قره باغ- حسمت أذربيجان هذه المرة الجولة لصالحها منذ اللحظات الأولى لبدء عمليتها العسكرية ضد أرمن قره باغ؛ فبعد حصار استمر نحو 9 شهور استسلمت قوات أرمن قره باغ التي وافقت على وقف إطلاق النار، ليتم بموجبه بسط سيطرة باكو الكاملة على الإقليم، وبدء سحب سلاح قوات الأرمن.
وباشرت أذربيجان حل كافة المؤسسات السياسية التابعة لأرمن الإقليم، وأسهمت جملة من التغييرات في مواقف الأطراف الإقليمية والدولية في الوصول لهذه الحظة الراهنة.
موسكو ترفع الغطاء
تغير الموقف الروسي من الصراع في السنوات الأخيرة، حيث كانت روسيا تدعم أرمينيا وتساعدها في الحفاظ على سيطرتها على إقليم ناغورني قره باغ، ولكن بعد تغير موقف أرمينيا وتحالفها مع الغرب -خاصة الولايات المتحدة- قررت موسكو إعادة حساباتها.
وقاد رئيس الوزراء الأرميني الحالي نيكول باشينيان هذا التوجه الجديد لبلاده، وأسهمت الحرب الروسية الأوكرانية في حدة الاستقطاب بالمنطقة؛ الأمر الذي أثر في موقف روسيا، وزاد حساسيتها تجاه الموقف الأرميني الذي يزداد قربا من الولايات المتحدة، حيث أجرت أرمينيا هذا الشهر مناورات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة، ووصفتها روسيا “بالمثيرة للقلق”.
وأضعفت الحرب الأوكرانية موقف روسيا في إدارة علاقات متوازنة بين باكو ويريفان، الأمر الذي دفع إلى تغيير سياساتها في القوقاز، وأصبحت أذربيجان -الطريق البري الرئيسي لروسيا إلى الجنوب- شريكا أكثر أهمية من أرمينيا؛ حليفتها المسيحية التقليدية في المنطقة.
وكان موقف روسيا حاسما عندما أغلقت أذربيجان ممر لاتشين في ديسمبر/كانون الأول الماضي، كما أسهم تصعيد رئيس وزراء أرمينيا من خطابه ضد روسيا في التخفيف من حماس روسيا للتدخل لصالح المحافظة على الوضع الراهن في إقليم قره باغ.
وصرح رئيس الوزراء نيكول باشينيان -في مقابلة مع صحيفة إيطالية مطلع هذا الأسبوع- بأن روسيا أخفقت في حماية أرمينيا مما وصفه “بالعدوان المتواصل” من أذربيجان.
وأشار إلى أن حرب روسيا في أوكرانيا تعني أنها غير قادرة على الوفاء باحتياجات أرمينيا الأمنية.
تركيا المستفيد الأكبر
شكل الدعم التركي النوعي على المستويين العسكري والسياسي عاملا حاسما في نجاح باكو في تحقيق تقدم عسكري غير مسبوق في حرب عام 2020.
ومنذ ذلك الوقت والعلاقات التركية الأذرية آخذة في التطور إلى ما يشبه التحالف الإستراتيجي، حيث توج ذلك بتوقيع اتفاقية شراكة إستراتيجية للدفاع المشترك، وفي الجولة الأخيرة استمر الموقف التركي داعما ومساندا لخطوات باكو لحسم الصراع في قره باغ.
ويمنح موقف تركيا المساند لباكو أنقرة موضع تأثير إستراتيجي في منطقة القوقاز، التي تشهد تنافسا بين القوى الإقليمية الرئيسية: روسيا وتركيا وإيران، كما تحظى باهتمام أميركي وصيني خاص؛ نظرا لتأثير المنطقة الكبير على مشاريع ممرات الطاقة والتجارة بين الشرق والغرب.
وتهدف تركيا من زيادة حجم وجودها في المنطقة -ذات الصلة الكبيرة بالمكون التركي- إلى تأمين وجود لها في ممرات الطاقة التي تعبر إلى أوروبا.
تأتي هذه الخطوة ضمن رؤية تركيا الشاملة لتعزيز دورها بوصفها مركزا لنقل الطاقة إلى أوروبا، بالإضافة إلى ذلك تعمل تركيا على تحسين علاقاتها مع كل من روسيا وإيران، وتقوم بإدارتها بشكل أكثر فاعلية.
قلق إيراني وآفاق لمقاربة جديدة
يظهر من الموقف التاريخي لإيران من الصراع بين أذربيجان وأرمينيا ما يبدو تناقضا بين مصالحها وهويتها.
حيث تعد أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية أقرب لإيران من أرمينيا ذات الأغلبية المسيحية، إلا أن المنظور الإيراني يعد مركّبا إذا أخذ بعين الاعتبار مخاوف طهران من تنامي الشعور الانفصالي للعرقية الأذرية في محافظات الشمال المحاذية لأذربيجان.
يضاف إلى ذلك توجهات باكو كحليف للولايات المتحدة الأميركية وكل من تركيا ودولة الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث تتهم طهران باكو بفتح أراضيها لأنشطة إسرائيلية معادية، وأنها قاعدة انطلاق لتهديدات إسرائيلية لطهران.
ورغم دعم صانع القرار الإيراني لأرمينيا، فإن قرار باكو تحقيق النصر الكامل في قره باغ فرض نفسه على إيران، وسارعت إيران في الأشهر الأخيرة لتنفيذ مناورات على الحدود مع أذربيجان، ومحاولة فتح خطوط حوار جديدة مع باكو استنادًا إلى الحقائق الجديدة.
ويساعد على ذلك مواقف يريفان المتجهة أكثر نحو الغرب، إلا أن الطريق نحو صفحة جديد مع باكو تعتريه عقبات كبيرة وتاريخا من الصراع والتباعد في وجهات النظر.
وتسلط طهران الأنظار على المساعي التركية الأذرية لفتح ممر بري بينهما على الحدود بين أرمينيا وإيران، حيث تعد ذلك تهديدا لصلتها البرية مع أرمينيا، وتقف طهران بين خيارين: مواجهة المشروع التركي الأذري، أو المشاركة فيه؛ وهو ما يتطلب مفاوضات ستكون صعبة من كافة الأطراف.
أميركا حاضرة دائما
ترتبط الولايات المتحدة بعلاقات قوية مع طرفي الصراع، ولديها تأثير كبير في كل من باكو ويرفيان، إلا أن مقاربتها الأخيرة مع أرمينيا قد تم قطع طريقها بالخطوة الأذربيجانية الأخيرة بمسارعتها في حسم الصراع عسكريا.
وقال مسؤول كبير في مجلس الشيوخ الأميركي في 14 سبتمبر/أيلول الجاري “إن الولايات المتحدة لن تؤيد أي إجراء أو جهد -قصير الأجل أو طويله- للتطهير العرقي أو ارتكاب فظائع أخرى ضد السكان الأرمن في ناغورني قره باغ”.
وبعد مضي 5 أيام، قامت أذربيجان ببدء عمليتها العسكرية في 21 سبتمبر/أيلول. وفي جلسة للأمم المتحدة، دان وزير الخارجية الألماني التهجير والنزوح القسري للأرمن من قره باغ، وعدّ ذلك أمرًا غير مقبول. كما دعا السفير الأميركي إلى إرسال بعثة دولية للتدخل على الأرض، لكن فرار الأرمن من قره باغ لم يتزايد إلا في الأيام التي تلت ذلك.
ورغم تلقي الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف اتصالات هاتفية من مسؤولين أميركيين وغربيين آخرين تحذره من اللجوء إلى القوة العسكرية، فإنه قرر مجددا أن يستخدم القوة العسكرية.
وتركز واشنطن في جزء من مقاربتها على محاصرة روسيا وسحب أوراق نفوذها الخارجي لممارسة الضغط اللازم عليها في معركتها في أوكرانيا، إلا أن مقاربة علييف جاءت على النقيض من ذلك، حيث يعتقد أن كلا من تركيا وروسيا هما الطرفان اللذان يمكن الاعتماد على مواقفهما، وليس الولايات المتحدة ذات الموقف المركب والمرتبط بحسابات تتعلق بصراعها مع القوى الدولية.
معركة الحسم
رغم اختلاف وجهات النظر التركية والروسية من النفوذ في المنطقة، فإن نقط الالتقاء في الحد من النفوذ الغربي منح باكو مساحة أكبر للمناورة.
المعركة الأخيرة التي تدور في قره باغ تعد ضربة للجهود الغربية التي تسعى لإدارة الصراع من خلال إنشاء إطار أوروبي للأمن والحقوق، الذي يعتمد بشكل أساسي على قوانين القانون الدولي لحل المشكلة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على حكم ذاتي لأرمن قره باغ.
ويبقى للقوى الغربية خيار أخير، وبدعم من الأمم المتحدة، بمحاولة إخراج اتفاق 2020 الذي رعاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الوصاية الروسية، ووضعه تحت مظلة دولية أوسع، إلا أنه من المتوقع أن تقاوم أذربيجان وروسيا ذلك.
يعيد حسم أذربيجان الصراع عسكريا لصالحها خارطة المواقف الدولية والإقليمية من الصراع، ومن المنطقة برمتها؛ فالإزاحات الحاصلة في الموقفين الروسي والأميركي وفقا للتطورات الميدانية قد تنسحب على مواقف إقليمية أخرى، خاصة إيران.
حيث من المتوقع أن تعيد الأخيرة حساباتها وفقا لمعطيات الواقع الجديدة، في حين تبقى تركيا الأكثر نفعا من الواقع الجديد الذي أسهمت إلى حد بعيد في رسم ملامحه.