تهجير سكان غزة.. جولة من صراع الديمغرافيا مع الاحتلال

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 9 دقيقة للقراءة

منذ الأسابيع الأولى للحرب الجارية في غزة، ظهرت النية الإسرائيلية لتهجير سكان القطاع إلى خارجه، ورغم المد والجزر في مستوى الغطاء الأميركي والغربي لهذه الخطوة، فإنها بقيت في صلب الإستراتيجية السياسية والعسكرية للاحتلال حتى الآن.

وهذا ما يدعو إلى استكشاف جذور هذا التوجه، وسياسات تنفيذه، والمواقف بشأنه، ومظاهر مقاومته.

الهاجس الديمغرافي

تقوم الفكرة الصهيونية على أن “فلسطين أرض بلا شعب، سيقطنها شعب بلا أرض”، ولكي تصبح هذه الفكرة صالحة للتنفيذ ينبغي أن تصبح الأرض فعلا بلا شعب فلسطيني.

ومعلوم أن نمط الاستيطان الإسرائيلي “إحلالي”، بمعنى أنه قائم على طرد أصحاب الأرض والتوطن مكانهم، وهذا ما يظهر في جغرافية مدن ومستوطنات دولة الاحتلال القائمة على أنقاض قرى فلسطينية دمرت عام 1948.

ورغم هذا الهاجس، فإن الصهيونية ودولة الاحتلال لم تتمكنا من تحقيق هدف التهجير بشكل كامل؛ لعوامل منها:

  • مقاومة الفلسطينيين وصمودهم بأرضهم.
  • عدم توفر الغطاء الدولي لتهجيرهم بشكل كلي.
  • مراهنة الاحتلال لبعض الوقت على إستراتيجية إدماج واحتواء “أو أسرلة” الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948.

ومما زاد الطين بلة، بالنسبة إلى الإسرائيليين، أن معدل النمو السكاني للفلسطينيين مرتفع للغاية، مما أسهم في جعل عددهم أكبر من اليهود داخل حدود فلسطين التاريخية، وفقا لأرقام دائرة الإحصاءات الفلسطينية. وهذا وضع حذر منه ساسة وباحثون إسرائيليون، ووصفوه بأنه “قنبلة ديمغرافية” ينبغي التخلص منها بأي وسيلة.

سياسات التهجير الإسرائيلية

وفي ظل هذا الفكر الصهيوني العدواني، التزمت دولة الاحتلال سياسات تدفع باتجاه تفريغ أرض فلسطين من أهلها.

ففي أوقات الحرب تعمد إلى ارتكاب المجازر والترويع، ونشر الإشاعات لتدفع الفلسطينيين إلى الفرار من بيوتهم ومدنهم وقراهم، كما حدث في مجازر دير ياسين وقبية والدوايمة عام 1948.

وفي أوقات السلم، اعتمدت وسائل كثيرة منها، التضييق الأمني والاقتصادي والمعيشي، من خلال تقييد الخدمات الصحية والتعليمية، وتقييد حركة الفلسطينيين من خلال مئات الحواجز التي أقامتها بين مدن وقرى الضفة الغربية، والسيطرة على الموارد الطبيعية ومنعهم من استغلالها.

إضافة إلى فرض العقوبات الجماعية، والغرامات المرتفعة، وعدم الاعتراف بمواطن البدو وتهجيرهم منها، وإقرار قانون أملاك الغائبين الذي مكن سلطات الاحتلال من وضع يدها على أملاك المهجرين.

وفي مفاوضات التسوية، أظهرت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تشددا بشأن عودة اللاجئين إلى فلسطين، وكان التفاوض يدور حول عودة 50 ألف منهم فقط، مقسمين على مدار 10 سنوات.

كما يظهر التشدد أيضا في تعليمات وإجراءات “لم الشمل” للعائلات المشتتة بين فلسطين وخارجها.

مساعي تهجير أهل القطاع

رأى قادة الاحتلال في عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي ضربة إستراتيجية، قد يخفف أثرها إحداث تغيير إستراتيجي في وضع القطاع، على صعيد الأرض أو السكان أو كليهما. وذلك بخلق منطقة عازلة داخله، أو احتلال شماله بالكامل وتفريغ سكانه، أو تهجير أهالي القطاع، أو نسبة كبيرة منهم، إلى خارج فلسطين، طوعا أو كرها، برا أو بحرا.

ويضاف هذا إلى الدوافع التقليدية، كتحقيق الهدف الصهيوني في الاستيلاء على الأرض بعد التخلص من السكان، والرغبة في التخلص من المقاومة، أو تقليل خزانها البشري على الأقل، وهذا مما يعزز فرصتها في الاستيلاء على حقول الغاز في مياه غزة، وتحييد التهديد لمشاريعها لاستخراج الغاز من البحر المتوسط.

وفي هذا السياق، أوجد الاحتلال ظروفا طاردة لأهل القطاع منذ احتلاله، وشددها بحصاره غزة منذ 2006 عقب فوز حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالانتخابات التشريعية، وهو ما دفع منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة روبرت بايبر عام 2017 إلى التحذير من أن قطاع غزة في طريقه إلى أن يصبح غير صالح للحياة بسبب تدهور الأوضاع الإنسانية على جميع الأصعدة.

التهجير في الحرب الجارية

وفي الحرب الجارية على القطاع، اعتمد جيش الاحتلال سياسة الترويع من خلال تشديد الحصار ليصبح حصارا شاملا، أوقف بموجبه الماء والغذاء والوقود والكهرباء، إضافة إلى القصف الهادف إلى إيقاع أعداد كبيرة من القتلى ونطاق واسع من الدمار، بما يشمل تقويض المرافق المدنية، وكل ما يلزم لاستمرار الحياة، كالمستشفيات والمدارس والمساجد، مع إبداء أصناف الوحشية في اعتقال الفلسطينيين. ومن أهداف هذا السلوك دفع أهل القطاع إلى الهجرة، وهذا استنساخ أكثر إجراما وقسوة لنموذجي التهجير في 1948 و1967.

