حين تمكنت فصائل الثورة السورية في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024 من اقتحام سجن صيدنايا السيئ الصيت الذي يوصف أيضا بالمسلخ البشري، تناقلت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي صورا مروّعة من السجن، تذكر بما سمّته الفيلسوفة الألمانية اليهودية حنة آرنت “تفاهة الشر” (The Banality of Evil).
ولو تمكن الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو من معاينة سجون النظام السوري البائد وهندستها وما تحويه، لوجد أن ما كتبه عن السجون وعن تصميم سجن “البانوبتيكون” (Panopticon) الذي وضعه الفيلسوف البريطاني جيرمي بينثام يحتاج إلى مراجعة.
وعن الدافع وراء اقتراف تلك الجرائم الفظيعة التي أذاعتها قصص صيدنايا، تساءل الباحث في التاريخ المعاصر الحاج محمد الناسك، في ورقة نشرها مركز الجزيرة للدراسات بعنوان “صيدنايا المسلخ البشري: تفاهة الشر أم امتثال اجتماعي؟”: هل مقترفو هذه الجرائم أناس عاديون ينفذون الأوامر، أم أنهم مجرمون تحرّكهم الأيديولوجية الطائفية؟
هندسة الشر
افتتح سجن صيدنايا سنة 1987 لاحتجاز آلاف السجناء من المدنيين والمعارضين والسجناء السياسيين، ويقع على بعد 30 كيلومترا شمالي العاصمة دمشق، ويوصف بأنه أكثر السجون سرية وقسوة في سوريا، فقد صمم من 3 مبان ممتدة متصلة في نقطة مركزية، وفي كل مبنى 3 طوابق لكل منها جناحان يحتوي كل منهما على 20 مهجعا بمساحة 48 مترا مربعا، مع 5 نقاط تهوية، وتلتقي المباني الثلاثة في منطقة “المسدس” (أو السداسي)، وهي النقطة الأكثر تحصينا في السجن وفيها توجد الغرف الأرضية والسجون الانفرادية.
إن الهندسة وفقا لميشيل فوكو ليست علما رياضيا صالحا ولا فنا مجردا، ولكنها معارف وإبداعات توظف في خدمة مفاهيم الانضباط، ويضيف أن “الدولة الحديثة، العاقلة المستنيرة، قد شكلت مجتمعها على هيئة بانوبتيكون (مبنى مصمم لمراقبة كل من فيه) ضخم، فإذا كانت هذه الدولة العاقلة المستنيرة، فما بالك بعائلة الأسد؟!
ويعمم فوكو تصميم “البانوبتيكون” على السلطة الحديثة في أكثر أشكالها خبثا، فيطلق عليها وصف “البانوبتيكية”، حيث يستوعب “السجناء” المراقبة المستمرة عليهم ويصبحون حراسا على أنفسهم.
لكن سجون الأسد تجاوزت مفهوم “البانوبتيكية” بشكل لا يخطر على بال، لدرجة أنه بالإمكان إطلاق ما يمكن تسميته بـ”الصيدناتكية”، لأن السجان هناك لا يملك سلطة مراقبة السجناء والحصول على الإتاوات من ذويهم فحسب، بل يملك أيضا صلاحية مطلقة لتعذيبهم وقتلهم دون حسيب ولا رقيب.
امتثال اجتماعي أم طائفي؟
بعد أن قامت دولة “متحضرة” و”حديثة” مثل ألمانيا بتنفيذ إبادة جماعية منهجية للملايين من البشر، توقف الباحثون كثيرا عند سؤال: “كيف يمكن لأشخاص مثلنا من الملتزمين بالقانون الذين يرتادون الكنيسة ويخلصون لأفراد أسرتهم، أن يتغاضوا أو يتعاونوا بنشاط في القتل الجماعي لأشخاص لم يلحقوا بهم أي أذى؟”، وهو ما لخصته الفيلسوفة حنة أرنت في عبارة “تفاهة الشر”.
وقدم المؤرخ الأميركي كريستوفر براونينغ في كتابه “كتيبة الشرطة الاحتياطية 101 والحل النهائي في بولندا” (Reserve Police Battalion 101 and the Final Solution in Poland) محاولة لتفسير سلوك الجنود الألمان في بولندا، واستند في دراسته إلى سجلات تحمل استجوابات قضائية لـ125 عضوا من كتيبة الشرطة الاحتياطية السرية 101 التي نفذت أوامر بإطلاق النار وقتلت نحو 38 ألف يهودي بولندي خلال عام واحد.
كانت أول مهمة على هؤلاء القيام بها هي قتل 1500 يهودي بولندي في صباح 13 يوليو/تموز 1942. في البداية رفض العشرات من أصل كتيبة قوامها 500 فرد تنفيذ المهمة دون تعرضهم لأي عواقب سلبية، وهو ما أكده قائد الكتيبة. ومع توالي المهام “المرهقة عاطفيا”، لم يطلب سوى 10-20% منهم الإعفاء من المهمة.
ووجد براونينغ أن الغالبية العظمى ممن شاركوا في عمليات القتل كانوا في الأصل ينفرون منها، لكنهم فضلوا المضي قدما في تنفيذها بدافع احترام السطلة والخوف من الرفض الذي قد يقابلهم به أصدقاؤهم وقادتهم، رغم امتلاكهم خيار الرفض. واستنتج براونينغ أن دوافع الجنود الألمان لم تكن معاداة السامية بل ما سمّاه: “الامتثال الاجتماعي”.
وأثار المؤرخ الأميركي بكتابه حفيظة عالِم سياسة شاب من جامعة هارفرد يدعى دانييل جوناه غولدهاغن، فقرر الرد عليه بكتاب عنوانه “جلادو هتلر الراغبون في التنفيذ: الألمان العاديون والمحرقة” (Hitler’s Willing Executioners: Ordinary Germans and the Holocaust)، جاء فيه أن براونينغ أخذ اعترافات أعضاء الكتيبة الألمانية على ظاهرها، وقلل بالتالي من “معاداة الألمان الفريدة والعميقة للجذور السامية”، وأن من شارك في المحرقة لم يكونوا “رجالا عاديين” فقط بل “رجالا عاديين في ثقافة سياسية غير عادية”.
ويبقى السؤال قائما: “هل تنطبق عبارة تفاهة الشر على جلادي المسلخ البشري في صيدنايا؟”، فهذه العبارة أطلقتها آرنت لوصف أفعال المجرم النازي كارل أدولف إيخمان الذي لم يقم بالإبادة بوصفها “شرا متجذرا” بل “شرا تافها”، وذلك لأن السلطة الشمولية تجعل مرتكبي الجريمة بإيعازها لا يشعرون بفظاعتها ومأساويتها.
بيد أن جلادي صيدنايا لم يكن لهم حرية الاختيار التي تحدث عنها براونينغ في نموذج “الامتثال الاجتماعي”، بل انطبق ما يمكن أن نسميه “الامتثال الطائفي”، وهو القائم على نوازع طائفية لطالما حرّكت الأقلية التي كانت تحكم سوريا.
ولا تكفي الأطر النظرية التي عالجت الظاهرة النازية في فهم سلوك مجرمي نظام الأسد طوال نصف قرن، فهو يحتاج إلى دراسة معمقة تعتمد على شهادات السجانين والضحايا والوثائق المتاحة، ولنا في اختلاف براونينغ وغولدهاغن عبرة، فهما عالمان فحصا الأدلة نفسها وسألا الأسئلة ذاتها حول الظاهرة إياها، لكن استنتاجاتهما كانت مختلفة.
[يمكنكم الاطلاع على تعليق الباحث كاملا من خلال هذا الرابط في موقع الجزيرة للدراسات]