بعيدا عن السياسات الساخرة أو المسيحانية التي تحكم البلاد، تكشف إسرائيل عن شعور بالهزيمة والانقسام، وعن قلق وجودي متجذر في آلام السابع من أكتوبر/تشرين الأول الحية، ويتجدد كل لحظة بسبب الشعور بأن البلد عالق في غزة، ومع ذلك لا يبرز أي شعور بمعاناة الفلسطينيين.
بهذه المقدمة، افتتح موقع ميديابارت الفرنسي مقالا لجوزيف كونفافرو بدأه بتساؤل غريب عن احتمال حل ينتج دولتين إلى جانب الدولة الفلسطينية التي حصلت على تقدم رمزي في الأمم المتحدة.
وهذا التصور -حسب الكاتب- هو الذي عبر عنه الدبلوماسي الإسرائيلي السابق ألون بنكاس قائلا: “هناك الآن دولتان قائمتان؛ إسرائيل ويهودا، ولديهما رؤية متعارضة لما ينبغي أن تكون عليه الأمة، أي أن إسرائيل مهما كان ستنقسم إلى دولتين، إسرائيل بلد التكنولوجيا الفائقة والعلمانية والانفتاح على الخارج والليبرالية وإن كانت غير مثالية؛ ومملكة يهودا، الثيوقراطية اليهودية الفوقية المتطرفة المناهضة للديمقراطية والانعزالية”.
ومثل الكاتب الانقسامات في المجتمع الإسرائيلي بالتعارض بين القدس الدينية وتل أبيب الاحتفالية، مشيرا إلى أن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي تدمر حكومته المقابر والجامعات في غزة، يبدو كما لو كان يسعى لتدمير ماضي غزة ومستقبلها، ويجر الفلسطينيين إلى القبر، ومواطنيه إلى الحائط.
خلافات
ونبه كونفافرو إلى أن الخلاف الصامت حتى الآن بين الجيش ونتنياهو، وحتى داخل حكومة الحرب التي تشكلت بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول مع رئيسي الأركان السابقين بيني غانتس وغادي آيزنكوت، أصبح الآن مرئيا في الساحة العامة.
فقد أصدر بيني غانتس إنذارا نهائيا، أكد فيه أنه سينسحب من الائتلاف إذا لم توضع خطة واضحة والموافقة عليها قبل الثامن من يونيو/حزيران، وقال لنتنياهو: “إذا اخترتم اتباع طريق المتعصبين وإغراق البلاد بأكملها في الهاوية، فسنضطر إلى الاستقالة من الحكومة”، ليرد نتنياهو بأن غانتس يريد “هزيمة إسرائيل والحفاظ على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) سليمة وإقامة دولة فلسطينية”.
ومع ذلك لاحظ الكاتب أن الخلافات بين الرجلين تبدو إستراتيجية وشخصية أكثر مما هي هيكلية، وأنها تعكس انقسامات المجتمع الإسرائيلي الذي يعطي 40% منه الأولوية للهجوم على رفح على التوصل إلى اتفاق لصالح غزة.
وفي هذا السياق، يأتي حديث وزير الدفاع يوآف غالانت علنا للتعبير عن رفضه إقامة “نظام عسكري إسرائيلي” وضرورة “سيطرة الكيانات الفلسطينية على غزة” بمشاركة جهات دولية، في تناقض مباشر مع مواقف رئيس الوزراء.
ويقول عامي درور، وهو جندي سابق تحول إلى رجل أعمال: “بمثل هذا النوع من التصريحات، يكون غالانت أقل استعدادا لليوم التالي لحماس من استعداده لليوم الذي سيحاكم فيه أعضاء هذه الحكومة بتهمة ارتكاب جرائم حرب. نحن في وضع يدعي فيه الوزير الذي يقود الحرب علانية أن رئيس الوزراء يتصرف ضد مصالح البلاد، وأن إسرائيل تشن حربا من أجل بقاء نتنياهو في السلطة”.
ويرى عامي درور أن “الحكومة اليوم أقل اهتماما بإنهاء الحرب من اهتمامها بتحويل إسرائيل إلى دولة مماثلة لما هو موجود في إيران، إذ يعتمد نتنياهو بشكل كامل على الصهاينة المتدينين والأرثوذكس المتطرفين، حتى إنه سيدفع لهم ثمن مستوطنة على القمر إذا طلبوا منه ذلك”.
حياة يومية بدون تغيير
ويخرج عامي درور -كما يقول الكاتب- على شاطئ غوردون، حيث تقدم المقاهي مجموعة لا نهاية لها من العصائر والفواكه الطازجة في تل أبيب، وكأن أطول حرب في تاريخ إسرائيل لم تكن موجودة، وكما لو أن الدماء وأطنان الركام لا تتراكم كل يوم على نفس الخط الساحلي جنوبا، وكما لو أن عوالم متوازية، مكونة هنا من نخب الأفوكادو والروبيان وهناك من الأطفال الذين ضربتهم المجاعة، يمكن أن تتعايش لفترة طويلة على مرمى حجر من بعضها البعض.
ومع ذلك، خلف الحياة اليومية التي تبدو بدون تغيير، عبّر الكثيرون عن شعورهم بالضيق العميق. ويقول أورين شفيل، أحد مؤسسي منظمة “إخوة وأخوات في السلاح” الذي يعيش في كفار هأورانيم، على بعد 30 كيلومترا شرق تل أبيب: “معظم الإسرائيليين يشعرون بالاكتئاب بسبب الوضع في البلاد”.
ومع انتشار صور المحتجزين الإسرائيليين في كل مكان وإظهار أن الصدمة لا تزال قائمة بسبب هجمات أكتوبر/تشرين الأول ومصير المحتجزين، فإن صور غزة والجثث المصفوفة بالعشرات في أكياس بلاستيكية، والمستشفيات المدمرة، والأمهات اللاتي يكتبن أسماء أطفالهن على أجسادهم حتى يمكن التعرف عليهم، لا يمكن رؤيتها في إسرائيل.
من ناحية أخرى، يبرز عنصر ثان للضيق الذي يعاني منه المجتمع الإسرائيلي بشكل أقل صراحة، وهو اعتقاد الكثير من الناس أن الحرب خاسرة، فيقول الصحفي حاييم ليفينسون: “يجب أن نقول الحقيقة. إن عدم القدرة على الاعتراف بذلك يحدد كل ما تحتاج لمعرفته حول النفس الإسرائيلية، سواء كانت فردية أو جماعية. لقد خسرنا الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول”.
وبالنسبة لعامي درور “لا يمكننا أن نكسب الحرب إذا لم نحدد أهدافها. أنا لا أتساءل عن ضرورة الدخول إلى غزة، لكننا الآن ندخلها ونخرج منها وندخلها، حتى متى ولماذا؟ أما المخرجة شيري تسور فكانت أكثر وضوحا: “لقد نجح فخ حماس حتى النهاية. نحن في نفس الوضع الذي عاشه الأميركيون في فيتنام”.
شعور بالعزلة
وإلى الشعور بخسارة الحرب وغياب أدنى تعاطف مع قتلى المدنيين بغزة، يضاف الشعور بضعف العلاقة مع الولايات المتحدة نسبيا، رغم استمرار تدفق المساعدات العسكرية والمالية، كما يقول الكاتب.
ويقول أورين شفيل: “أنا قلق للغاية بشأن الطريقة التي ينظر بها العالم إلى إسرائيل اليوم. يمكن الشعور بهذا في وسائل الإعلام، ولكن أيضا في عملي. نجد أنفسنا مضطرين للدفاع عن أنفسنا أمام محكمة العدل الدولية رغم تعرضنا لهجوم من أشخاص يريدون القضاء علينا”.
ويشكل هذا الشعور بالعزلة -حسب الكاتب- العنصر الحاسم الثالث للضيق الحالي الذي يعاني منه قسم كبير من المجتمع الإسرائيلي، حيث يؤدي الرفض من جانب الحلفاء المخلصين مثل ألمانيا والولايات المتحدة، وفرار ما يقرب من 800 ألف شخص من القتال منذ الهجوم الإسرائيلي، إلى تعزيز الميول والمخاوف الهوسية لدى سكان إسرائيل.
وتقول شيري تسور: “لقد قمت بحملة طويلة من أجل ما بعد الصهيونية، لكنني لم أكن صهيونية أبدا في حياتي، بمعنى الحق في وجود وطن قومي لليهود المضطهدين في جميع أنحاء العالم. كنت أعتقد أنه من الممكن تحقيق السلام من خلال إعادة الأراضي المحتلة، وتعويض لاجئي عام 1948، وإقامة مساواة حقيقية مع الفلسطينيين في إسرائيل. لكنني لم أعد أؤمن بذلك”.
“كان العدو الرئيسي دائما بالنسبة لي -كما تقول- هو اليمين الإسرائيلي واليمين المتطرف، لكنني أدرك الآن أننا محاطون بأعداء أخطر. الآن إلى أين يمكنني أن أذهب إذا اضطررت إلى المغادرة مع عائلتي، إلى أوروبا حيث يتعين على الناس إخفاء يهوديتهم أم إلى الولايات المتحدة حيث تعد الجامعات بأن فلسطين سوف تتحرر من النهر إلى البحر؟”.
ورغم أن معارضي سياسة الحكومة يعبرون في بعض الأحيان عن عدم موافقتهم على الطريقة التي تدار بها الحرب في غزة، فإن استشهاد الآلاف من أطفال غزة لا يشكل جزءا من الضيق الحالي في المجتمع الإسرائيلي.
دعوة اللاعنف
ويعترف أفنير ويشنيتزر، وهو عضو سابق في قوات كوماندوز بالجيش الإسرائيلي ومؤسس مشارك للمنظمة، بأن “كل شيء أصبح أصعب منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لأن مستويات الكراهية والخوف لا تضاهى بأي شيء شهدناه من قبل”.
ويكاد الرجل يغضب عندما نسأله عن مطلب اللاعنف الذي يطرحه؛ هل يمكن سماعه بالفعل بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ليقول: “نحن متهمون بالسذاجة، لكننا نعرف ما يعنيه حمل السلاح والقتل ونعرف أيضا ما يعنيه التخلي عنه. إن الرد بالقوة وحدها أمر طفولي، إذا لم تفهم إسرائيل أن وجودها لا يمكن أن يقوم على القوة وحدها، فإنها ستنتهي من الوجود، يقول الصحفي البريطاني حاييم ليفينسون إن إسرائيل اليوم ليست أكثر من مجرد “ملجأ مع قوة جوية”.
وقبل بضعة أيام، نظمت منظمة مقاتلون من أجل السلام حفلا مشتركا بين اليهود والفلسطينيين مع منتدى عائلات دائرة الآباء، وهي منظمة تجمع بين العائلات اليهودية والفلسطينية المكلومة بسبب وفاة طفل على يد مقاتلين فلسطينيين أو إسرائيليين.
وتساءل جوزيف كونفافرو هل يتعلق الأمر على الأقل بتقاسم المعاناة في الوقت الذي يبدو فيه تقاسم الأراضي احتمالا أبعد من أي وقت مضى؟ تقول روبي داملين واحدة من زعماء هذه الحركة: “نحن لسنا مجموعة دعم. لدينا أجندة. نعلم ببساطة أن الانتقام لن يوصلنا إلى أي شيء، وأنه من الضروري ضمان عدم عيش الفلسطينيين والإسرائيليين في عوالم متوازية، كما هي الحال اليوم. إن الاعتراف بمعاناة الآخرين لأنهم مشابهون لك، يمكن أن يكون خطوة نحو التلاقي”.