كما استخدم الاحتلال أوامر الإخلاء المتدرجة لبعض مناطق القطاع بما يؤول إلى تجميعهم على الحدود مع مصر كمقدمة لتهجيرهم.

وعلى الصعيد السياسي، طرحت حكومة الاحتلال التهجير حلا للصراع منذ بدايات الحرب، وكان واضحا من الخطاب السياسي للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أن هناك مطالب دولية بتسهيل عملية لجوء الغزيين إلى سيناء.

وعلى الصعيد الإعلامي، يتم العمل إسرائيليا على تجريم عموم أهالي القطاع لتبرير قتلهم وتهجيرهم، أو الترويج بأن من ترغب إسرائيل في تهجيرهم من مؤيدي حركة حماس كما جاء في تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموترتيش.

النزوح شكل ضغطا هائلا على مدينة رفح (الجزيرة)

المواقف الدولية والعربية

ظهر تواطؤ فعلي للإدارة الأميركية بشأن تهجير سكان القطاع في بداية الحرب، إذ حاول وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ترويج الفكرة إقليميا خلال أول زيارة له إلى المنطقة عقب السابع من أكتوبر/تشرين الأول، ثم تراجعت الحماسة الأميركية لتبني الأمر بوصفه خيارا معلنا، ولكن من دون ممارسة ضغط كاف لردع الاحتلال عن هذا المسار.

وفي حين تصرح غالبية الدول الغربية برفض التهجير، فإن العديد منها أبدت استعدادا لاستقبال اللاجئين المفترضين. وهذا الموقف والخطاب يوفر أرضية سياسية لاستمرار إستراتيجية التهجير الإسرائيلية، سواء كان طوعا أو كرها.

أما في مصر، فقد ظهر بداية الحرب تخوف من خيار التهجير، لا لشيء سوى أنه ينقل فكرة المقاومة إلى مصر ويهدد السلام مع إسرائيل، حسبما جاء في تصريحات الرئيس المصري. إلا أن الإنشاءات التي تبنيها السلطات المصرية منذ بدايات الشهر الجاري بموازاة مدينة رفح -وفقا لصحيفة وول ستريت جورنال ومؤسسة سيناء لحقوق الإنسان– تشير إلى أنها تستعد لهذا السيناريو.

وقد يكون هذا التغير قائما على اعتماد سياسة عزل المهجرين المفترضين عن بقية المصريين، من خلال وضعهم في معازل خاصة شبيهة بحالة مخيمات اللاجئين السوريين في الأردن. وهذا سيجعلهم في سجن في الهواء الطلق، مع إمكانية إعادة تهجيرهم إلى دول تقبل باستقبالهم بعد التأكد من “عدم تأييدهم للمقاومة”.

أما الأردن، فلديه حساسية من تهجير سكان القطاع، خوفا من أن يشكل سابقة تؤسس لتكرار التجربة في الضفة الغربية، بتهجير أهلها إلى أراضيه، وهو ما يراه النظام تهديدا وجوديا له، بفعل التوازن الديمغرافي الهش في البلاد، إلا أن الموقف الأردني يبقى ضئيل التأثير على مجريات الأحداث ومواقف الاحتلال والولايات المتحدة.

مقاومة التهجير

كان لصمود مئات الآلاف من أهل شمال القطاع دور محوري في إعاقة مشروع التهجير ومخطط احتلال الشمال. وهذا من دوافع معاقبة الاحتلال لهؤلاء من خلال تشديد الحصار، سعيا إلى إخضاع إرادتهم للقبول بالتهجير، وحتى يكونوا عبرة لبقية أهل القطاع.

وفي هذا السياق، يمكن فهم موقف حركة حماس بتعليق التفاوض مع الاحتلال إلى حين إدخال المعونات والمواد الغذائية إلى القطاع وخصوصا شماله.

كما شكلت ظاهرة عودة آلاف النازحين إلى بيوتهم في شمال وشرق القطاع خلال فترة الهدنة مؤشرا على وجود إرادة جمعية لمقاومة التهجير.

ومما يلفت الانتباه عدم تسجيل أي محاولة لاختراق الحدود المصرية حتى الآن، رغم هول القصف وشدة التجويع على مدار قرابة 4 أشهر ونصف شهر. وهذا شيء نادر الحصول في تاريخ الصراعات والحروب، ويدل على وعي وحرص شديد على التمسك بالأرض، انطلاقا من قناعة بضآلة احتمال عودتهم إلى بيوتهم في حال مغادرتهم أرض غزة. خصوصا وهم يشهدون رفض حكومة الاحتلال عودة سكان شمال القطاع إليه.

وختاما، فالمعركة مع الاحتلال تدور حول السكان والأرض بما عليها من مقدسات، وتشكل المقاومة الفلسطينية عائقا في وجه مشاريع التوسع الجغرافي والتفريغ الديمغرافي التي لا تقتصر على حدود فلسطين، وإعاقة هذه المشاريع لا تكتمل دون انخراط عربي وإسلامي أوسع في مواجهتها، بما يوفر لأهل فلسطين عموما، وغزة خصوصا، ظروف ومقومات الصمود على أرضهم.

والفشل بهذه المهمة يعرض استقرار دول عربية وإسلامية عديدة للخطر، ويعرض شرعية أنظمتها للضرر، في ظل عجزها عن حماية أمنها القومي ومصالح شعوبها وقيمها الجوهرية.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *