أظهرت الحرب على قطاع غزة ضعف تأثير الشعوب العربية والإسلامية على مسار الأحداث؛ فعلى الرغم من رمزية قضية المسجد الأقصى التي شكلت عنوانا للحرب، ورغم جرائم الاحتلال غير المسبوقة، وطول مدة المعركة، فإن سقوف التحركات الشعبية كانت محدودة وخاضعة غالبا لمواقف السلطات الحاكمة.
فيما شهدت محطات سابقة، كمعركة سيف القدس عام 2021، تفاعلا أوسع مدى وأكثر تأثيرا؛ إذ انتفض حينها أهل الضفة الغربية والقدس وفلسطينيو الداخل المحتل، وبلغت التظاهرات في الدول مستويات قياسية، كما اخترق المتظاهرون الحدود الأردنية- الفلسطينية، فكان لهذه المواقف تأثير ضاغط على الاحتلال، أسهم في تقصير مدى الحرب وتقليل مستوى الجرائم المرتكبة بحق أهل قطاع غزة.
لكننا لم نشهد ذات المستوى في معركة طوفان الأقصى، مما يستدعي تفسير التراجع في الفعل الشعبي، واستقراء أفق تطوره في الفترة القادمة.
سياسات تحييد الفعل الشعبي
استفاد كل من الاحتلال والسلطة الفلسطينية والعديد من الأنظمة العربية من التجارب السابقة للحراك الشعبي، فأوجدوا بيئة معيقة للتأثير الشعبي، وطبقوا الدروس المستفادة بشكل حثيث في هذه الجولة من المواجهة، وبرز ذلك في أمور منها:
- 1- العمل القانوني والأمني الاستباقي:
منذ عام 1948 وسلطات الاحتلال تعمل على تفكيك مؤسسات ومبادرات العمل الوطني والمقدسي في المناطق المحتلة، وتجريم العديد منها واعتقال نشطائها ومحاكمتهم، وتقييد حرية التعبير، وأسهم في هذا المسار وجود حزمة من القوانين العنصرية والاستبدادية، كقانون النكبة وقانون تمويل الجمعيات وقانون القومية وقانون يهودية الدولة.
كما تمنع شرطة الاحتلال بالقوة المظاهرات، وبالتوازي شرعنت الحكومة تشكيل ميليشيات يهودية مسلحة، أجرى بعضها تدريبات للاعتداء على العرب.
وقد وثق تقرير لمركز “مساواة لحقوق المواطنين العرب في إسرائيل” بمناسبة مرور 100 يوم على الحرب في غزة، ممارسات قمعية سُلطت على المجتمع العربي، مثل:
- وجود أكثر من 250 حالة اعتقال في الوسط العربي، بما يشمل اعتقالا لأهداف تبادل الأسيرات.
- تقديم 132 لائحة اتهام ضد عرب مقابل 3 لوائح اتهام ضد يهود.
- أكثر من 400 جلسة استماع لعمال وعشرات الإقالات.
- منع فتح بيوت عزاء لأقرباء استشهدوا في غزة.
أما في البلدان العربية التي ترزح تحت آثار الخريف العربي، فتشكل الهيمنة الأمنية عنوان المشهد السياسي فيها، مع مساع رسمية لخلق أجهزة أمنية وعسكرية ذات مواقف ومصالح قليلة التأثر بمواقف ومصالح عموم الشعب.
بالإضافة إلى خلق منظومات دستورية وقانونية تؤصل للاستبداد وتوسع صلاحيات السلطة التنفيذية وتقيد تأثير الشعب على السياسة العامة للدول، علاوة على تفكيك مؤسسات البنى المؤهلة لقيادة فعل شعبي راشد ومستدام، مما يترك أي تحركات شعبية ضحية للفوضى والارتجال وفقدان القيادة.
فيما أسرعت الأجهزة الأمنية بالتضييق والاعتقالات مع بدايات الحراك الشعبي المتضامن مع غزة، وبهذا الصدد طالبت منظمة العفو الدولية في تقرير لها بتاريخ السابع من فبراير/شباط 2024 السلطات الأردنية “بوضع حد لحملة القمع الواسعة التي شهدت اعتقال مئات الأشخاص منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 بسبب تعبيرهم عن دعمهم لحقوق الفلسطينيين في غزة أو انتقادهم سياسات الحكومة تجاه إسرائيل”.
وأشار تقريرها إلى اعتقال أكثر من 1000 شخص -من المتظاهرين والمارّة- خلال الاحتجاجات المؤيدة لغزة في العاصمة الأردنية عمَّان في غضون شهرين بين أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول 2023.
حيث وُجّهت إليهم تُهم بموجب قانون الجرائم الإلكترونية الجديد الصادر في أغسطس/آب 2023 بسبب منشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعبّر عن مشاعر مؤيدة للفلسطينيين، أو تنتقد معاهدات السلام أو الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمتها السلطات مع إسرائيل، أو تدعو إلى إضرابات عامة واحتجاجات.
ويستخدم هذا القانون مصطلحات مبهمة وغير دقيقة وفضفاضة، ويجرّم أي خطاب قد يسيء إلى مسؤولي إنفاذ القانون، ويحد من إمكانية إخفاء الهوية على الإنترنت”.
وفي الأول من نوفمبر/تشرين الثاني 2023 قالت منظمة “هيومن رايتس ووتش” إن السلطات المصرية اعتقلت تعسفا وأحالت إلى النيابة العامة عشرات المحتجين السلميين في مظاهرات داعمة لغزة ومنددة بالاحتلال.
وفي تقرير لاحق لها قالت المنظمة إن السلطات البحرينية اعتقلت وضايقت العشرات بينهم أطفال ممن شاركوا في الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين في مختلف أنحاء البلاد، وكذلك من شاركوا في أنشطة مناصرة لفلسطين عبر الإنترنت.
- 2- امتصاص الغضب الشعبي من خلال خلق تفاؤل كاذب يدفع الشعوب إلى خانة المشاهدة بدلا من الفعل
ويظهر هذا الأمر جليا في السلوك الأميركي الذي يظهر بعض الاختلاف مع السلوك الإسرائيلي، دون اتخاذ إجراءات رادعة له.
وكذلك في التصريحات الرسمية عالية السقف، كما في حديث الرئيس التركي أردوغان عن “الخطوط الحمراء” والتصريحات الأردنية والمصرية بشأن التهجير، والتي كانت أقرب ما تكون إلى “ظواهر صوتية”، غير مرتبطة بسياسات فعلية على الصعيد الاقتصادي أو الامني أو السياسي.
إضافة إلى تضخيم الأفعال قليلة التأثير، كإنزال المساعدات جوا، والحديث الأميركي عن ميناء عائم لا يوفر نصف احتياجات أهل غزة.
وفي ذات السياق يأتي الانحناء المؤقت لعواصف الغضب الشعبي، دون تغيير التموضع الإستراتيجي للأنظمة المتحالفة مع دولة الاحتلال والولايات المتحدة، وهذا ما حصل عقب مجزرة المستشفى المعمداني، إذ ألغت الأردن القمة الرباعية مع بايدن والسيسي وعباس، بالتزامن مع خروج مظاهرات في الضفة الغربية مطالبة بإسقاط رئيس السلطة الفلسطينية.
ويشمل هذا المسار تكتيكات التفاوض أو الحوار المجتمعي، وتقديم بعض “المكاسب الهشة” للموقف الشعبي، وهي نوع من التنازلات التي يمكن التراجع عنها بسهولة.
- 3- تشويه الوعي الشعبي من خلال إغراق وسائل الإعلام بالمعلومات الخطأ والأفكار المناهضة للمقاومة
يأتي هنا عمل “الذباب الإلكتروني” على منصات التواصل الاجتماعي، إذ يعد هذا الأسلوب بديلا معاصرا عن تكتيك إخفاء صوت المعارضة الذي لم يعد ممكنا بفعل ثورة المعلومات والسوشيال ميديا.
كما تتضمن هذه الجهود تسويق مفهوم انعزالي للوطنية، بما يجعلها نقيضا أو خصما للانتماء العربي والإسلامي، فيما يتم احتكار تعريف “المصالح الوطنية العليا” من قبل أنظمة وحكومات غير منتخبة، ولا تمثل الشعب تمثيلا فعالا.
ثم يأتي دور علماء السلطان الذي يبرز في التشجيع الرسمي “لفكر الإرجاء” وتلميع رموزه، وهي وصفة قديمة “لمواجهة الإسلام بالإسلام”.
- 4- إثارة الانقسامات الاجتماعية وتخويف مكونات الشعب من بعضها الآخر
كما حدث إبان الربيع العربي في كل من مصر والأردن، في استلهام للحكمة الاستعمارية سيئة الذكر “فرّق تسد”. ففي الأردن على سبيل المثال، يرتفع منسوب الخطاب الجهوي والعنصري من قبل كتاب مقربين من النظام ومن قبل “الذباب الإلكتروني” بالتزامن مع تصاعد التفاعل الشعبي مع القضية الفلسطينية، في محاولة لإشغال الرأي العام، ولمنع حصول إجماع شعبي ضاغط لاتخاذ مواقف رسمية حاسمة بشأن العلاقة مع الاحتلال.
وفي مطلع شهر نيسان 2024 وبالتزامن مع تظاهرات واسعة بالقرب من السفارة الإسرائيلية في العاصمة الأردنية، تصدّر وسم “أيلول الأسود” منصة إكس (x)، والذي يشير إلى أحداث العنف التي حصلت بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1970.
وأظهر تحقيق لمنصة “إيكاد” دور الذباب الإلكتروني في هذا الأمر، ووجود حسابات وهمية يشغلها الذكاء الاصطناعي للقيام بهذا الدور، وأن بعض هذه الحسابات تعمل على مدار ساعات النهار والليل، بما لا يمكن معه أن تكون لشخص واحد.
- 5- استمالة الشعب أو بعض نخبه من خلال تقديم الحوافز أو الرشاوى الاقتصادية
ويظهر أثر ذلك في الانتقال المتكرر لبعض رموز المعارضة إلى السلطة، دون أن يكون هناك تغير في الموقف الرسمي بما يبرر هذا الانتقال، وهو تكتيك يستهدف إضعاف ثقة الشعب بأي قيادات مجتمعية خارج إطار تأييد المواقف الرسمية.
ويتكامل هذا السلوك مع مسار طبيعي لدى عموم الأنظمة الاستبدادية في “الشرق الأوسط”، وهو ما شرحه بالتفصيل كتاب “السلطوية في الشرق الأوسط: النظم الحاكمة والمقاومة” للباحثة مارشا بوسوزني والباحث ميشيل أنجريست.
نحو تعزيز فعالية الأدوار الشعبية
إن الوعي بهذه السياسات السلطوية أمر أساسي لتعزيز تأثير المواقف الشعبية بشأن الحرب على غزة وسواها من مواقف ومصالح الشعوب، كما أن الوعي بطبيعة المعركة مع الاحتلال، بصفته رأس حربة للهيمنة الاستعمارية على المنطقة، يشكل أساسا للتوفيق بين المصلحة الوطنية من جهة والانتماء العربي والإسلامي والإنساني من جهة أخرى.
فيما يبقى نجاح العمل التضامني الشعبي مرهونا بحسن تنظيمه، وتجاوزه الانقسامات الاجتماعية والفكرية التي تعوقه، وتعزز ثقافة التعاون والمصلحة المشتركة. وصولا إلى إيجاد هياكل تنسيقية فاعلة ومستدامة تنال ثقة الشعب، فمن شأن ذلك تقليل الهدر وتضارب الجهود، وتعزيز القدرة على فرض تغيير في السياسات الرسمية بما يجعلها أقرب إلى الموقف الشعبي.
كما يلزم وجود خطاب إعلامي يعلي من شأن المشاركة الشعبية، ويحمل كل فرد من المجتمع مسؤوليته، ويتجنب التهويل من شأن قوة المقاومة، لما يخلقه من تواكل في نفوس المتعاطفين معها، بل ويسلط الضوء على جرائم الاحتلال، وعلى عدم تكافؤ القوى، ويرتكز على حقيقة أن تحرير فلسطين من داخلها “وحده” أمر غير ممكن، وأن النصرة الخارجية حاسمة في تحديد مسار أي معركة.
وبهذا الصدد قدّم أستاذ العلوم السياسية “جين شارب” نظرية للتغيير السلمي في كتابه الشهير “سياسة العمل اللاعنفي”، تشمل أساليب الاحتجاج والإقناع وعدم التعاون الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كالمقاطعة والإضراب، والتي تتكامل مع بعضها بهدف تغيير سلوك النظام المستبد، سواء بسبب حصول تحول فيه، أو بدفعه نحو التكيف مع هذه الضغوط، أو بإكراهه على ذلك، بجعلِه في موقف لا يسمح باستخدام العنف ضد المحتجين على سياسته.
وتحقق ذلك رَهْن بأمور منها: الاستعداد لمواجهة القمع الذي يرجح أن يترافق مع بداية الاحتجاج، وإدراك نقاط القوة والضعف لدى السلطة، والديناميات الاجتماعية والاقتصادية لعملها.