الرباط – شهدت الساحة السياسية المغربية في الآونة الأخيرة توقيف عدد من السياسيين، بينهم برلمانيون ومنتخبون في الجماعات المحلية، في قضايا فساد مالي واتجار في المخدرات، ولقيت هذه الملاحقات القضائية استحسانا لدى الرأي العام، كونها ستسهم في تطهير المؤسسات المنتخبة من الفاسدين وستعيد الثقة بالعمل السياسي.
وأصدرت المحكمة الدستورية في الفترة ما بين الخامس من ديسمبر/كانون الأول الماضي والثالث من يناير/كانون الثاني الجاري قرارات بتجريد 5 برلمانيين من عضويتهم في مجلس النواب، بعد صدور أحكام قضائية نهائية تدينهم في قضايا مختلفة.
قضايا بحق برلمانيين
يتعلق الأمر ببرلمانيين ينتمون لأحزاب الأغلبية الحكومية والمعارضة، صدرت في حقهم أحكام قضائية في قضايا تتراوح بين الابتزاز والارتشاء والتزوير وتبديد واختلاس أموال عمومية وإصدار شيكات بدون رصيد والنصب.
وحسب مصادر إعلامية، فقد قرر مجلس النواب إحالة ملفات 4 نواب برلمانيين آخرين على المحكمة الدستورية، من أجل تجريدهم من عضويتهم بالمجلس، بعد صدور أحكام قضائية تقضي بعزلهم من عضوية المجالس الجماعية التي كانوا منتخبين بها، بسبب ارتكابهم مخالفات قانونية.
من جهة أخرى، يُتابَع حوالي 20 برلمانيا ينتمون لأحزاب من الأغلبية والمعارضة في ملفات تتعلق بالفساد المالي وتبديد أموال عمومية والاتجار في المخدرات، منهم من لا يزال في طور التحقيق ومنهم من تم إيداعه السجن بعد صدور أحكام ابتدائية في حقهم ومنهم من لا يزال طور المحاكمة.
وكان آخر هذه الملفات المفتوحة استدعاء البرلماني ورئيس المجلس الجماعي لمدينة القصر الكبير محمد السيمو، وهو المنتمي لحزب التجمع الوطني للأحرار الذي يقود الحكومة مع 12 موظفا من الجماعة، للتحقيق في شبهات تتعلق بتبديد أموال عمومية، وحسب وسائل إعلام مغربية، فإن قاضي التحقيق أمر بإغلاق الحدود في وجه البرلماني وحجز جميع ممتلكاته باستثناء راتبه من البرلمان.
ونفى البرلماني محمد السيمو، للجزيرة نت، توفره على أي معلومات بخصوص منعه من السفر والحجز على ممتلكاته، وأوضح أنه يجري التحقيق حاليا في تسريب الوثيقة التي استندت إليها وسائل الاعلام في نشر هذه المعلومات، لمعرفة مصدرها ومدى صحتها. وتابع أنه تم الاستماع إليه في الجلسة الأولى من قبل قاضي التحقيق بالرباط رفقة عدد من موظفي الجماعة ولم توجه إليه أي تهم رسمية لحد الآن.
ملف عابر للحدود
وخلقت قضية ظهور أسماء برلماني ورئيس جهة ومستثمرين في ملف الاتجار الدولي للمخدرات جدلا واسعا في الآونة الأخيرة، بعد أن أدلى أحد كبار تجار المخدرات، وهو من أصل مالي ومعتقل في المغرب منذ 2019، باعترافات في الصيف الماضي بوجود شركاء له في تجارة المخدرات، من بينهم سياسيون وموظفون كبار.
ومن بين الأسماء المتابعة في هذا الملف المعروف إعلاميا بـ”إسكوبار الصحراء” البرلماني ورئيس مجلس عمالة الدار البيضاء سعيد الناصري، ورئيس جهة الشرق عبد النبي البعيوي، وهما قياديان في حزب الأصالة والمعاصرة المشارك في الحكومة، ويتابَعان في حالة اعتقال.
وسارع حزب الأصالة والمعاصرة إلى تجميد عضوية المشتبه بهما في الحزب، وأكد في بيان له على الثقة في استقلالية السلطة القضائية، وفي حرصها على توفير كل الضمانات القانونية والقضائية لمتابعة المعنيين بالأمر.
وقالت وسائل إعلام مغربية إن المتورطين في هذا الملف وعددهم 25 شخصا يتابَعون من أجل الاشتباه بارتكابهم مجموعة من الجرائم، وهي:
- المشاركة في اتفاق قصد مسك المخدرات والاتجار فيها ونقلها وتصديرها ومحاولة تصديرها.
- الإرشاء والتزوير في محرر رسمي.
- مباشرة عمل تحكمي ماس بالحرية الشخصية والفردية قصد إرضاء أهواء شخصية.
- الحصول على محررات تثبت تصرفا وإبراء تحت الإكراه.
- تسهيل خروج ودخول أشخاص مغاربة من وإلى التراب المغربي بصفة اعتيادية في إطار عصابة واتفاق وإخفاء أشياء متحصل عليها من جنحة.
اختراق الأحزاب
تطرح الملاحقات القضائية ومحاكمات هذا العدد الكبير من البرلمانيين والمنتخبين أسئلة حول مصداقية المؤسسات المنتخبة والعملية الديمقراطية برمتها، وأوضح أستاذ العلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس إسماعيل حمودي أن “ملاحقة القضاء لبعض المنتخبين بدأت بعد الانتخابات الجماعية والبرلمانية سنة 2021”.
وأشار حمودي، في حديث مع الجزيرة نت، إلى أن “وزارة الداخلية أحالت عشرات الملفات على القضاء في الفترة ما بين سنتي 2021 و2022، بتهم تتعلق بجرائم الأموال والرشوة وتبديد أموال عمومية، والشطط في استعمال السلطة، وبعدها بدأت مرحلة ثانية من الملاحقات منذ العام الماضي لمنتخبين في البرلمان والمجالس المنتخبة، بتهم تتعلق بالاتجار في المخدرات”.
ولاحظ حمودي أن المتهمين والمشتبه بهم في هذه القضايا يغطون مختلف الأحزاب السياسية، وبشكل أساسي الأحزاب الثلاثة المشكلة للتحالف الحكومي، وهي التجمع الوطني للأحرار والأصالة والمعاصرة والاستقلال.
ولفت المتحدث إلى أن “تقلد المتورطين في هذه الملفات مواقع قيادية في أحزاب حكومية وفي المؤسسات المنتخبة مثل البرلمان، يعد بمثابة عملية اختراق منظمة للأحزاب السياسية المقربة من السلطة، وبالتالي توظيف هذه الأحزاب ومن خلالها المؤسسات المنتخبة في تغطية فسادهم، وهو ما يعده أمرا خطيرا على العملية الديمقراطية والمؤسسات المنتخبة”.
ومما يزيد الوضع خطورة حسب حمودي هو “تقلد شخصيات متورطة في تجارة المخدرات والفساد المالي مناصب مهمة في مؤسسات الدولة، وجاء في سياق اتسم بقتل السياسة وضعف الثقة في المؤسسات المنتخبة والوسيطة، مثل النقابات والأحزاب والبرلمان والمجالس الجماعية”.
الممارسة الاستباقية
ويسجل أستاذ القانون الدستوري بجامعة الحسن الأول عبد الحفيظ اليونسي عددا من الملاحظات بخصوص المتابعات القضائية الأخيرة للمنتخبين، يرتبط أولها بالبناء المؤسساتي الذي يجب أن يتعزز وتمنح له صلاحية الممارسة الاستباقية لمواجهة هذا النوع من الجرائم المرتبطة بالأموال أو المخدرات أو استغلال النفوذ، إضافة إلى توفير ضمانات للقضاء ليمارس استقلاليته الفعلية في هذا النوع من الملفات.
وتتعلق الملاحظة الثانية ببعض الثغرات القانونية والمسطرية المرتبطة بهذا النوع من المتابعات، ويقول اليونسي “هي ثغرات يتم الاعتماد عليها إما لإطالة أمد الملفات، أو للإفلات من العقاب، وهو ما قد يسقط مؤسسات الدولة في نوع من الانتقائية في تطبيق القانون”، لذلك يؤكد على ضرورة إخراج قانون الإثراء غير المشروع والقانون الجنائي والمسطرة الجنائية في صيغتها الجديدة، لتعزيز دور القضاء والضابطة القضائية في محاربة هذه الجرائم.
أما الملاحظة الثالثة، فلها علاقة بدور بعض المؤسسات التي يظهر أنها فقط عبء مؤسساتي لانعدام دورها في هذا النوع من الملفات من قبيل مجلس المنافسة وهيئة النزاهة ومحاربة الرشوة.
ترميم الصورة
وحول ما إذا كانت هذه الحملة ستساهم في إعادة الثقة بالعمل السياسي وترميم صورة الأحزاب، التي فقدت تأثيرها على الناخبين وأدوارها في الوساطة، يؤكد أستاذ العلوم السياسية إسماعيل حمودي أن هذه الحملة ستساهم نوعا ما في تنظيف الأحزاب السياسية من تجار المخدرات والفاسدين المعروفين بفسادهم، وهي في نظره بمثابة “فرصة لها لإعادة ترميم صورتها وإعادة بناء نفسها إن هي أرادت ذلك”.
وشدد حمودي على حاجة الأحزاب السياسية إلى تعاقد جديد مع الناخبين وفيما بينها، يتم بموجبه “طرد كل من حولهم شبهات الاغتناء من المال العام والاغتناء غير المشروع وبالاتجار من المخدرات وإخراجهم من الحياة السياسية”، ويضيف: “بدون ذلك سيظل موقف هذه الأحزاب ملتبسا”.
واعتبر حمودي أن أمام الدولة أيضا فرصة لإعادة تأهيل الحياة السياسية وتأهيل المؤسسات السياسية لتكون في مستوى المرحلة، مضيفا أن “بناء الثقة في العمل السياسي والمؤسسات هو مسار يمكن أن يبدأ مع هذه الحملة ويمكن أن يخطئ موعده”.
بينما يرى أستاذ القانون الدستوري عبد الحفيظ اليونسي أن “هذه الملاحقات القضائية والمحاكمات للمشبوهين في قضايا الفساد والاتجار في المخدرات قد تقوي من صورة مؤسسات إنفاذ القانون أو مؤسسات الدولة، لكن في مقابل ذلك ستضعف لا محالة من صورة السياسي، وهي صورة سلبية في كل الحالات”.
ويؤكد أن “استعادة الثقة تعني أن تكون الانتخابات في عمومها براهن تهم الدولة، ولكن أيضا تهم استقرار واستمرار النظام السياسي”، مشددا على أهمية القطع مع أساليب شراء الأصوات بالمال المشتبه في مصدره.
ويضيف اليونسي أن “تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة وكذا مبدأ المساواة أمام القانون من شأنه تعزيز الثقة في مؤسسات الدولة، سواء تلك المتعلقة بمؤسسات إنفاذ القانون أو السلطة القضائية، وهي ثقة في المحصلة النهائية تقوي من مشروعية وشرعية النظام السياسي المغربي” وفق تعبيره.