خريطة النفوذ في السلطة: أصابع كثيرة في انتظار النعي

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 23 دقيقة للقراءة

بعد أن انطلق طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، عاد السؤال عن دور السلطة الوطنية الفلسطينية وحضورها في المشهد الفلسطيني بقوة، وهي التي كانت قبله تضع آخر وردة على قبر هذا الجسم السياسي، وتستحيل إلى مجرّد سلطة بلا سلطة حقيقية، تدير بلديّة كبرى تدعى الضفّة الغربية، في مناطق “أ” و”ب” منها فقط، وتكتفي بدور أمني في حماية أمن إسرائيل ومستوطناتها، بلا أي هدى سياسي.

ولكن، ما إن مرّ نحو شهرين على الطوفان، حتى بدا أن للسلطة متحدّثين باسم “مشروعها السياسي”، فأصبح الفلسطينيون يرون وجوهًا تصرّح، أبرزهم: حسين الشيخ، ومحمد اشتية، وجبريل الرجوب. وقد أعاد هذا الحضور لمثل هذه الشخصيات، والغياب الواضح للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس (أبي مازن) الذي لم يخاطب شعبه مرّة واحدة، السؤال حول: من يخلُف أبي مازن؟

آخر الملوك

منذ توليه منصب الرئاسة عام 2005، أحكم محمود عباس قبضته على مراكز القوى الفلسطينية، بتوليه إلى جانب منصب رئيس السلطة ، رئاسة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، لتشكل هذه الثلاثية، عقدة في إرث الرجل الذي بلغ عمره 88 عامًا، ومحورًا لصراعات مرتقبة داخل حركة فتح والسلطة الفلسطينية خصوصًا، ثم في المشهد السياسي الفلسطيني عمومًا.

ورغم تعدد التكهنات والتوقعات حول الشخصية التي سترث محمود عباس عقب رحيله، فإن ما يُطرح من نقاشات حول مرحلة “ما بعد عباس” قد يميل إلى أنه لن يستطيع أيٌّ من المرشحين منفردًا ملء هذا الفراغ وإحكام قبضته بشكل مطلق على السلطات الثلاث، وإلى أن تركة الرجل ستتوزع بين الورثة في السلطة وفتح بالدرجة الأولى، وستخضع لموازين القوى والتحالفات وقدرة كل تيار داخل فتح على انتزاع المكاسب الكبرى.

بالطبع، فإن هذه النقاشات تجري بعيدًا عن حدوث أيّ انتخابات، وهي الحق الذي حرم عباس منه الفلسطينيين قرابة 20 عامًا، بعد دخول المشهد الفلسطيني -بعد عامين على توليه الرئاسة- نفق ما اصطلح على تسميته “سنوات الانقسام”، التي رافقها تفرد مطلق بالسلطة، وإقصاء لكل الخصوم والمنافسين المتوقعين، والاستئثار إلى جانب السلطة والمال بقرار إجراء الانتخابات، التي كانت قاب قوسين أو أدنى عام 2021، قبل أن يصدر محمود عباس قرارًا بإلغائها تحت ذريعة “التأجيل لرفض الاحتلال إجراءها في القدس”.

بعد 19 عامًا متواصلة في الحكم، واقتراب عمره من تسعين عامًا، والأحاديث التي تتردد سنويًّا عن حالته الصحية، والإشاعات الموسمية عن تدهورها، والرواية الرسمية المضادة بوصف ذلك كل مرة بأنه “فحوص روتينية”، وظهوره الرسمي بعدها في لقاءات أو مؤتمرات أو أحاديث إعلامية، أصبحت سيناريوهات ما بعد عباس، واستقراء المشهد الفلسطيني خلالها، الشغل الشاغل لتقارير دولية ومراكز أبحاث حول العالم، بالنظر إلى الصراع المحموم بين أركان السلطة وحركة فتح على التسابق لانتزاع مكاسب سياسية وتنظيمية، تزيد فرص تقدمهم نحو هذه المرحلة التي لا يجري نقاشها بشكل علني في صفوف حركة فتح أو السلطة الفلسطينية.

ماذا سيحدث في اليوم التالي؟

في فبراير/شباط 2023، أصدرت مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل تقريرًا حول “معركة خلافة عباس”، وضعت فيها ثلاثة سيناريوهات حول مآلات المشهد الفلسطيني في اليوم التالي لرحيل عباس عن الحكم، مشيرة إلى أن هذه المعركة قد تفضي في أسوأ حالاتها إلى “انهيار السلطة الفلسطينية بالكامل”.

السيناريو الأول هو إجراء انتخابات رئاسية فلسطينية على أسس قانونية، وهو وإن كان السيناريو الأفضل، فإنه الاحتمال الأضعف بالنظر إلى عدم وجود أي آفاق لإجراء هذه الانتخابات، سواء على صعيد الترتيبات الداخلية في حركة فتح أو على صعيد التوافق مع حركة حماس وباقي الفصائل الفلسطينية. هذا فضلًا، عن احتمال أن يلغي أبو مازن الانتخابات بشكل فجائي، إذ يتخوّف من خسارة جديدة لحركة فتح في ظل تراجع شعبيتها وصعود أسهم غريمها السياسي حركة حماس.

أما السيناريو الثاني وفقًا لتقرير المركز، فهو أن يلجأ عباس لاختيار خليفة له وهو على رأس السلطة، أو إسناد المهمة لحركة فتح، وهو ما وُصف بـ”الاختيار الذي قد يحقق استقرارًا نسبيًّا في مرحلة انتقالية”. وهنا تتفاوت الترجيحات والتكهنات بين لجوء عباس لاستحداث منصب نائب الرئيس، أو اختيار شخصية من المحكمة الدستورية أو حركة فتح لتولي المنصب، في ظل استبعاد خيار تولي رئيس المجلس التشريعي لمنصب الرئيس الانتقالي، بعد قرار محمود عباس عام 2018 حلّ المجلس التشريعي، والدعوة إلى انتخابات مبكرة، وهي الخطوة التي وصفتها حركة حماس آنذاك بأنها “تفتقد لأي قيمة دستورية أو قانونية”.

وأما السيناريو الثالث الذي قدمه التقرير، فهو فوضى شاملة تضرب الضفة الغربية، واشتعال مواجهة دامية بين أقطاب السلطة الفلسطينية وحركة فتح، تقودها المجموعات المسلحة الموالية لعدد من قادة الصف الأول في السلطة أو التنظيم، بعد سيطرتها على مناطق مختلفة في الضفة، وهو ما سيقود إلى أزمة سياسية وأمنية كبيرة، قد تؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية.

يغذي هذا السيناريو، سلسلة ممتدة من المداهمات التي شنتها أجهز السلطة الأمنية ضد مجموعات مسلحة في الضفة الغربية، واتهامها بالولاء للقيادي المفصول محمد دحلان في شمال الضفة ومخيماتها، وأخرى محسوبة على رئيس جهاز المخابرات السابق توفيق الطيراوي.

 

وفي يناير/كانون الثاني 2020، كشفت مصادر فلسطينية وإسرائيلية عن اعتقال مجموعة مسلحة من حركة فتح، كانت تخطط لاغتيال ماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات الفلسطينية، وقالت إن المجموعة التي عُثر بحوزتها على أسلحة ومتفجرات يقودها أسرى محررون من حركة فتح على ارتباط بتوفيق الطيراوي، وهي الخطوة التي ربطتها جهات مختلفة بالصراع على خلافة محمود عباس، وقد ذكرت مصادر أن الرئيس تلقى معلومات كاملة عن الحادثة دون أن يتخذ وقتها أي إجراء مباشر تجاه الطيراوي.

سحق المرشحين للخلافة

بإحكامه قبضته على ثلاثية السلطة والمنظمة وحركة فتح، نسف محمود عباس على مدار سنوات أي فرص وحظوظ لصعود خلفاء له في هذه المحاور الثلاثة، ورغم عقد حركة فتح مؤتمرين لها عام 2009 وعام 2016، وتصعيد عدد من قيادات الحركة إلى الصفوف الأولى، ظلت فرص الجميع غائبة عن إحداث منافسة فارقة حتى الآن.

يقول غيث العمري، المستشار السابق لمحمود عباس، في لقاء له مع فرانس 24: “عمل الرئيس عباس والمقربون منه على تشويه صورة وسلطة أي قيادي يبرز في الساحة”، مشيرًا إلى أن محمود عباس ذاته كان أحد ثلاثة مرشحين بارزين لخلافة عرفات، أما اليوم فتنعدم إمكانية ترجيح مرشح على آخر في خلافة عباس.

خلال السنوات الماضية، عمل محمود عباس على إقصاء القيادي السابق في حركة فتح ومستشار الأمن القومي محمد دحلان، الذي فُصل من حركة فتح وعضوية لجنتها المركزية وانتقل للاستقرار في الإمارات، وواصلت الأجهزة الأمنية في الضفة ملاحقة المرتبطين به من قيادات وعناصر في الحركة.

كما طال الاستهداف ناصر القدوة، ابن شقيقة الرئيس الراحل ياسر عرفات، وممثل فلسطين السابق في الأمم المتحدة، الذي فُصل من حركة فتح في مارس/آذار 2021، بعد سعيه لطرح قائمة مرشحين للمجلس التشريعي مستقلة عن حركة فتح، لخوض الانتخابات التي كان مزمعًا عقدها في مايو/أيار من العام نفسه ثم أُلغيت بقرار من الرئيس عباس.

قادة آخرون من حركة فتح، شملهم الاستهداف بتحجيم نفوذهم، منهم توفيق الطيراوي، الذي أقيل بمرسوم رئاسي في أغسطس/آب 2022 من رئاسة مجلس أمناء كلية الاستقلال الأمنية والعسكرية، كما تم سحب الحراسات الشخصية عنه بعد أيام فقط من تسريب تسجيل صوتي له يهاجم فيه حسين الشيخ.

وفي أغسطس/آب 2023، أصدر الرئيس الفلسطيني مرسومًا بإقالة 12 محافظًا في الضفة الغربية وقطاع غزة، في خطوة وصفت بأن المستهدف منها جبريل الرجوب أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، وتوفيق الطيراوي، اللذان يمتلكان نفوذًا واسعًا في صفوف المحافظين.

وفُسر الاستهداف بكون عدد من المحافظين، هم من الضباط السابقين في جهاز الأمن الوقائي الذي كان يرأسه الرجوب، ومنهم أكرم الرجوب وإبراهيم رمضان وجبرين البكري وغيرهم. وقد جاءت الخطوة بعد تقارير تسلمها عباس عن تقاعس هؤلاء المحافظين في التصدي لانتشار المجموعات المسلحة في الضفة الغربية.

ورغم تشكيل أمين سر منظمة التحرير الفلسطينية ووزير الشؤون المدنية حسين الشيخ، ورئيس جهاز المخابرات العامة ماجد فرج، الحلقة الضيقة اللصيقة برئيس السلطة محمود عباس، وهيمنتهما على صنع القرار في المقاطعة، ومرافقتهما الدائمة للرئيس في جولاته الخارجية واجتماعاته الداخلية، وتحكمهما في القرارات الصادرة عنه، وتسخيرها لتعزيز حضورهما ونفوذهما، يرى مراقبون أن بقاءهما في موقع القيادة رهين بمزاج عباس المتقلب.

يقول ناصر القدوة في مقابلة صحفية عن حسين الشيخ، إن الرئيس الفلسطيني “يمكن أن يتخلص منه بسهولة إذا لم يكن محبوبًا”، مضيفًا “إذا غيّر أبو مازن موقفه غدًا، فسينتهي الشيخ”.

من سيرث المقاطعة؟

يوجد على المشهد السياسي الفلسطيني عدّة أسماء بارزة لخلافة محمود عباس في رئاسة السلطة الفلسطينية، وفي انتزاع تمثيل حركة فتح عند إجرائها انتخابات. وتتفاوت حظوظ هذه الأسماء، مع عدم امتلاك أيّ شخصية منها كافة مفاتيح القوة شعبيًّا وسياسيًّا لانتزاع المنصب أو الهيمنة عليه داخل حركة فتح.

ملف السلطة - من يخلف عباس
تبدو السلطة الفلسطينية اليوم، على الهامش تمامًا، لا يلقي أحد لها بالًا، ولا تملك من أمرها شيئًا (ميدجيرني- الجزيرة)

حسين الشيخ

تعود أصوله إلى عائلة مهجرة خلال النكبة من قرية دير طريف، وهو سجين سابق في سجون الاحتلال، وأمين سر تنظيم فتح في رام الله خلال سنوات الانتفاضة الثانية. يشغل حاليًّا مناصب وزير الشؤون المدنية وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح وأمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهو الشخصية السياسية الأقرب للرئيس الفلسطيني محمود عباس، وعنوان التواصل والتنسيق المباشر بين السلطة الفلسطينية والاحتلال عبر قيادته “هيئة الشؤون المدنية” المسؤولة عن إصدار بطاقات الـVIP”” وتصاريح الحركة والتنقل والعلاج بين الضفة الغربية وقطاع غزة ومدن الداخل المحتل، وهو مرتبط بعلاقات واسعة مع قيادات سياسية وعسكرية وأمنية في الاحتلال، ويشكل مع ماجد فرج ثنائيًّا يهيمن على مراكز القرار في رام الله.

برز نجم الشيخ خلال السنوات الأخيرة، وصدّر نفسه سياسيًّا عبر مواظبته على اللقاءات الإعلامية، وحضور جولات الرئيس الداخلية والخارجية، ولقاء الوفود العربية والدولية، والحضور الدائم على منصات التواصل الاجتماعي، ويتبنى بشكل كامل رؤية محمود عباس السياسية على الصعيد الداخلي والعلاقة مع الاحتلال، ولديه إيمان مطلق بفكر التنسيق الأمني وإخماد نواة أي حراك عسكري أو بوادر انتفاضة شعبية ضد الاحتلال.

ومن المهم الإشارة إلى أنه لا يحظى بشعبية واسعة في صفوف القاعدة الجماهيرية لحركة فتح، وهو على خلاف واضح مع باقي التيارات القيادية في الحركة.

جبريل الرجوب

أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، ورئيس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، والرئيس السابق لجهاز الأمن الوقائي في الضفة الغربية. قضى 17 عامًا في سجون الاحتلال، ويحظى بشعبية واسعة في مدينة الخليل مسقط رأسه، وفي صفوف القاعدة الشعبية لحركة فتح، نظرًا لحضوره الإعلامي وخطابه التنظيمي الشعبوي المتحلل بعض الشيء من تبني رواية السلطة كاملة، لصالح تصدير خطاب حركة فتح ومواقفها.

مروان البرغوثي

أمين سر حركة فتح في الضفة الغربية خلال سنوات الانتفاضة، وأسير في سجون الاحتلال منذ عام 2004، محكوم عليه بالسجن المؤبد 5 مرات، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح. يحظى بشعبية واسعة في الشارع الفلسطيني، ولدى القاعدة الشعبية لحركة فتح، ويُنظر إليه على أنه تهديد مرتقب من قبل قيادات السلطة الفلسطينية الحالية، لكونه قد هدد سابقًا بالترشح للانتخابات الرئاسية ودعم قائمة ناصر القدوة في التشريعي.

ترى العديد من الجهات أن مروان البرغوثي قد يكون خيارًا توافقيًّا فلسطينيًّا بين مكونات المشهد الوطني، وأنه يمثل “الحصان الرابح” لحركة فتح، في ظل تراجع شعبية محمود عباس؛ مرشحها الوحيد للانتخابات الرئاسية. فبحسب استطلاع رأي أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” مؤخرًا، فإن نحو 90% من سكّان الضفّة الغربية وقطاع غزة يطالبون باستقالة عباس من رئاسة السلطة الفلسطينية، ويحلّ مروان البرغوثي في المرتبة الأولى من حيث الشعبية، إذ اختاره 36% خليفة للرئيس عباس.

ولذا، وفي وقت سابق لمعركة “طوفان الأقصى”، قادت زوجة البرغوثي سلسلة زيارات لدول الإقليم للضغط لتسريع الإفراج عنه عام 2021، لكن وقوع الطوفان رفع بشكل ملحوظ حظوظ الإفراج عن البرغوثي ضمن صفقات تبادل الأسرى، التي من المفترض أن تجري ضمن نتائج المعركة.

محمد دحلان

الغريم الأول لمحمود عباس، قائد جهاز الأمن الوقائي السابق في قطاع غزة، ووزير الشؤون المدنية، ثم عضو المجلس التشريعي عن حركة فتح في انتخابات عام 2006، ومستشار الأمن القومي السابق. أصدر الرئيس الفلسطيني قرارًا بفصله من مناصبه في السلطة الفلسطينية وحركة فتح وإسقاط حصانته النيابية في المجلس التشريعي، وخضع لمحاكمات غيابية خلال إقامته في الإمارات. أسس تيار الإصلاح الديمقراطي في حركة فتح، ودشن مصالحة مجتمعية مع حركة حماس مكنته من العمل بأريحية في قطاع غزة. وله حضور في مخيمات لبنان والضفة الغربية، كما يكرر في كل ظهور إعلامي له رفضه تولي أي منصب رسمي فلسطيني.

أثار اسم محمد دحلان أزمة فلسطينية أمريكية عام 2020، حينما قال السفير الأمريكي في “إسرائيل”، ديفيد فريدمان، إنه الاسم المطروح أمريكيًّا بديلًا لمحمود عباس، وهو التصريح الذي قيل في حينه إنه جاء “خطأ اقتباس من ناشره”.

محمد اشتية

رئيس الوزراء السابق في السلطة الفلسطينية، وعضو اللجنة المركزية لحركة فتح. يحمل درجة الدكتوراه في الاقتصاد، وسبق أن تولّى مناصب وزارية وأكاديمية، كما تولّى سابقًا رئاسة المجلس الاقتصادي الفلسطيني للتنمية والإعمار (بكدار)، وعضوية الوفد الفلسطيني لمفاوضات مدريد.

لا يحظى محمد اشتية بشعبية واسعة في صفوف قواعد حركة فتح، كما ساهمت سياسات حكومته الاقتصادية والمطبات التي واجهتها سواء في أزمات المقاصة أو تفشي وباء كورونا ومنع دخول العمال إلى الداخل، في تآكل فرص منافسته على منصب الرئاسة. ورغم حظوته لدى الأوروبيين والأمريكيين، فإن نموذج “التكنوقراط” الذي مثّله سلام فياض في رئاسته الحكومة الفلسطينية (2007-2013)، عندما شرع في “الإصلاحات المالية” التي عنت محاصرة مال المقاومة وما يدعمها مُجتمعيًّا، وإغراق الناس بالقروض البنكية، يبقى تدويره من قبل الجهات الدولية الفاعلة في الشأن الفلسطيني احتمالًا أقرب، إذ تُكرّر تلك الجهات من حين إلى آخر مطالبات بـ”إصلاح السلطة الفلسطينية” والحديث خلال حرب طوفان الأقصى عن “السلطة الفلسطينية المتجدّدة”.

محمود العالول

نائب رئيس حركة فتح، وعضو اللجنة المركزية للحركة. تولى سابقًا منصب محافظ مدينة نابلس مسقط رأسه، ويعتبر محمود العالول من القادة العسكريين البارزين في حركة فتح خلال حرب لبنان 1982، والمسؤول عن عملية اختطاف 6 جنود من جيش الاحتلال. لا يفضل الظهور الإعلامي، ويحظى بشعبية وقبول واسعين لدى قواعد حركة فتح، ويوصف بأنه محط إجماع الفرقاء داخل الحركة، كما يمثل الخط الوطني في الحركة والسلطة الفلسطينية، ولا يعرب عن أي طموحات معلنة لتولي منصب رئاسة السلطة الفلسطينية.

توفيق الطيراوي

عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وأحد مؤسسي جهاز المخابرات العامة في الضفة الغربية، تولى قيادته لعام واحد بتكليف من أبي مازن قبل أن يُقال منه نتيجة ضغوط أمريكية، لكونه من الرموز المقربة من الرئيس الراحل ياسر عرفات. نُسب إلى الطيراوي تشكيل عدة مجموعات مسلحة تتبع له في الضفة الغربية، استهدفتها بعد ذلك أجهزة السلطة الأمنية، وقد تصدر اسمه قائمة المرشحين لخلافة عباس قبل سنوات، ثم تراجع حضوره نتيجة إقصائه من عدد من المناصب التي تولاها. ويُحسب على التيار المضاد لحسين الشيخ وماجد فرج في قيادة السلطة الفلسطينية، وسبق أن سُرّبت له تسجيلات صوتية يهاجم فيها حسين الشيخ.

المؤتمر الثامن.. حلم الشيخ الذي بدده الطوفان

وسط مساعٍ وترتيبات حثيثة بذلها حسين الشيخ، أقر المجلس الثوري لحركة فتح في أغسطس/آب 2023، عقد المؤتمر الثامن للحركة بتاريخ 17 ديسمبر/كانون الأول 2023، وذلك بعد مرور 7 أعوام على انعقاد المؤتمر السابع عام 2016، الذي انبثق عنه تعيين محمود العالول نائبًا لقائد حركة فتح.

كشفت صحيفة الأخبار اللبنانية عن قيام حسين الشيخ آنذاك بتحركات داخلية على صعيد حركة فتح لاستقطاب الولاءات، وسعى للحصول على موافقة إقليمية لينتزع منصب نائب قائد حركة فتح من العالول، وضم ماجد فرج إلى اللجنة المركزية لحركة فتح.

عقد الشيخ خلال عام 2023 مباحثات مع مسؤولين في كيان الاحتلال والأردن، لتقديم نفسه على أنّه الأقدر على ضبط المشهد الأمني والسياسي في الضفة الغربية. وكان خلال شهرين، قد أجرى ثلاث لقاءات بحضور ماجد فرج ومستشار الرئيس عباس مجدي الخالدي، مع السفير السعودي غير المقيم لدى السلطة الفلسطينية بندر السديري، لعرض جهود السلطة في “تهدئة أوضاع الضفة، ودعمها لمشاريع التطبيع السعودي المرتقب مع إسرائيل”.

إلى جانب التحرك الإقليمي، سعى حسين الشيخ للتحكم الكامل في مسار المؤتمر الثامن لحركة فتح، عبر مسارين اثنين: الأول؛ استهداف منافسيه داخل الحركة وإضعاف نفوذهم، عبر تمرير قرار رئاسي بإقالة عشرات المحافظين والسفراء والوزراء في حكومة اشتية، وهي الخطوة التي وصفت بأنها استهداف للمقربين من جبريل الرجوب ومحمود العالول واستبدالهم بشخصيات موالية للشيخ.

والمسار الثاني؛ تولي حسين الشيخ ملف الترتيبات اللوجستية لعقد المؤتمر الثامن، وتأمين حضور المدعوين، عبر علاقاته بالجانب الإسرائيلي، وقدرته على استصدار التصاريح اللازمة لهم للقدوم إلى رام الله من قطاع غزة أو ساحات الخارج، والتحكم في طبيعة الشخصيات المدعوة، والسعي لإقصاء الأسرى عبر التذرع بصعوبة مشاركتهم في المؤتمر نتيجة الأوضاع المتوترة في السجون، وهو ما اعتبره مراقبون محاولة لإقصاء مروان البرغوثي من اللجنة المركزية.

كل ما سبق من تخطيطات وترتيبات سعى لها الشيخ حثيثًا في انتظار عقد المؤتمر الثامن الذي راهن عليه مليًّا لانتزاع موقع متقدم في قيادة الحركة، جاء السابع من أكتوبر/تشرين الأول وبدده قبل شهرين من الموعد المقرر لانعقاد المؤتمر الذي ذهب أدراج الرياح، في انتظار ما ستؤول إليه معركة طوفان الأقصى.

في انتظار “اليوم التالي”

ثبت القول السياسي بأن ما قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول ليس كما بعده، فحينما ظن الاحتلال والأمريكان أن جبهة غزة تم تحييدها بتصاريح العمل ووعود إعادة هيكلة الحصار، وتحقيق انتعاشات مدروسة للوضع الاقتصادي والمعيشي في القطاع، وانشغال القوى العالمية والإقليمية بمشهد الاشتباك المتصاعد في الضفة الغربية، ودراسة الخيارات المتاحة للبحث عن خليفة مناسب لمحمود عباس، جاءت لحظة الطوفان لتقلب المشهد رأسًا على عقب، وتبعثر كل الحسابات والترتيبات السياسية القائمة، فانتقل السؤال المفصلي مِن ما هو شكل “اليوم التالي لرحيل عباس” إلى ما هو شكل “اليوم التالي لانتهاء الحرب على غزة”، وهو ما سعت أمريكا و”إسرائيل” لتصديره تحت عنوان “ما بعد حماس”.

حتى كتابة هذه السطور، كانت معركة غزة قد كسرت حاجز 150 يومًا، ويبدو أنه قد تأجلت إلى موعد غير معلوم كل النقاشات والخيارات التي طُرحت إسرائيليًّا وأمريكيًّا وإقليميًّا قبل الطوفان وتمحورت حول مرحلة “ما بعد عباس”، والعصف المتواصل الذي مارسته هذه الجهات لدراسة البديل المقبول لديها بالدرجة الأولى، والقادر على تلبية الشروط والمواصفات الأمريكية الإسرائيلية والالتزام الكامل بتحويل السلطة الفلسطينية إلى إدارة مدنية تعمل تحت الاحتلال. كلّ ذلك كان دون أي اكتراث من هذه الجهات بثقل ووجود حماس والجهاد الإسلامي، ولا مبالاة واضحة بدور غزة في صناعة المشهد السياسي الفلسطيني والإقليمي والتأثير فيه، وقد ظن الجميع كما أسلفنا أن هذه الجبهة قد تم تحييدها بالمنح المالية وتصاريح العمل والتسهيلات الاقتصادية المقننة.

مع بدء معركة طوفان الأقصى، صعد إلى السطح مصطلح “اليوم التالي بعد حماس” وانشغلت “إسرائيل” وأمريكا والإقليم في البحث عن خيارات تبدو حتى اللحظة غير واقعية وغير واضحة أو مفهومة المعالم حول ماهية اليوم التالي الذي يبحثون عنه، وذلك في الوقت الذي لا تزال فيه حماس موجودة على الأرض، تقاتل وتفاوض وتتلقى العروض وتقبل وترفض وتجري الصفقات الجزئية وتضغط بثقلها الميداني على الأرض، ضمن أشرس موجات العدوان وأعنف المواجهات العسكرية التي تشهدها المنطقة في تاريخها المعاصر.

تبدو السلطة الفلسطينية اليوم، برئيسها وأقطابها وتياراتها المتصارعة، على الهامش تمامًا، لا يلقي أحد لها بالًا، ولا تملك من أمرها شيئًا، لكن الثابت الوحيد في ظل معركة طحن العظام المتواصلة في قطاع غزة، أن حماس حال خروجها من هذه المعركة تكون قد فرضت وجودها السياسي والعسكري، وقلبت وجه المنطقة وتفاهماتها ومخططات قوى الإقليم، وأصبحت القوة الأولى في الساحة الفلسطينية التي لا يمكن تجاوزها بأي حال من الأحوال.

كان الحديث عن مرحلة ما بعد عباس قبل الطوفان، هو حديث عن البديل المقبول في واشنطن وتل أبيب، لكن هؤلاء الذين كانوا يبحثون عن بديل يناسبهم، أصبحوا الآن أمام خيارات صعبة حول طبيعة الشخص الذي سيخلف عباس: هل سيكون شخصية تكنوقراطية مدنية قادرة على أن تكون عنوانًا يحظى بقبول دولي وإجماع فلسطيني لبدء استحقاقات ما بعد المعركة؟ أم شخصية أمنية موالية قادرة على ضبط المشهد في الضفة وقمع حالة الاشتباك المتصاعدة وضمان عدم تطورها إلى انتفاضة واسعة؟ أم شخصية فتحاوية شعبية قادرة على اكتساب توافق داخلي فلسطيني؟

أسئلة كثيرة سبقت شروق شمس صباح يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ومئات الأسئلة تتوالد منذ اللحظة التي انهارت فيها جدران “إسرائيل” وأسوارها وفرق جيشها وألويته في “غلاف غزة”، وستبقى تتوالد هذه الأسئلة تبعًا لمعطيات المعركة ومجرياتها التي ستخلق قطعًا واقعًا سياسيًّا جديدًا ليس في مقاطعة رام الله أو قطاع غزة فحسب، بل في الإقليم والعالم أيضًا.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *