنسانية مركزه في مدينة فيرونا، ولكن نشاطه يشمل عموم إيطاليا.
-
ما أبرز ملامج الهجمة المتعلقة بموجة الشذوذ والإلحاد؟ وما الذي يفعله المركز لمواجهتها؟
من أخطر الجوانب المرتبطة بهذه القضية للأسف الشديد هو أنها أصبحت ضمن قوانين البلاد، فأحيانا تستطيع التعبير عن رأيك وما يقوله الدين الإسلامي في الأمر، ولكن أصبحت ثمة صعوبة كبيرة في اختيار الألفاظ المناسبة لشرح هذه الأمور لغير المسلمين وللشباب والفتيات في الأقلية المسلمة.
لذلك نحاول قدر الإمكان أن نتحالف ونتعاون مع شرائح طيّبة من المجتمع الإيطالي من غير المسلمين من المناهضين للشذوذ الجنسي ويبحثون عن استقرار الأمور الفطرية، فالعائلة مكونة من رجل وامرأة، والفطرة تنبذ الشذوذ.
-
من هي هذه الشرائح داخل إيطاليا التي تتحالفون معها لمواجهة هذه الموجة؟
هي شرائح المتدينين المسيحيين، لأن المتدينين من كافة الأديان يناهضون عموما هذه الأفكار، إضافة إلى وجود فئة من الإيطاليين تدافع عن مبدأ الحرية الشخصية، وتقول إنه مثلما أقرت الدولة الشذوذ والإلحاد في قوانينها، فإنه من حق الآخرين المخالفين تبليغ ما لديهم من أفكار دينية أو شخصية أو ثقافية.
ومن أولئك الذين نتحالف معهم أساتذة جامعات وأطباء وعائلات يعارضون هذه التوجهات المتعلقة بالشذوذ.
فئة من الإيطاليين تدافع عن مبدأ الحرية الشخصية تقول إنه مثلما أقرت الدولة الإيطالية الشذوذ والإلحاد في قوانينها، فإنه من حق الآخرين المخالفين تبليغ ما لديهم من أفكار دينية أو ثقافية
-
رغم حاجة أوروبا للعمالة الشابة المهاجرة، فإن الدول الأوروبية، ومنها إيطاليا، لا تريد هذه الأفواج التي ترى فيها تدفقا عشوائيا، ويرى فيها البعض تهديدا لاستقرار بلدانهم، وبعضهم يرى فيها تهديدا للأصول المسيحية لأوروبا، فما رأيكم في هذه النظرة؟
هذه نظرة غير واقعية، هي مصطنعة يستغلها اليمين المتطرف، لأن الواقع يقول إن هذه الأفواج لن تؤثر في كيان الدول الأوروبية، فمثلا يوجد فرنسا 6 ملايين مسلم منذ زمن بعيد ومع ذلك لم يتغير جوهر الدولة الفرنسية العلمانية.
وهذه النظرة السلبية نابعة من منظار تاريخي سيئ للعلاقة بينهم وبين الإسلام والمسلمين، وإذا أردوا حقا منع هذه الهجرة، فليكفوا شرهم عن الثروات والموارد الطبيعية في البلدان التي يأتي منها المهاجرون بحيث تستطيع دولهم النهوض بها.
الكثير من الخبراء الأوروبيين المنصفين يقولون نحن بحاجة إلى المهاجرين، ويضيفون لو توقفت الهجرة لأغلقت الكثير من المصانع والمزارع ولتعطل الاقتصاد، وذلك بسبب ارتفاع نسبة الشيخوخة وقلة المواليد.
وقد حاولت الدول الأوروبية تشجيع مواطنيها على الإنجاب بمختلف الأشكال، ولكنها فشلت في ذلك بسبب العقلية الأوروبية المادية.
-
اذكر لنا بعض الأمثلة المشرقة لمهاجرين مسلمين في ترينتو، والذين يقدمون صورة معاكسة للصورة السلبية عن المهاجرين لدى فئات من الإيطاليين.
أود الحديث عن المرأة المسلمة لأن ثمة اتهامات لهذه المرأة وللإسلام بأحكام مسبقة، فهناك مسلمات قدمن صورة طبية في المجتمع المحلي في المدارس عن طريق إنجازاتهن كطالبات أو أساتذات أو معلمات، فثمة معلمة مسلمة تدرس العربية في جامعة حكومية بمدينة ترينتو.
وهناك العديد من معلمات اللغة العربية في مدارس إيطالية وناشطات في المنظمات الاجتماعية والتطوعية في المدينة، إضافة إلى ذلك عدد من المهاجرين الرجال الذين يسهمون في فرق الدفاع المدني والصليب الأحمر والمنظمات التطوعية، كل هؤلاء وأولئك يقدمون أعمالا وأنشطة تعليمية وتطوعية هي محل فخر لكل الأقلية المسلمة في ترينتو.