قبل الثامن من سبتمبر/أيلول الجاري، كان تجهيز شاحنة محملة بالمواد الغذائية في المغرب يحتاج لمبلغ 60 ألف دولار، لكنه الآن لا يتطلب سوى ركنها أمام مجمع تجاري وإبلاغ المتسوقين أنها متجهة إلى ضحايا الزلزال الذي أدى إلى 2946 قتيلا وأكثر من 6 آلاف جريح، ودمّر قرى كاملة تاركًا سكانها في العراء.
ومثل هذه الهبة الشعبية حصلت في ليبيا، حيث بادر الناس للتبرع بكل ما يقدرون عليه لصالح سكان مدينة درنة، التي ضربتها فيضانات قوية غيبت جزءا كبيرا منها وحصدت أرواح 11 ألف شخص، وفق تقديرات أممية.
وفي حديثهم للجزيرة نت، أبدى نشطاء العمل الخيري المنخرطون في الميدان حاليا انبهارهم بكرم المواطنين إزاء محنة إخوانهم في المغرب وليبيا، وفي الوقت ذاته طلبوا منهم اليقظة والحرص على وضع تبرعاتهم في أياد أمينة لضمان وصولها للمنكوبين.
الكرم المغربي.. ثقافة متجذرة
الفاعل الجمعوي عبد الحميد العلمي يقول للجزيرة نت إن حصول الزلزال في عطلة نهاية الأسبوع سبّب إرباكا للجمعيات الخيرية والإغاثية، وذلك لتعذر توفير السيولة اللازمة لتسيير القوافل الإغاثية للمتضررين، ولكن كرم الناس مكّن الجمعيات الإغاثية من تجاوز هذه العقبة، فقد استعانت بالمشاهير وأعلنت عن نقاط لجمع التبرعات، وحدث تفاعل شعبي هائل مع هذه المبادرات.
ويروي العلمي أنه في الحالات التي تجلب فيها جمعية إغاثية شاحنة واحدة في نقطة لجمع التبرعات، يجود الناس بما يكفي لملء 10 شاحنات، “في واحدة من تجليات الكرم المتجذر في الثقافة المغربية والمتناغم مع التعاليم الإسلامية، فـ: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى”.
ويوضح العلمي أنه شارك في تسيير قوافل إغاثية من العاصمة الرباط والدار البيضاء ومراكش، في حين “سيرت جمعيات أخرى قوافل من أغادير والعيون ومن العديد من المناطق”.
أرقام مالية
ويروي الفاعل الجمعوي أن تجهيز الشاحنة يتطلب ما قيمته 60 ألف دولار أميركي، وأن الهيئات والمبادرات الإغاثية أرسلت ما بين 300 و400 شاحنة لكل إقليم من الأقاليم الأربعة الأكثر تضررا بالزلزال، وهي الحوز وتاردونات وشيشاوة ومراكش، مما يعني أن العدد الكلي للشاحنات يتراوح ما بين 1200 و1600.
وقد أسفر هذا النشاط الخيري الهائل عن “تغطية الجانب الغذائي بشكل وفير، والقضية الآن الملحة هي توفير المأوى مع قرب فصل الشتاء”.
وحتى الحين، جمع الصندوق الخاص بتدبير الآثار المترتبة على الزلزال أكثر من 6 مليارات درهم مغربي، وهو ما يعادل 586 مليون دولار أميركي.
أما الأمين العام للائتلاف الجمعوي لتارودانت الحسين اليوسفي فيشيد بدور المجتمع المدني، ذلك بأن الهيئات الخيرية “جمعت التبرعات والمساهمات في مختلف مدن المغرب، وأوصلت القوافل الإغاثية للمتضررين”.
وتحدث اليوسفي للجزيرة نت في وقت متأخر من الليل بعدما شارك في اجتماع ميداني في قرية “تزي نتاست” بإقليم تارودانت لتقييم الأداء في يوم السبت والتحضير لعمل يوم الأحد.
أمد الأزمة
ويلاحظ اليوسفي أن العمل الإغاثي في الأيام الأولى تم بشكل ارتجالي وغير منظم، “لأن هول الكارثة جعل جميع الداعمين يسابقون الزمن لإحضار المساعدات وإنقاذ ذويهم”.
والمتضررون أيضا في وضعية نفسية لا تسمح لهم بتنظيم أنفسهم، فقد صدمهم فقدانهم كل شيء “وهم غير جاهزين لاستقبال الإعانات رغم أنها متوفرة وبكثرة بحمد الله، فهناك وفرة في مناطق، ومناطق أخرى تستفيد بأقل، وهذا من سوء التنظيم”، وفق اليوسفي.
وتبقى التضاريس الصعبة عقبة حقيقية، فبعض المسالك المؤدية للقرى الجبلية “ذهبت في خبر كان، وبات صعبا الوصول إلى قرى كثيرة، وهذه عقبات وإكراهات تفرض نفسها”.
ويتوقع اليوسفي أن يطول أمد الأزمة، فسيظل الناس خارج منازلهم من 6 شهور إلى سنة لحين إعادة الإعمار، “وعلى الجمعيات أن يكون لديها برنامج عمل بما في ذلك توفير مخزن لجمع التبرعات، وتوزيعها وفق جدول زمني”.
وكانت السلطات المغربية أعلنت عن تضرر 50 ألف منزل من الزلزال، وأعلنت تعويضا بقيمة 14 ألف دولار عن أي منزل انهار كليا، و8 آلاف دولار عن أي منزل انهار جزئيا، مع معونات مباشرة بقيمة 3 آلاف دولار لكل أسرة متضررة.
الليبيون يد واحدة
أما في ليبيا، فقد قال الهلال الأحمر لفرع طرابلس إنه سيّر حتى الحين 5 قوافل إلى درنة وبقية المناطق المتضررة، وذلك “بالتعاون مع بلدية طرابلس وعدة منظمات أخرى والأشخاص الخيرين من كافة المدن الليبية”.
وكذلك نظمت بنغازي ومدن الشرق الأخرى قوافل إنسانية عديدة، وتنادى الناس للتبرع بالمواد الغذائية والمستلزمات الطبية لصالح ضحايا عاصفة دانيال.
حاتم أمحارب، إعلامي وناشط خيري ومؤثر على مواقع التواصل الاجتماعي من مدينة أجدابيا، تحدث للجزيرة نت عن تفاعل الليبيين مع الكارثة التي أصابت درنة، قائلا إنها أكدت من جديد عمق الروابط بين مختلف مكونات الشعب.
ويقول أمحارب “في كل مرة لا يتخلى الليبي عن أخيه الليبي، فلم يحصل أن بات نازح في الشارع ولا في سيارة”.
ويتحدث أمحارب عن “اتفاق داخلي أدبي ليبي” يقضي بأن يكون الناس يدا واحدة أمام المحن والكوارث “وما زودناهم به يكفي لأزيد من شهر”.
ويروي أن عائلة وصلت أمس إلى أجدابيا، وتم الإبلاغ عن حاجتها لثلاجة واحدة، فوصلتها على الفور 13 ثلاجة و13 فرن غاز، وتم تأثيث منزلها بالكامل بما يفيض عن حاجة عوائل عديدة.
وعن هذا الجانب، تحدث أيضا للجزيرة نت الأستاذ الجامعي عبد المنعم الشوماني، وهو أحد المشرفين على حملات تطوعية من مدينة المرج.
يقول الشوماني إنه منذ الساعات الأولى لحدوث كارثة درنة، هبت قوافل الإغاثة بشكل تلقائي، ودون توجيه من أحد، “بالتموين والمياه وحتى بالمبالغ المالية”.
ويشدد على أن المجتمع الليبي مترابط، ورغم ما تعرض له من صراعات داخلية ومن موجات الكراهية، فإن الحواجز والنزاعات انهارت كليا مع انهيار سدّي درنة، واستعاد الناس حب بعضهم بعضا “وللعاطفة دور كبير في تصرفات ومواقف الليبيين”.
ومن درنة أيضا، تحدث للجزيرة نت الطبيب محمد علي، المنخرط تطوعا في علاج المصابين، قائلا إنه وآخرين قطعوا مسافة 100 كلم للوصول إلى المنكوبين حاملين معهم الأودية والمستلزمات الطبية بدعم من الصيدليات والشركات.
الضمانات والثقة والتجربة
بيد أن جود الناس ينبغي أن تصاحبه اليقظة. ففي الوقت الذي تتحرك فيه العاطفة لمؤازرة الناس، تستيقظ المهارات الإجرامية لمن يسميهم العلمي عديمي الضمير.
ولضمان وصول التبرعات لمستحقيها، ينصح نشطاء منخرطون في العمل الميداني بالتعامل مع الهيئات المعروفة في الأوساط الإغاثية.
ويوصي العلمي بالتبرع للصندوق الذي أعلنت عنه المملكة أو للهيئات التي تنشط أصلا في العمل الخيري ولها مشاريع قائمة وتحظى بثقة المتبرعين، مشددا على أهمية تبليغ السلطات بأي نشاط مشبوه.
أما الناشط محمد فال ولد سيدي، المتعاون مع منظمات إغاثية أوروبية، فيقول إن المبادرات الشعبية في ليبيا والمغرب برهنت على قدرة الناس العاديين على الاستجابة للكوارث، وتمكنت من جمع أموال طائلة في وقت وجيز.
ومع ذلك يوصي المتبرعين بالتعامل فقط مع الهيئات المعروفة والمجربة، “والحذر من الهيئات الوليدة وتلك التي بدأت مع الكارثة، فقد تكون وهمية وقد تكون بلا خبرة”.
أمارات الثقة
ويضيف أن الجمعية التي يطمئن لها المتبرع عادة تكون لها روابط وجهات خارجية وحسابات بنكية وفرق ميدانية تمثلها في المناطق المنكوبة.
ولا تكفي الثقة وحدها لضمان وصول المساعدات لمستحقيها، فلا بد من التجربة والكفاءة الإدارية، وفق العلمي الذي يحث مغاربة الخارج على تنسيق تبرعاتهم ومبادراتهم مع الجمعيات التي تمتلك الخبرة في التعاون مع الجهات الدولية والتنسيق مع السلطات المحلية.
ومن الضمانات، التي تحدث عنها اليوسفي، مرافقة القافلة من طرف شخص من الجمعية أو ممثلين للمتبرعين ،”وذلك ليعيشوا اللحظة الميدانية بأنفسهم والتمكن من توثيق العملية عبر الصور أو باستجواب المستفيدين”.
ويؤكد الأمين العام للائتلاف الجمعوي لتارودانت أنه لا بد من احترام المسطرة القانونية المتعلقة بجمع التبرعات، “ويجب أن تكون في إطار مشروع له أهداف وأنشطة محددة وتصدر به تقارير دورية تقدم للمانحين”، مشددا على أهمية التنسيق مع الجمعيات المحلية في المناطق المستهدفة.
ويبدي الطبيب المتطوع في درنة محمد علي انزعاجه من فوضى وتخبط في القرارات، محذرا من أنْ يتسبب هذا الوضع في ضياع الجهود التي بذلها الأهالي من كل أنحاء ليبيا.