توقٌ للرجوع إلى أحضان غزة بعد عام من البعد

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 8 دقيقة للقراءة

غزة– حين وضع الاحتلال الإسرائيلي سكان شمال قطاع غزة أمام خيارين وحيدين، النزوح جنوبا أو الموت تحت وابل القصف، وجد كثيرون في النزوح سبيلا للنجاة، لكنهم لم يلبثوا طويلا حتى اكتشفوا أن الخيارين وجهان لعملة واحدة عنوانها الموت سواءٌ في القرب أو البعد عن مدينتهم.

غزيون خرجوا من مدينتهم مكرهين، أجمعوا في شهاداتهم للجزيرة نت على أن خروجهم من الشمال كان أسوأ قرار اتخذوه في حياتهم، وأن العودة أضحت حلما وأمنية مثقلة بشوق أكبر من أن تحمله قلوبهم.

يقول عنان الذي نزح قسرا إلى جنوب وادي غزة مدفوعا بنظرات صغاره الخائفة من صوت الموت، “ضعفتُ واخترت ألا أتحمل مسؤولية خطر يهدد حياتهم”، وهو الضعف ذاته الذي قاد معظم الآباء لمناطق “أكثر أمنا” حمايةً لأبنائهم كما كانوا يظنون.

يصف عنان للجزيرة نت، الليلة الأخيرة له في بيته قبيل النزوح قائلا “نمت الليلة الأخيرة ثم استمر الظلام إلى يومي هذا”، وما يزال يبحث عن شمس صباح كل يوم ولم تشرق بعد.

أقفل عنان باب بيته في حي الرمال وسط المدينة، تاركا قلبه وعقله وآماله، وحين شدّ على مقبض الدار ظن أنها بضعة أيامٍ ويعودون. وبخطواتٍ ثقيلةٍ جدا بدأ نزوحه جنوبا كأنه يُساق إلى الموت.

كانت مدينة دير البلح وسط القطاع، هي محطة النزوح الأولى للرجل وعائلته من بين 4 محطات أخرى ما بين الوسط والجنوب، تنقل بينها، تائها باحثا عن استقرار ومأوى لأطفاله فلم يجد سوى الخوف والجوع.

يصف عنان يومه خلال النزوح قائلا “أستيقظ صباحا على صوت الغارات تخطف الآمنين من بيوتهم، وأنام ليلا على صوت الركام ينهال على المفقودين يتبعه صراخ الفاقدين”، وأمام هذا الشكل من الحياة يقول عنان “وكأننا وقعنا ضحية مؤامرة قذرة في سلسلة ألم لا ينتهي، أوهمونا فيها بأنّ الموت لا يقترب من المناطق الآمنة”.

منزل عنان الذي تحصنت فيه قوات الاحتلال وأحرقته بعد أسابيع من نزوح العائلة (الجزيرة)

وسام شرف

عامٌ كاملٌ انتظر عنان -ومئات آلاف النازحين مثله- خبرا عن تبدد الحواجز التي تفصل شطري القطاع والسماح لهم بالعودة، يحزمون أمتعتهم مع كل معلومة مسرّبة عن أملٍ في الهدنة، ويؤنسون أنفسهم بأن الرجوع لأحضان المدينة بات قريبا.

يقول عنان، وقد كواه الحنين “اشتقت لبيتي ولرائحة تراب حارتي بكل تفاصيلها ووجوه جيراني وأسمائهم ونبرات أصواتهم، ولمسجدي وصوت أذانه”.

ويرى عنان أن اليوم التالي للحرب سيحيل كل ليالي الحزن فيما سماه “العام الأسود” إلى طاقة عمل وقوة للبدء من جديد وتعمير الحياة التي دمرتها إسرائيل، متباهيا بصموده داخل القطاع الذي يرفض الهجرة منه. ويقول “ستصبح ذكرى صمودي داخل غزة، وسام شرف أتباهى به أمام من سيسمع حكاية انتصارها”.

وبينما يحلم عنان بأن يزول الحاجز الفاصل بين جنوب القطاع عن شماله، يحلم شكري فلفل بأن يفتح المعبر بوابته ليعود إلى أحضان غزة حتى ولو كان ذلك في ظل الحرب.

صور من رحلة ومكان نزوح شكري فلفل من حي النصر في غزة إلى خيام رفح قبيل مغادرته قطاع غزة
صور من مخيم للنازحين في مدينة رفح جنوبا يقيم فيه شكري فلفل بعد هروبه وعائلته من مدينة غزة (الجزيرة)

180 يوما لم يبرح بها شكري بيته في حي النصر وسط مدينة غزة، وكان قد حوصر فيها 55 يوما مع عائلته، لكنهم أُجبروا على تركه بعد تلقيهم اتصالا من ضابط إسرائيلي بضرورة إخلاء المنزل تمهيدا لقصفه، لتبدأ حكاية نزوحهم من حيّ الزيتون إلى خيام رفح ثم إلى مصر بشكل مؤقت، وبعدما انعدمت خيارات الأماكن التي أتيح له النزوح إليها.

