واشنطن – نص الدستور الأميركي على مبدأ الحرية الدينية بوصفه أحد الحقوق الأساسية للمواطن الأميركي، وإحدى أهم القيم التي تقوم عليها العلمانية الأميركية الفاصلة بين الكنيسة والدولة. ورغم عدم الإشارة إلى مسمى أو طبيعة أي من الديانات، فإن الجدل والاختلاف كان ملاحظا حول قيمة الحرية الدينية على مدى التاريخ الأميركي.
وخلال السنوات الأخيرة، نبعت الصراعات حول الهوية الدينية في الولايات المتحدة من خلال بروز أيديولوجية “القومية المسيحية” المنادية بأن أميركا في جوهرها أمة من المسيحيين، ومن أجلهم وحدهم.
وتقوض هذه الفكرة التعديل الأول، كما أنها تؤدي إلى التمييز، وفي بعض الأحيان تقود إلى العنف ضد الأقليات الدينية وغير المتدينين. ويستغل اليمين الديني فكر القومية المسيحية للإساءة إلى الأقليات الدينية والنساء والشواذ جنسيا.
وتعتقد خبيرة الأديان الأميركية أماندا تايلر أن “المسيحية عند القوميين المسيحيين الأميركيين تتعلق بالهوية أكثر من تعلقها بالدين، وهذا يحمل معه افتراضات حول معاداة المهاجرين، وتفوق الجنس الأبيض، والسيطرة على المجتمع، واللجوء للعنف عند الضرورة”.
ويكرر الرئيس السابق والمرشح الجمهوري دونالد ترامب لهؤلاء المتدينين القوميين أنه يعلم أنهم “تحت الحصار”، وتعهد في أحد خطاباته الانتخابية بأن أحد أعماله الأولى في ولايته الثانية سيكون إنشاء فريق عمل لاجتثاث “التحيز ضد المسيحيين”، وتعهد بحماية “السياق والمحتوى المؤيد لله”.
وطبقا لوكالة أسوشيتد برس، فقد ذهبت أصوات 81% من الناخبين البروتستانت الإنجيليين البيض لصالح ترامب في انتخابات 2020، مقارنة بـ18% صوتوا لصالح جو بايدن.
أرقام خطيرة
وأظهر استطلاع أجراه معهد أبحاث الدين العام “بي آر آر آي” (PRRI) بالتعاون مع معهد بروكينغز، والذي شارك فيه أكثر من 5452 ناخبا أميركيا خلال الفترة من 16 أغسطس/آب إلى 4 سبتمبر/أيلول الماضيين، دعم المزيد من الأميركيين المتدينين استخدام العنف السياسي.
وطور المعهد مقياسا متميزا لقياس نسب دعم القومية المسيحية بين الأميركيين من خلال طرح 5 أسئلة أو عبارات تتطلب الإجابة عليها بنعم أم لا، وهي:
- هل دعا الله المسيحيين لممارسة السيادة على جميع مجالات المجتمع الأميركي؟
- هل يجب على حكومة الولايات المتحدة أن تعلن أميركا أمة مسيحية؟
- أن تكون مسيحيا هو جزء مهم من كونك أميركيا
- إذا ابتعدت الولايات المتحدة عن الأسس المسيحية، فلن يكون لدينا بلد بعد الآن
- هل يجب أن تستند قوانين الولايات المتحدة إلى القيم المسيحية؟
وجد الاستطلاع، وهو الأكبر على الإطلاق الذي تم إجراؤه حول هذا الموضوع، أن نحو 30% من كل الأميركيين يمكن تصنيفهم على أنهم أتباع أو متعاطفون مع القومية المسيحية، وهم أولئك الذين يتفقون تماما أو في الغالب مع هذه العبارات الخمسة السابقة، في حين يعارض ما يقرب من ثلثي الأميركيين هذه النظرة المسيحية القومية للولايات المتحدة.
وفي حلقة نقاش نظمها معهد بروكينغز قبل أيام، أشارت ليليانا ماسون، أستاذة العلوم السياسية في جامعة جونز هوبكنز، إلى أن النتائج يمكن أن تكون نتيجة للاستقطاب الحاد الذي دفع بكل حزب للنظر إلى خصومه السياسيين على أنهم أكثر عنفا.
وبصفة عامة، تزايد دعم العنف السياسي والقلق بشأن حالة الديمقراطية بين الأميركيين، حيث يعتقد 75% منهم أن مستقبل الديمقراطية في خطر في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وارتفع دعم فكرة العنف السياسي، حيث يعتقد 23% من الأميركيين أن “الوطنيين الأميركيين الحقيقيين قد يضطرون إلى اللجوء إلى العنف لإنقاذ البلاد”، وكانت هذه النسبة تبلغ 15% فقط عام 2021.
من ناحية أخرى، فالأميركيون الذين يعتقدون أن انتخابات 2020 سرقت من دونالد ترامب هم أكثر عرضة لدعم استخدام العنف السياسي من أولئك الذين لا يعتقدون ذلك (46% مقابل 13%). من بين أولئك الذين يؤمنون بنظرية مؤامرة الاستبدال، التي تنص على أن المهاجرين أو اليهود يأتون إلى الولايات المتحدة لتخفيف الهيمنة الثقافية للأميركيين البيض، يؤيد 41% استخدام العنف السياسي.
وفقا للاستطلاع، يعتقد 38% من الأميركيين أن البلاد بحاجة إلى شخصية استبدادية لإعادة البلاد إلى المسار الصحيح. يدعم الكاثوليك من أصول الهيسبانيك هذه الفكرة أكثر بكثير من أي مجموعات دينية أخرى، إذ يوافق عليها 51% منهم.
وتوافق أغلبية ضئيلة من الأميركيين (53%) على أنه من المحتمل أن يكون ترامب قد خرق القانون لمحاولة البقاء في السلطة بعد خسارته في انتخابات 2020، رغم أن 17% فقط من الجمهوريين يوافقون على ذلك. في حين يعتقد 62% من الجمهوريين و27% من المستقلين و4% من الديمقراطيين أن انتخابات 2020 سرقت من ترامب.
أميركا مسيحية مرة أخرى
يتعمق الاستطلاع أيضا في تمسك الأميركيين بالأيديولوجية القومية المسيحية البيضاء. ووفقا لـ33% من الأميركيين، فقد أعطى الله أميركا للمسيحيين الأوروبيين كأرض موعودة، حيث يمكنهم إنشاء مجتمع مثالي. أكثر من نصف البروتستانت الإنجيليين البيض يوافقون على هذه العبارة، و77% من الأميركيين يعتقدون أن الآباء المؤسسين كانوا يقصدون إنشاء أمة مسيحية.
ويرى هؤلاء القوميون المسيحيون أن شعار دونالد ترامب الانتخابي “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” يعني بالأساس إعادة السلطة إلى أميركا المسيحية البيضاء.
وتشهد الكثير من فعاليات ترامب الانتخابية ارتداء الآلاف من الحاضرين قبعات مكتوب عليها عبارة “لنجعل أميركا تصلي مرة أخرى”.
ويوافق 39% من الأميركيين ممن يؤمنون أن الله أراد أن تكون الولايات المتحدة أرضا موعودة للمسيحيين الأوروبيين، على استخدام العنف السياسي لإنقاذ البلاد من أولئك الذين يرفضون ذلك.
ويرى 55% من الأميركيين أن الثقافة الأميركية تغيرت إلى الأسوأ منذ خمسينيات القرن العشرين. يعتقد المسيحيون البيض أن هذا هو الحال أكثر من أي مجموعات دينية أخرى بنسبة 77%، في حين يوافق فقط 57% من الكاثوليك على ذلك.
من جانب آخر، تتمتع الأقلية من الأميركيين الذين يدعمون هذه القومية، بسلطة غير متناسبة لأن أصواتهم تتضخم من خلال حركة لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى “ماغا” (MAGA) المؤيدة لدونالد ترامب، وسيطرتها على مفاصل الحزب الجمهوري حاليا. وأظهر الاستطلاع أن غالبية الجمهوريين (55% منهم) وثلثي الإنجيليين البيض (66% منهم) مؤهلون كأتباع أو متعاطفون مع أيديولوجية القومية المسيحية الأميركية.
عداء للديمقراطية وترحيب بالعنف
يعد اعتبار أن أميركا كأرض موعودة للمسيحيين الأوروبيين هو في الأساس فكرة معادية للديمقراطية. علاوة على ذلك، ترتبط المعتقدات القومية المسيحية ارتباطا وثيقا بمجموعة من المواقف الأخرى التي تقوّض الديمقراطية: الاستياء العنصري الأبيض، وإنكار وجود العنصرية النظامية، ومعاداة السامية، والإسلاموفوبيا، والمشاعر المعادية للمهاجرين، ورهاب الشذوذ الجنسي.
وبعبارة أخرى، تثير القومية المسيحية البيضاء مجموعة من التسلسلات الهرمية التي تضع الرجال البيض المسيحيين في القمة.
وبين عامي 2010 و2020، انخفضت نسبة السكان البيض من 63% إلى 57%، وتقل النسبة بين من تقل أعمارهم عن 18 عاما لتصبح 47%.
الأمر الأكثر خطورة هو أن القوميين المسيحيين أكثر عرضة مرتين من الأميركيين الآخرين للاعتقاد بأن العنف السياسي قد يكون مبررا في ظروفنا الحالية لإيقاف التراجع الأبيض المسيحي السكاني.
ويوافق نحو 4 من كل 10 من أتباع القومية المسيحية (38%) وثلث المتعاطفين (33%) على أنه “نظرا لأن الأمور قد خرجت عن المسار الصحيح، فقد يضطر الوطنيون الأميركيون الحقيقيون إلى اللجوء إلى العنف لإنقاذ البلاد”، مقارنة بـ17% فقط من المتشككين في القومية المسيحية و7% من الرافضين لها.
ويرى هؤلاء أن جاذبية حركة “ماغا” هي الرغبة في العودة إلى عصر سابق حيث كانت الهيمنة المسيحية البيضاء سمة راسخة لجميع المؤسسات السياسية والثقافية الأميركية.