في الرابع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2024، وبينما كانت وزارة الصحة اللبنانية تعلن ارتفاع عدد شهداء الهجوم الإسرائيلي على البلاد إلى 558 وإصابة 1835 آخرين، كانت إدارة التحرير في صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية تحرر مقال رأي ستنشره في اليوم التالي مباشرة، يتحدث عن أن لبنان “جزء من أرض إسرائيل الموعودة التي سيعيدها الله إلى دولة الاحتلال قريبًا”.
ولأن المقال الذي نُشر بالإنجليزية أثار الكثير من الغضب لدى القراء الأجانب خاصة مع ازياد أعداد الضحايا المدنيين في لبنان نتيجة الهجمات الإسرائيلية هناك، فسرعان ما حذفته الصحيفة.
بدأ المقال بالتأكيد على أن آيات التوراة تحمل رسائل عميقة من الممكن الاستفادة منها في الحياة اليومية وفي الأحداث الجارية، وأنه ربما تكون رؤية الحاخام اليهودي شاي تاهان قادرة على فتح الأبواب لفهم رسائل التوراة المتجاوزة للتاريخ بشكل أفضل.
وبحسب رؤية الحاخام فإن الصراع الأخير في لبنان يثير التساؤل المتجدد حول أين ينبغي أن تقع الحدود الشمالية لأرض إسرائيل دينيًّا، وهل إسرائيل ملزمة بغزو المناطق التي يتضمنها الوعد الإلهي لإسرائيل أم أن تلك المناطق تعد خارج حدود إسرائيل؟
وفي المقال، يستشهد الحاخام بآيات التوراة وبآراء رجال الدين التي تؤكد أن لبنان يقع ضمن حدود إسرائيل وأن الإسرائيليين ملزمون دينيًّا بغزو لبنان.
كاتب المقال، مارك فيش، يتبع حركة دينية اجتماعية إسرائيلية تُدعى “شوفا إسرائيل”، ويضيف في نهاية كل مقالاته سطرًا يشير إلى أنها تُكتب بالتعاون مع حركة شوفا إسرائيل.
تأسست الحركة عام 1997، على يد حاخام يُدعى يوشياو يوسف بينتو، وهو حفيد يعقوب أبو حصيرة، الحاخام اليهودي المغربي الذي هاجر من المغرب وقضى ودُفن بالقرب من مدينة دمنهور المصرية في ثمانينيات القرن التاسع عشر، ولا يزال يُقام له “مولد سنوي” للاحتفال به.
ويُعد بينتو هذا من أكثر الحاخامات غموضًا، وثراء، وإثارة للجدل في إسرائيل. ورغم القضية التي أدت به إلى السجن عامًا في إسرائيل بتهمة رشوة ضابط، يتّبِع بينتو مجموعة كبيرة من رجال الأعمال وكبار مطوري العقارات والساسة في إسرائيل والولايات المتحدة ويحمل شعبية واسعة بينهم.
يؤكد المقال المحذوف أن فكرة إسرائيل الكبرى أصبحت أكثر حضورًا خلال السنوات الأخيرة، وأنها كثيرًا ما تُناقش على المستوى السياسي والديني. وتتلخص هذه الفكرة في أن أرض إسرائيل الموعودة تمتد من نهر مصر إلى الفرات.
ولا يتوقف الحاخام عند هذا الحد فهو يناقش قضايا فقهية حول كيف سيتم التعامل مع الأراضي الزراعية في تلك الأراضي التوراتية التي منحها الرب لإسرائيل بالحق الإلهي في حال غزوها، ثم يختم مقاله بالقول: “إذا نظر المرء إلى الخريطة، فسيُدهش من مدى امتداد نهر الفرات شمالًا ومدى اتساع أرض إسرائيل الحقيقية. وعلى الرغم من أننا قد لا نستطيع استعادة كل هذه الأراضي في عصرنا الحالي، فإن الرب سيعيدها إلينا قريبًا، بلا شك”.
فما الذي ينتظره يمينيو إسرائيل عما قريب؟
المسيح كأداة حشد!
“لم يأت المسيح بعد، وأنا بصراحة لا أتوق إلى مجيئه… المسيح مطلوب حتى لا يأتي. لأن أيام المسيح أهم من المسيح، والشعب اليهودي يعيش في أيام المسيح، وينتظر أيام المسيح، ويؤمن بأيام المسيح، وهذا من الأسباب الأساسية لوجود الشعب اليهودي من الأساس”.
– ديفيد بن غوريون في لقاء مع مثقفي دولة الاحتلال في أكتوبر/تشرين الثاني 1949.
بحسب الصحيفة الإسرائيلية هآرتس، فقد صرح مؤخرًا ينون ماجال، الصحافي الإسرائيلي وعضو الكنيست الإسرائيلي السابق الذي وُجِّهت إليه في الماضي القريب اتهامات بالتحرش الجنسي، في برنامجه الإذاعي اليومي على محطة 103 إف إم؛ بـ”أن المسيح وحده هو الذي يمكن أن يحل محل نتنياهو”.
وقد أصبح هذا التصور بأن المسيح قادم قريبًا جدًّا وأن الحرب الحالية ممهدة لظهوره يكتسب شعبية كبيرة داخل دولة الاحتلال وفي الأوساط الحاكمة، ومعه بدأ ما يسمى بالوعود التوراتية يتخذ زخمًا أكبر وتأويلًا يجعل تلك الوعود مبشِّرة بالاستيلاء على أراض عربية جديدة في مقدمتها لبنان.
ربما يظن البعض أن الاحتلال الإسرائيلي يكتفي في تأويله الديني بحقه الإلهي في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية فقط، لكن الواقع أن المنطقة التي يعتقد المتطرفون أنها من حقهم تشمل أراضي عربية أخرى واسعة.
ومع تصاعد النشوة الدينية في دولة الاحتلال في الفترة الأخيرة بسيطرة أقصى اليمين المتطرف عليها، وازديادها جراء الإنجازات التكتيكية التي حققتها إسرائيل بتنفيذ تفجيرات أجهزة النداء واللاسلكي (البيجر) في لبنان، ومرورًا باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) إسماعيل هنية في طهران، وليس انتهاء باغتيال عدد من قادة المقاومة اللبنانية بمن فيهم الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.
ترافقت كل هذه الأحداث لتؤشر لدى المتطرفين في إسرائيل إلى أن دولة الاحتلال ربما تشهر ورقة الوعد التوراتي والحق الإلهي بالاستيلاء على لبنان قريبًا، في وقت لا يزال فيه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يجرّ إسرائيل إلى نشوة نهاية العالم بغض النظر عن العواقب، من أجل تحقيق نبوءات أقصى اليمين الديني والاستيلاء على جميع الأراضي التي يبشر بها اليمين ورجاله، ومن ثم يستبدل النظام الديمقراطي الإسرائيلي بمملكة بيت داود، ويبني الهيكل الثالث.
الحلم الديني الدموي يمتد إلى لبنان
في 12 يوليو/تموز من عام 2006، وبينما كانت إسرائيل تصر على إبقاء المختطفين المعتقلين اللبنانيين لديها قام “حزب الله” اللبناني بعملية مقاومة مباغتة أسر خلالها جنديين من جيش الاحتلال وعاد بهما إلى لبنان وأعلن أن الهدف الرئيسي من العملية هو التفاوض وتحرير الأسرى اللبنانيين عبر التبادل، لكن دولة الاحتلال الإسرائيلي بدلًا من أن تراجع تعنتها في إبقاء الأسرى اللبنانيين لديها، شنّت حربًا على لبنان قتلت فيها مئات اللبنانيين أغلبيتهم العظمى من المدنيين، وجرحت 1109 آخرين، وشردت حوالي مليون شخص، بحسب مؤسسة هيومن رايتس ووتش.
كانت أفكار الاستيلاء على لبنان واستيطانه قد ظهرت بوضوح داخل اليمين المتطرف في إسرائيل في غزو لبنان عام 1982، إذ تبنت حركة غوش إيمونيم حينها هذا الأمر وهي الحركة التي عملت بنشاط ملحوظ وتأييد واضح من السياسيين والجنرالات النافذين فيما بين عامي 1974 و1988، وقد أدّت دورًا بارزًا في التوسع الاستيطاني اليهودي في الضفة الغربية وقطاع غزة.
فقد كانت ترى ضرورة الاستيطان في كل موقع من أرض إسرائيل الموعودة حتى لا يتم الاستيلاء عليها من الغرباء (العرب)، ومن ثم كانت تلك الحركة أيضًا تدعو في ثمانينيات القرن العشرين إلى فكرة الاستيلاء على لبنان والعودة إلى وطن قبيلة أشير ثامن أبناء النبي يعقوب بحسب العقيدة اليهودية.
“درس التاريخ واضح: كل محاولة لإقامة مملكة الله على الأرض محكوم عليها بألا تشعل أولى نيرانها إلا في مسكن الإنسان”.
– أميت فارشيزكي، باحث إسرائيلي في تاريخ الثقافة بالجامعة العبرية بالقدس.
وفي مقال للبروفيسور يوؤال إليتزور في عام 2015 أي قبل الحرب الدائرة الآن بسنوات -وهو باحث ومحاضر في اللغة العبرية واللغات السامية وما يسمى “جغرافيا الكتاب المقدس” بالجامعة العبرية في القدس وهي جامعة ممولة من دولة الاحتلال- يقول الأكاديمي بوضوح إن لبنان جزء من الأرض التي وعد الله بها شعب إسرائيل، ويحكي إليتزور كيف أنه “حين كان جندي مشاة في حرب لبنان الأولى عام 1982 انبهر بالمناظر الطبيعية الخلابة في لبنان، وتذكر شوق موسى في العهد القديم لرؤية لبنان”، وينتقد البروفيسور بشدة اليمين الإسرائيلي الذي لم يفكر بعد بجدية في الارتباط اليهودي بلبنان وأن هذه الأرض هي أرض لشعب إسرائيل.
لكن هذا ليس في إسرائيل فحسب. فأثناء حرب لبنان الثانية التي تُعرف باسم حرب تموز، وعلى الجانب الآخر من العالم، وتحديدًا في الولايات المتحدة الأميركية، كان جون هاغي، القس البروتستانتي الإنجيلي يخبر الملايين من أتباعه أن قصف إسرائيل الدموي للبنان هو “معجزة من الله”.
مؤيدو النبوءة على الجانب الآخر من العالم
جون هاغي الذي يرأس منظمة “مسيحيون متحدون من أجل إسرائيل” التي يبلغ عدد أعضائها 10 ملايين عضو بحسب تقديرات عام 2022، والتي تعد من أكثر المؤسسات تأثيرًا في السياسة الأميركية، ومن أهم حلفاء دولة الاحتلال في الولايات المتحدة، قد صرح مؤخرًا عام 2024 بأن الدولة الموعودة لإسرائيل في العهد القديم لا تشمل فقط فلسطين وإنما تمتد أيضًا لتغطي كل لبنان وكل سوريا وكل الكويت وكل الأردن وخمس مساحة مصر وثلاثة أرباع مساحة المملكة العربية السعودية.
لا يمكن النظر إلى تفسيرات النافذين من جماعات الضغط البروتستانتية الغربية لما يسمى بوعود العهد القديم، ببساطة. فهذه التفسيرات الدينية قد أدّت دورًا كبيرًا في تشكيل دولة الاحتلال منذ البداية، وبحسب الكثير من المؤرخين ومنهم المفكر الإسرائيلي الشهير، الأستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة إيلان بابيه، ففكرة إقامة دولة الاحتلال على أنقاض الأراضي الفلسطينية قد خرجت منذ البداية كحلم مسيحي إنجيلي قبل أن تتحول إلى حلم يهودي تلقفته بعض النخب اليهودية التي نظّرت لتأسيس دولة الاحتلال تأثرًا بالأساس بالتنظير المسيحي الإنجيلي.
يوضح الفيلسوف الأمريكي الذائع الصيت نعوم تشومسكي الأمر أكثر إذ يقول إن المسيحية الصهيونية لطالما تمتعت بنفوذ سياسي كبير داخل أوروبا والولايات المتحدة الأميركية بعد ذلك، فتلك النخب هي التي ضغطت في بريطانيا من أجل استصدار وعد بلفور، وهي التي أدّت الدور الأكبر دائمًا في دفع الولايات المتحدة باتجاه الدعم الكامل لدولة الاحتلال.
بالنسبة للمسيحية الصهيونية فإن استيلاء إسرائيل على عدة أراض عربية هو تحقيق لوعد العهد القديم، والمفارقة أن دافعهم لتمكين إسرائيل من الأراضي المحتلة وتوسعها، هو اعتقادهم الديني بأن هذا التوسع سيعقبه مجيء المسيح ومن ثم سيتحول اليهود إلى المسيحية حينها.
في حين أن دولة الاحتلال -التي تعتقد أن توسعها سيعقبه ظهور المسيح الحقيقي وليس المسيح الذي يؤمن به المسيحيون من وجهة نظرهم- تجد في هؤلاء المسيحيين الإنجيليين أفضل داعم سياسي لها على الرغم من التناقض التام في المآل الذي ينتهي إليه اعتقاد كل طرف منهما.
وبحسب السفير السابق لإسرائيل في واشنطن رون ديرمر فإن المسيحيين الإنجيليين هم أهم داعمي إسرائيل في الولايات المتحدة وليس اليهود لأن بعض اليهود يتخذون خطًّا منتقدًا للغاية لدولة الاحتلال، وقد صرح نتنياهو في عام 2017 بأن مؤسسة القس جون هاغي هي أقرب حليف لدولة الاحتلال داخل الولايات المتحدة الأميركية.
تختلف التصورات عن نهاية التاريخ بين الطرفين، لكنها تتلاقي في الرغبة العارمة في الاستيلاء على الأراضي العربية للتمهيد لظهور المسيح، ويبقى العهد القديم جاهزًا بالنسبة للدعاة الدينيين سواء الصهاينة أو المسيحيين الإنجيليين لكي يعيدوا تأويله بشكل يتناسب مع توسع دولة الاحتلال في مساحة جديدة.
فكما أعادوا تفسير آية في سفر التكوين في العهد القديم موجهة إلى النبي إبراهيم تقول “سأبارك أولئك الذين يباركونك، ومن يلعنك سألعنه”، ليجعلوها وفق تفسيرهم وعيدًا من الرب لأي شخص يجرؤ على انتقاد دولة إسرائيل (باعتبار أن إسرائيل من وجهة نظرهم قد حلت محل إبراهيم)، فهم أيضًا جاهزون لتأويل المزيد من الآيات على نحو يجعل استيلاء دولة الاحتلال على بقاع عربية جديدة وفي مقدمتها أرض لبنان، وعدًا دينيًّا حان الوقت لحصاده.
لبنان هدف منذ البداية
منذ منتصف الخمسينيات كانت دولة الاحتلال تطمح بشدة من ناحية سياسية واقعية بحتة إلى تقسيم لبنان وإيجاد دولة مسيحية داخله تدين بالولاء لإسرائيل، بحيث تكون مشابهة لظروف دولة الاحتلال ومن ثم يحدث التعاون.
وقد أرسل ديفيد بن غوريون وهو أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال في فبراير/شباط من عام 1954 إلى وزير الخارجية الإسرائيلي موشيه شاريت يوجهه ناحية محاولة إنشاء جيب مسيحي متمرد داخل لبنان، إذ كانت الفكرة هي إيجاد جيوب من الأقليات الدينية داخل العالم العربي تكون حالتها مشابهة لحالة دولة الاحتلال، لكن خطة بن غوريون لم تنجح بل تحول لبنان بعد ذلك إلى معقل شديد الأهمية للمقاومة الفلسطينية ومن بعدها المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
وفي نفس الوقت ظلت قدرة اليمين الديني المتطرف في دولة الاحتلال حاضرة ومتنامية وقادرة على إعادة تفسير آيات العهد القديم بشكل يجعلها وكأنها تحث دولة الاحتلال على الاستيلاء على لبنان، ومن ضمنها آية سفر التثنية: “تَحَوَّلُوا وَارْتَحِلُوا وَادْخُلُوا جَبَلَ الأَمُورِيِّينَ وَكُلَّ مَا يَلِيهِ مِنَ الْعَرَبَةِ وَالْجَبَلِ وَالسَّهْلِ وَالْجَنُوبِ وَسَاحِلِ الْبَحْرِ، أَرْضَ الْكَنْعَانِيِّ وَلُبْنَانَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَات”. تث 1: 7، وكذلك ما في سفر يوشع: “مُوسَى عَبْدِي قَدْ مَاتَ. فَالآنَ قُمِ اعْبُرْ هذَا الأُرْدُنَّ أَنْتَ وَكُلُّ هذَا الشَّعْبِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَنَا مُعْطِيهَا لَهُمْ أَيْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ”. (يش 1: 2)، “كُلَّ مَوْضِعٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ لَكُمْ أَعْطَيْتُهُ، كَمَا كَلَّمْتُ مُوسَى”. (يش 1: 3).
“مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ هذَا إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ نَهْرِ الْفُرَاتِ، جَمِيعِ أَرْضِ الْحِثِّيِّينَ، وَإِلَى الْبَحْرِ الْكَبِيرِ نَحْوَ مَغْرِبِ الشَّمْسِ يَكُونُ تُخْمُكُمْ”. (يش 1: 4)، وأيضًا في سفر التثنية: “يَطْرُدُ الرَّبُّ جَمِيعَ هؤُلاَءِ الشُّعُوبِ مِنْ أَمَامِكُمْ، فَتَرِثُونَ شُعُوبًا أَكْبَرَ وَأَعْظَمَ مِنْكُمْ” (تث 11: 23). “كُلُّ مَكَانٍ تَدُوسُهُ بُطُونُ أَقْدَامِكُمْ يَكُونُ لَكُمْ. مِنَ الْبَرِّيَّةِ وَلُبْنَانَ. مِنَ النَّهْرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ، إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ يَكُونُ تُخْمُكُمْ”. (تث 11: 24).
وبحسب المحاضر والأكاديمي في “جغرافية الأراضي المقدسة”، فإن هناك نوعين من الحدود لأرض إسرائيل الموعودة، فهناك الحدود الأولية التي تمثل نواة لأرض إسرائيل، وهذه الحدود مخصصة للمراحل الأولى من الغزو الصهيوني، وهناك حدود أخرى شاسعة تمتد حتى الفرات وهي الحدود التي ينبغي على الأجيال الجديدة من الإسرائيليين أن تستولي عليها حين يزداد عدد السكان.
لكن المدهش أن إليتزور يقول إن لبنان يعتبر جزءًا من الأراضي التي ينبغي أن تشكل حدود النواة الأساسية لدولة إسرائيل بحسب الوعد التوراتي.
من هذا المنطلق يذهب الرجل إلى القول بأن فشل إسرائيل السابق في حروبها على لبنان كان نابعًا من أن الحكومة لا تفهم حقيقة أن لبنان جزء من إسرائيل ومن الأراضي اليهودية؛ ولذلك فهي تنظر إليها باعتبارها أرضًا غريبة، ويحكي أنه حين كان جنديًّا من جنود المشاة الذين تقدموا على طول وادي البقاع استولى هو وزملاؤه على حبات تين لذيذة من الأرض، ولكنه قرر أن يقرأ على التِّين الدعاء الذي يُقرأ على الأطعمة المنتمية لأرض إسرائيل وليس الدعاء الذي يقرأ عند الإمساك بالأطعمة الأجنبية، فتين لبنان بالنسبة له فاكهته المستحقة.
حتى عام 2024 ظل الحلم التوراتي الذي يحمله بعض المنتمين لأقصى اليمين الديني المتطرف بالسيطرة على لبنان مسألة لا تناقش إلا نادرًا على السطح الصهيوني، ولا يعتنقها الكثيرون حتى الآن، ولكن كما ينبه الصحافي الإسرائيلي أنشيل فايفر في مقاله بهآرتس في يونيو/حزيران الماضي فإن المؤمنين قبل خمسين عامًا بالاستيطان في الضفة الغربية كانوا أيضًا قلة قليلة في البداية لكنهم بحكم نفوذهم قد حولوا أحلامهم إلى واقع اجتماعي سياسي ديني ضخم، إذ أثبتت الأيام أن طموحات المتطرفين الدينيين في دولة الاحتلال سرعان ما تتحول إلى واقع حتى لو لم يؤمن بها في البداية إلا قلة.
وبعيدًا عما يقوله فايفر، ففي الأيام الأخيرة ترافقت مؤشرات عدة تنذر بالخطر بأن الوعد التوراتي بالاستيلاء على لبنان واستيطانها قد يتم ترويجه وتفعيله.
“المسيح قادم.. سائرًا على الجثث”
“ستفرح البرية والبادية، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس ويبتهج ويرنم طربًا. مجد لبنان أُعطي له… شدوا الأيدي المسترخية وثبتوا الركب المرتجفة. قولوا لخائفي القلوب: تشددوا لا تخافوا. هوذا إلهكم. الانتقام قادم”. *سفر إشعيا، الفصل الخامس والثلاثون.
وعودة إلى المقال الذي نشرته ثم حذفته صحيفة جيروزالم بوست، إذ لم تكن تلك حادثة استثنائية. نشرت بعدها مباشرًة وسائل الإعلام الإسرائيلية ومن بينها جيروزاليم بوست خطاب الحاخام إسحاق جينسبيرج الذي يدعو إلى غزو لبنان والاستيطان في جنوبها.
أكد الحاخام -وهو رئيس مدرسة يشيفا أود يوسف حاي المتطرفة في مستوطنة يتسهار بالضفة الغربية، وأحد حاخامات الكابالا المرموقين- أن لبنان جزء من الأرض التي أعطاها الله للشعب اليهودي والتي تمتد حتى نهر الفرات، والآن “قد منح الله الجيل الإسرائيلي الحالي القدرة على أن يتلقى الهدية مرة أخرى ويغزو الأرض ويستوطنها”، وفق تعبيره.
وبحسب جيروزاليم بوست فإن حاخامات آخرين صاروا يرددون نفس النغمة ويقولون إن الانتصار على لبنان سيرسم طريقًا جديدًا لقدوم المسيح.
على جانب آخر كان البروفيسور عاموس عزرايا وبعض رجال الدين والحاخامات ينظمون مؤتمرًا لحركتهم التي تنتمي لتيار أقصى اليمين المسماة “أوري تسافون” يناقشون فيه سبل الاستيطان الناجحة في لبنان، ورمز تلك الحركة هو إسرائيل سوكول، جندي جيش الاحتلال الذي قتل أثناء تأدية مهامه في حرب الإبادة في قطاع غزة بداية عام 2024، وهو الشاب الذي كان يحلم بأن يستوطن لبنان وأن يعيش في ذلك البلد الأخضر في الصيف والأبيض في الشتاء، ومهمة الحركة هي إحياء حلم القتيل الراحل.
وبالطبع تحدثت الحركة في مؤتمرها الذي لم يستمع إليه الكثيرون عن “الوعد الإلهي التوراتي بالسيطرة على لبنان”، وعن أن “لبنان دولة فاشلة منذ ولادتها، ولا بد لإسرائيل أن تأمل حدودًا أخرى متسعة لها على أنقاض تلك الدولة الفاشلة”.
وقد حضر هذا المؤتمر هاغي بن أرتزي، المعروف بـ”الأخ الأكبر لسارة نتنياهو” بحسب صحيفة هآرتس الإسرائيلية، وقد قال “نحن لسنا متطرفين ولن نطالب بمتر واحد بعد الفرات”، بينما انتقد الرئيس التنفيذي لصندوق تيكفاه المتطرف عمياد كوهين، وهو منظمة غير ربحية في مدينة نيويورك تصف نفسها على موقعها في الإنترنت بأنها صهيونيةٌ سياسيًّا، وموجّهة نحو السوق الحرة اقتصاديًّا، وتقليدية ثقافيًّا، ومنفتحة لاهوتيًّا، وكوهين هو ضابط في قوات جيش الاحتلال أيضًا، انتقد جنرالات جيش الاحتلال لأنهم بحسبه لا يتحدثون عن الاستيلاء على الأراضي كهدف رئيسي للحرب.
وفي بداية هذا الصيف كان وزير مالية دولة الاحتلال بتسلئيل سموتريتش، قد دعا صراحةً إلى احتلال جنوب لبنان إذا استمر حزب الله في مساندة المقاومة في قطاع غزة، ويشير تقرير لهآرتس في هذا الصدد إلى أنه “ينبغي الانتباه لأن الأوهام الدينية في إسرائيل عادة ما تتحول سريعًا إلى سياسة الدولة”، وقد لوحظ مؤخرًا بحسب الصحيفة الإسرائيلية عقد استطلاعات للرأي تدفع شعب دولة الاحتلال إلى التفكير في احتلال لبنان، إذ شملت تلك الاستطلاعات السؤال عن مدى تأييد فكرة إنشاء مستوطنات في لبنان.
لا يمكن أن نقرأ كل تلك المشاهد بمعزل عن حقيقة النشوة الدينية والتفكير الرؤيوي التي تعيشها إسرائيل في الفترة الأخيرة، والاعتقاد السائد بين رجال الدين والنخب السياسية اليمينية بأنهم يعيشون في زمن المعجزات وأن المسيح ينتظر على الأبواب وأن الحرب ضد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) هي حرب يأجوج ومأجوج التي حدثتهم عنها الموروثات الدينية.
فمشاهير الحاخامات على يوتيوب يقنعون جماهيرهم العريضة بأن الحرب الحالية هي آخر حرب قبل مجيء المسيح، بل إن هذا الخطاب وتلك الروح قد انتقلا إلى القنوات التلفزيونية الإسرائيلية ومقدمي البرامج فيها مثل دانا فارون المذيعة بالقناة 14 التي قالت بحسب هآرتس “مكتوب في المشناه أنه سيتم تدمير الجليل وإخلاء الجولان، وسيتجول سكان الحدود من مدينة إلى أخرى، إن هذه هي المشناه تتحقق بنا حرفيًّا، أنا سعيدة بهذا”.
بينما يقول الإعلامي اليميني يانون ماجال بحسب هآرتس “إننا مقبلون على أيام عظيمة حقًّا، ووحده المسيح هو من يمكن أن يحل محل نتنياهو”.
بحسب صحيفة هآرتس فإن تلك النشوة الدينية التي تعيشها إسرائيل ليست جديدة، إذ كانت دائمًا تمثل بحسبها القوة الدافعة لمشروع الاستيطان ورؤية إسرائيل الكبرى، لكن الجديد هو حجم الشعبية التي تتمتع بها أفكار التوسع وتعجيل نهاية التاريخ وقدوم المسيح في الخطاب السياسي وفي الشارع في الوقت الحاضر، إذ انتقل مثل هذا النوع من التفكير من هوامش السياسة اليمينية إلى مركز الحكم في حزب الليكود.
ينخدع الكثيرون في العالم بالمظاهر العلمانية لدولة الاحتلال، ويتناسون أنها دولة نشأت بقوة دفع النبوءات الدينية التي آمن بها بالأساس المسيحيون الإنجيليون في الغرب، والشواهد متعددة على أن لبنان ربما سيصبح الضحية الجديدة لأقصى اليمين الإسرائيلي، إذ يبدو أن النخب الحاكمة في دولة الاحتلال وجماعات الضغط البروتستانتية الغربية قادرة دائمًا على استخدام نصوص العهد القديم لتمكين إسرائيل من التهام أراض عربية جديدة.