كان المرور على حاجز نتساريم من أمام الدبابات والجنود الأقسى على شكري، وعلى الرغم من صعوبة الحالة النفسية التي عاشها خلال الحرب داخل القطاع، فإنه يرى أنها أهون بكثير من حالته حين فارق قطاع غزة وخرج منه مضطرا.

يستطيع المتصفح لمنشورات شكري بمنصات التواصل الاجتماعي أن يدرك حجم حبه لغزة حتى قبل بداية الحرب، حيث كان يراها “جنّة” ويصوّرها كأنها “أم البلاد”، وهي في عيونه كذلك، كما يقول.

عقدة الناجي

قلب فراق المحبوبة غزة حياة شكري فأرّقه الخروج منها، ويصف ذلك بالقول “الابتعاد عن غزة دمار، أعيش اليوم عقدة الناجي وأعاني من الأرق والنسيان في كثير من الأحيان”.

يحنّ شكري للقاءات العائلة، ويقول للجزيرة نت إن “اجتماعنا لا شيء يعوضه، كنّا نشعر بالاستقرار في بيتنا معا رغم الحرب”.

شكري الذي يرفض مواصلة حياته خارج حدود غزة، يقول “سأستكمل حياتي في غزة، لا أستطيع التعايش مع شيء خارجها”، أمّا عن اليوم التالي للحرب، فهو يخطط للبدء بترميم حياته وبيته والعودة لمقاعد الدراسة الجامعية التي عطتلها الحرب. ويختم حديثه قائلا “هدفي هو الرجوع أولا، ثم نستكمل علمنا فيها ونعمرها لتعود جنة الأرض وأحلى البلاد”.

لا يبدو الرجوع لغزة هدف شكري وحده، بل هدف معظم المغتربين عنها قسرا، كأسماء التي لجأت إلى دولة قطر للعلاج مع ابنتيها بعد استهداف منزل كانوا ينزحون فيه بدير البلح وسط القطاع، واستشهاد ابنتها وجدتها وشقيقاتها الثلاث مع أطفالهن.

وُضعت أسماء أمام اختبار صعب لعدم توفر علاج يتناسب مع إصابة طفلتها لِيا، التي كُسرت جمجمتها، وحين علمت بأن مدة العلاج المقررة ستكون بسيطة، وافقت على السفر على مضض، بعدما رفضت ثلاث فرص للخروج من غزة في بداية الحرب.

كان طريق الخروج من غزة كانسلال الروح من الجسد، كما وصفت، ولازمها سؤال “هل استبعدني الله من الوجود في غزة؟” خلال خروجها ودموعها لم تتوقف عن الانهمار.

وبينما تتظاهر أسماء بالانشغال بمواعيد العلاج والتنقل بين المستشفيات، تخفي غصة كبيرة، خلّفها اختلال حياتها التي كانت في أوج مراحل استقرارها كما تقول، وتتابع “كان عندي بيت جميل وأطفال رائعون وعمل وسيارة ولا ينقصني شيء، حتى خلال الحرب كنت أشعر بالراحة، فأنا في بيت أهلي وبينهم وكلنا معا”.

أسماء نعيم مع ابنتها
أسماء نعيم مع ابنتها في مستشفى بالدوحة (الجزيرة)

لا استقرار

منذ وصول أسماء إلى الدوحة قبل أشهر ترفض التعامل مع وجودها خارج غزة بأي شكل يشي بالاستقرار، وترفض شراء شيء للمنزل الذي تقيم فيه، أو ملابس بشكل فائض، وتقول “أتعامل مع وجودي خارج غزة بأنه حالة مؤقتة ستنتهي حالا في اللحظة التي يُسمح لنا فيها بالرجوع إليها”.

أثرت الحرب في أسماء فلم تعد تستسيغ الطعام، ويضايقها أن يزيد منه شيء، وتستنكر وجود صنفين منه على مائدة واحدة، كما أن أكثر ما تشتاق إليه هو العودة إلى بيتها الدافئ بعد يوم عمل شاقٍ خارجه، وللمشي بعد صلاة الفجر في شوارع غزة، واستنشاق رائحة الصباح فيها، ولصديقاتها واجتماعهن، وللسهر مع شقيقاتها اللواتي اختطفتهن يد الموت.

تقول أسماء “لغزة سحر غريب، الفقير فيها هانئ البال والمريض فيها مطمئن، لغزة بركة في كل شيء وللاستقرار فيها راحة لم أجدها خارجها”.

الراحة التي تتوق إليها، ستدفعها للعودة إليها حتما كما تقول، وتضيف “سيعود لغزة الجريحة أبناؤها يطبطبون عليها، يرممونها ويخدمونها ويعطونها من علمهم ومالهم وأرواحهم حتى تبقى كعنقاء أخرجها عُشاقها من تحت الرماد”.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *