القدس- شكّل الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2000 محطة فارقة في العلاقة بين فلسطينيي الـ48 والسلطات الإسرائيلية التي قمعت شرطتها بالرصاص الحي مظاهرات اندلعت حينها احتجت على اقتحام الوزير السابق أرئيل شارون المسجد الأقصى في القدس.
ولا تزال ذكريات 13 شهيدا من فلسطينيي الـ48 قُتلوا برصاص الشرطة الإسرائيلية راسخة وتتجسد من خلال إحياء الذكرى الـ23 لهبّة القدس والأقصى، وذلك عبر فعاليات أطلقتها لجنة المتابعة العربية العليا بالزيارات إلى أضرحة الشهداء والمسيرة التقليدية الوحدوية التي احتضنتها بلدة سخنين في الجليل (شمال) أول أمس السبت.
ولا تزال الحاجة رشدية غرة من بلدة جت بالمثلث في الداخل الفلسطيني تبكي نجلها البكر رامي الذي استشهد في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2000 في مطلع انتفاضة القدس والأقصى.
ومنذ 23 عاما تعيش والدة الشهيد رامي فاجعة الفراق والحسرة والألم وكأنها تلقت نبأ استشهاده للتو، وتستذكر اللحظات الأخيرة التي جمعتها معه صباح يوم استشهاده، حيث عم الإضراب الشامل بلدات الداخل الفلسطيني.
وعند ضريح ابنها الشهيد تحدثت الوالدة للجزيرة نت عن مشاعر مختلطة بالحزن والفخر بنجلها الشهيد، وعن ولادة حفيدها البكر قبل أشهر والذي أطلقت عليه العائلة اسم “رامي” أيضا.
وقالت “كل واحد له مكانته ومحبته في القلب، رامي الشهيد محفور بالذاكرة والوجدان، ورامي الحفيد الأمل باستمرارية الحياة”.
قبل استشهاد ابنها بأيام تقول رشدية “راودتني أفكار غير معهودة وانتابني شعور غريب بأن شيئا سيحدث في العائلة، قلبي كان يخفق سريعا كلما كنت أرى رامي، وكان بالي مشغولا عليه لمجرد خروجه من البيت للعمل أو قضاء الوقت مع أصحابه”.
ميلاد واستشهاد
بدت الأمور غير عادية في يوم الأحد الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2000، في مثل هذا اليوم قبل 23 عاما تقول الوالدة المكلومة “كان رامي قد بلغ من العمر 21 ربيعا، واختار المشاركة في المسيرة الاحتجاجية ضد العدوان على القدس والأقصى”.
خرج رامي من البيت باكرا وأغلق محل والده التجاري التزاما بالإضراب، وشارك بالمسيرة التي طافت شوارع البلدة، ثم توجه برفقة أصدقائه إلى منزل جدته القريب من مدخل البلدة، وحين انتشر خبر ارتقاء شهداء في أم الفحم طلب من الأصدقاء الخروج إلى الشوارع والاحتجاج دفاعا عن القدس والأقصى.
لم تتخيل الحاجة رشدية أنه في ذكرى ميلاد رامي سيصلها خبر استشهاده، في ساعات المساء كانت ترقب الأحداث من شرفة المنزل وكان زوجها الحاج حاتم جالسا بالمدخل، عندها أتى أحد الشبان وقال لوالده “رامي أصيب برصاص الشرطة”، نزلت مسرعة من المنزل تبكي وتصرخ عاليا “رامي استشهد.. ابني استشهد”.
حسرة ومرارة
هذه اللحظات لا تفارق أم رامي التي لا تزال تعيش صدمة الفراق بدخول فلذة كبدها المنزل محمولا على الأكتاف وهو شهيد “كان من المفروض أن نحتفل بذكرى ميلاده في هذا اليوم، لكننا نودعه شهيدا، لكن ما يثلج الصدر ويخفف عنا واقعة الفراق أنه ارتقى مع الشهداء الذين دفعوا ضريبة الدم دفاعا عن الوطن لتبقى قضية القدس والأقصى مشتعلة بدماء الشهداء”.
لكن -تقول الحاجة رشدية- “الفراق صعب للغاية، أعيش وكأن رامي استشهد بهذه اللحظات، هنا في مدخل البلدة استشهد برصاص شرطي إسرائيلي، وعلى بعد أمتار من مكان استشهاده ووري الثرى، بخروجنا ودخولنا من البلدة نتذكر رامي ولحظات استشهاده، 23 عاما مرت كأنها ساعات، رامي باقٍ في القلب والذاكرة، وذكرى الشهداء وإرثهم لا يزالان خالدين ما دام هناك فلسطيني يدافع عن القدس والأقصى”.
القلب والذاكرة
المشاعر ذاتها ما زالت ترافق الحاجة هدية صيام والدة الشهيد أحمد من بلدة “معاوية” قضاء أم الفحم، والتي انشغلت بالتحضيرات قبالة ضريح نجلها البكر لاستقبال الضيوف لإحياء الذكرى الـ23 لهبّة القدس والأقصى.
وقالت “هذه الأحداث لا تنتهي بالتقادم، وتطوى وكأنها لم تكن، بل تبقى راسخة بالقلب والوجدان ومحفورة بالذاكرة، وها نحن نورثها للأجيال”.
وأمام ضريح نجلها الشهيد لم تستطع أم أحمد أن تكتم مشاعرها ودموعها، وقالت للجزيرة نت “23 عاما مرت كأنها لحظات، فالحياة تستمر، ونحن تسلحنا بالإيمان بالقضاء والقدر”.
وأضافت “نحن أمهات الشهداء نواسي أنفسنا، ونعزز صمودنا في هذا الوطن، ما يعزينا أن أحمد استشهد من أجل القدس والأقصى، ودماء الشهداء لم تذهب هباء منثورا وما زالت توقد قضية الأمة”.
مشاعر مختلطة
تجاوزت أم أحمد مشاعرها الحزينة، وبدت أكثر قوة وعزيمة وبمعنويات عالية وهي تسرد أهمية ما قدمه الشهداء، قائلة “نعتز ونفتخر بأننا أهالي الشهداء، اختارنا الله لهذا الموقف المشرف لنحمل الراية والرسالة ونواصل مسيرة الدفاع عن القدس والأقصى”.
وتتذكر الحاجة هدية نجلها الشهيد أحمد من خلال أصدقائه، في مثل هذا اليوم كان من المفروض أن يكون عمره 41 عاما، مع أسرة وزوجة وأولاد، لكن ما يخفف عنها وطأة الفراق والحسرة والألم نجلها الثاني عمر الذي حقق حلم أحمد بدراسة الصحافة والإعلام، ليحمل رسالته ويحقق طموحاته.
رحل أحمد -تقول والدته- لكن ذكراه بقيت خالدة، والقضية التي استشهد من أجلها ما زالت تنبض بالحياة، متذكرة العبارات التي كان يرددها قبيل أسابيع من استشهاده “أمي ماذا ستفعلين إذا أحضروني إليك شهيدا؟”، وتضيف “دائما تعمدت عدم الرد عليه، لكن في المرة الأخيرة وقبل استشهاده بأيام كرر هذه العبارة، وقلت له سأصبر”.