قديمًا قال رئيس سلطة الاحتلال المؤقتة في العراق بول بريمر: “إن الإستراتيجية العسكرية الأميركية في العراق، تؤكد تسريع تجنيد القوات الأمنية العراقية…” السؤال ما هي هذه الإستراتيجية؟ ولماذا؟ والأهم ما المستقبل الذي ينتظر الواقع الأمني في العراق؟
السجال على الوجود
مثّل الوجود العسكري الأميركي في العراق، أحد أبرز السجالات العراقية الأميركية منذ عام 2003 وحتى الوقت الراهن؛ وذلك بسبب طبيعة التعقيد الأمني الذي أنتجه واقع الاحتلال الأميركي، من ظهور “التنظيمات المسلحة المتطرفة”، وفصائل مسلحة موالية لإيران، والأهم الدور الإيراني في العراق، لتشكل هذه التحولات الأمنية متغيرًا مهمًّا في حالة عدم الاستقرار السياسي في البلاد.
مما لا شك فيه أن الولايات المتحدة تنظر إلى وجودها العسكري في العراق على أنه مصلحة قومية، نظرًا إلى ارتباط هذا الوجود بمعادلات القوة المصلحية في منطقة الشرق الأوسط، ونظرًا إلى أن إيران وحلفاءها هم الذين يسيطرون على المشهد السياسي في البلاد. لذا، فمن المفهوم أن تشهد البلاد تصعيدًا أمنيًّا، يأتي نتيجة رغبتين: رغبة إيران وحلفائها في إنهاء الوجود الأميركي، ورغبة أميركا في تأمين وجودها باتفاقيات عسكرية وترتيبات أمنية.
وعلى الرغم من أن أميركا نجحت في تحقيق طموحها هذا، عبر توقيع اتفاقية أمنية مع العراق عام 2008، فإنها تبحث في الوقت الحاضر عن شراكة إستراتيجية شاملة مع العراق، تنهي من خلالها المطالبات المستمرة من حلفاء إيران، وتحديدًا الفصائل المسلحة، بإنهاء كل أشكال الوجود الأميركي في العراق.
وبنظرة بسيطة إلى طبيعة الواقع الأمني في العراق اليوم، نعرف بما لا يقبل الشك، أن الخلاف حول الوجود العسكري الأميركي في العراق، والملفات والتحديات المرتبطة به، سيكون محور اهتمام الإدارة الأميركية والحكومة العراقية في المرحلة المقبلة، خصوصًا في ظل التحديات الأمنية التي بدأت تفرضها الحرب الحالية على قطاع غزة، ومحاولة الدول الفاعلة في المنطقة إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية وفق المعادلات التي ستفرزها هذه الحرب.
وبما أن العراق تأثر بسياقات هذه الحرب بشكل أو بآخر، فمن المنطقي أن تضغط إيران وحلفاؤها لإعادة تشكيل وضع القوات الأميركية في العراق، بالإطار الذي ينهي أي تهديد تواجهه إيران وحلفاؤها في سياق معادلة النفوذ في الشرق الأوسط.
إن نقاش الواقع الأمني في العراق، مرتبط بشكل وثيق بوضع القوات الأميركية في البلاد. ولعل الحوارات الحالية بين حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، توضح اهتمام الطرفين بوضع نهايات حقيقية للتعقيد الأمني الحاصل في العراق.
البيئة الأمنية الجديدة في العراق
ضِمن رغبتها في إعادة تشكيل الواقع الأمني في العراق بعد عام 2003، عملت الإدارة الأميركية على إعادة بناء وتشكيل الجيش العراقي وفق الرؤية الأميركية، فضلًا عن سعيها لإعادة بناء جهاز الاستخبارات العراقي، ضمن هيئة عليا سُمِّيت “دائرة جمع المعلومات وتحليلها”. وجرى في وقت لاحق، تقسيم هذه الدائرة إلى شعبتين توزعتا على وزارتي الداخلية والدفاع، ومن خلال هاتين الدائرتين انبثقت “دائرة المخابرات الوطنية“، وكذلك إنشاء وحدة موازية لها هي “الهيئة الوطنية لتنسيق المخابرات“.
فيما يخص الجيش العراقي الجديد، فقد تركز دوره على الاهتمام باستقرار البلاد وحماية الحكومة المدنية والدستور. لذا، فسيكون من الضروري معالجة الكثير من القضايا المتعلقة بالجيش الجديد، ومنها مهمة العسكريين في العراق بعد الاحتلال، وهيكلة القوات والعلاقة بين المؤسستين المدنية والعسكرية، والعقيدة العسكرية، والتجنيد الإجباري والتطوع، والقيادة العسكرية والمدنية، والسياسة الدفاعية الإقليمية للبلاد.
وقد نوقشت هذه الأمور في إطار “مشروع مستقبل العراق”، وإمكانية أن يؤدي العسكريون بعد تدريبهم دورًا كبيرًا في عمليات حفظ السلام، ومحاربة الإرهاب وتهريب المخدرات.
لاحقًا، وفي عام 2015، تأسست قوات الحرس الوطني العراقي، بهدف حماية القوات الأميركية من عمليات المقاومة المسلحة التي انطلقت بعد احتلال العراق. ولأجل بناء جيش بمعايير أميركية، وضعت سلطة الاحتلال خصائص محدّدة لمن سيتعاون معها في تشكيل القوات المسلحة العراقية الجديدة. ومع ذلك، فلم تأت الرغبة الأميركية في إشراك عناصر عراقية ذات مواصفات خاصة في عملية إعادة بناء الجيش العراقي، حاجةً آنية فرضها الواقع العراقي، بل كانت ضمن توجه ثابت لها.
واستمرارًا لذلك، نشأت ظواهر أخرى تميّزت بها الإستراتيجية الأمنية الأميركية، وهي بروز عناصر شركات الأمن والحماية، أو من يطلق عليهم “المرتزقة الجدد”. إذ جرى تحويل العراق إلى ساحة عمل لآلاف العناصر الأجنبية العاطلة عن العمل، والباحثة عن الكسب الحرام، وهذا ما أكده صاحب كتاب “مقاتلو الشركات: ظهور الجيوش الخاصة”، الباحث في معهد بروكينغز والخبير بشؤون المرتزقة بيتر سنجر بقوله: “في العراق اليوم أكبر جيش مرتزقة في التاريخ”، يصل إلى نحو 20 ألف مرتزق، يتبعون لـ25 شركة أجنبية.
هدفت هذه الإستراتيجية الأميركية على الصعيد الأمني، إلى تعزيز وإقامة وجود عسكري دائم في العراق، وتشكيل أجهزة أمنية عراقية داعمة لأجنداتها، فضلًا عن الاعتماد بشكل رئيس على المرتزقة لتنفيذ مخططاتها، وصولًا إلى الهدف الأكبر، وهو جعل منظومة الأمن الوطني العراقي مرتبطة بتفاعلات الإستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط.
جاءت الاتفاقية الأمنية التي عقدت بين العراق والولايات المتحدة عام 2008، لتضفي بعدًا جديدًا على الوجود العسكري الأميركي في العراق، وذلك بالتحول من الاحتلال غير المشروع إلى قوات دولية فاعلة على الأرض العراقية. وقد أسست هذه الاتفاقية لاتفاقية الإطار الإستراتيجي، التي شملت مختلف جوانب العلاقة الإستراتيجية بين البلدين، وهيّأت الأرضية المناسبة لسحب القوات الأميركية من العراق عام 2011، وهو توجه عملت على تحقيقه الإدارة الأميركية بقيادة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما.
وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها الإدارة الأميركية في إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية العراقية وفق صيغ أمنية جديدة، فإن الانسحاب الأميركي ترك الباب مفتوحًا لإيران، التي استغلت الفراغ الأمني الناتج عن الانسحاب. وأدى ذلك إلى إعادة أدلجة المؤسسة الأمنية العراقية بالشكل الذي يخدم الإستراتيجية الإيرانية في العراق؛ مما أدخل البلاد في مزيد من الفوضى.
أنتجت هذه الفوضى الأمنية على مستوى هيكلية المؤسسة العسكرية العراقية، الكثير من التخبط في عمليات تزويد القوات المسلحة العراقية بالأسلحة والمعدات المتطورة، وذلك نتيجة حالة الفساد التي شابت عقود التسليح، فضلًا عن ظاهرة “الجنود الفضائيون”، التي أصبحت آفة ضربت عمق المؤسسة العسكرية.
هذا إلى جانب ظاهرة “الضباط الدمج”، وهي سياسة اعتمدتها الأطراف السياسية المقربة من إيران، من خلال الدفع بالعديد من الأشخاص إلى داخل هيكل وزارتي الداخلية والدفاع، لإيجاد حالة توازن داخل المؤسسات الأمنية، وهو ما جعل الولايات المتحدة تفقد الكثير من عناصر القوى داخل هذه الأجهزة.
انعكست هذه الممارسات الأمنية، سواء الأميركية أو الإيرانية، بصورة سلبية على الأمن الوطني العراقي. وكانت أبرز هذه السلبيات، بروز “تنظيم الدولة الإسلامية”، الذي كشف بعد سيطرته على مساحات شاسعة من العراق؛ الكثير من العيوب في القوات الأمنية العراقية.
ورغم عودة الولايات المتحدة إلى العراق مرة أخرى عام 2016، عبر بوابة “التحالف الدولي” ضد تنظيم الدولة الإسلامية، من خلال تبنيها إستراتيجية إعادة تأهيل المؤسسة العسكرية العراقية على مستوى القيادة والسيطرة، والدعم الاستخباري واللوجستي، والاستشارة والتدريب، فإن جهودها ظلت محدودة، في ظل كيان موازٍ بدأ يفرض نفسه بقوة في معادلة الأمن الوطني العراقي، ألا وهو “الحشد الشعبي”.
بعد انتهاء الحرب على تنظيم الدولة، أصبح الحشد الشعبي يمتلك العديد من القدرات الأمنية والعسكرية، بينها ترسانة عسكرية كبيرة، وجهاز أمن استخباري، ومنطقة عمليات، ومنظومات قيادة وسيطرة، وفي الوقت نفسه صادر الكثير من الأدوار الأمنية من المؤسسة الرسمية العراقية.
وعلى الرغم من التماهي الكبير داخل مؤسسة الحشد الشعبي، بين جناحين؛ أحدهما إيراني والآخر عراقي، فإن التيار المقرب من إيران، وهو “فصائل المقاومة الإسلامية” أو “فصائل محور المقاومة” أو “الفصائل الولائية”، بدأ يفرض سطوته الأمنية على هيكل الحشد الشعبي، وهو ما جعل منظومة الأمن الوطني العراقي تعاني من تعقيدات فنية عديدة، أهمها عقود السلاح والتجهيز وغيرها. وقد ارتبط ذلك بخشية أميركية من وقوع الأسلحة التي تتعاقد عليها وزارة الدفاع العراقية، في أيدي الفصائل المتنفذة داخل الحشد الشعبي.
كذلك، فإن الدعم الأميركي لجهاز مكافحة الإرهاب، وهو من أكثر الأجهزة الأمنية العراقية المدعومة أميركيًّا، لم يعن عدم معاناته من دوامة الصراع الأميركي الإيراني. فقد ساهمت ظروف الحرب على تنظيم الدولة، في استنزاف هذا الجهاز وقدراته العسكرية، كما شهدت فترة ما بعد الحرب على التنظيم، إبعاد العديد من القادة العسكريين في هذا الجهاز إلى وزارة الدفاع العراقية، وقد تبين فيما بعد أن جهودًا إيرانية كبيرة بُذلت في هذا المجال.
في المحصّلة، فإن الواقع المعقد الذي يعيشه الأمن الوطني العراقي اليوم، يجعله أمام تحديات أمنية كبيرة؛ تحدّي عودة الهجمات المسلحة لتنظيم الدولة على أطراف المدن، وتحدي دور الفصائل الولائية التي أصبحت قوة كبيرة داخل العراق، وتحدي الصراع الأميركي الإيراني الذي انعكس بصورة مباشرة على الأمن العراقي.
أميركا وقضاياها الأمنية
أنتجت الإستراتيجية الأمنية الأميركية في العراق بعد عام 2003، حالة من التشابك الإستراتيجي بين الأمنين العراقي والأميركي. لكن هذا لم يمنع من أن تكون هناك خلافات جوهرية حول بعض القضايا الإستراتيجية، وأهمها تلك التي برزت بعد الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011. وبصورة عامة، تتمحور الإستراتيجية الأميركية في العراق، حول التعاطي مع العديد من القضايا الأمنية، المرتبطة بصورة مباشرة بمنظومة الأمن الوطني العراقي.
تبرز أولى هذه القضايا الأمنية في التعاطي الإستراتيجي الأميركي مع متغير التنظيمات السنية المسلحة، التي قاومت القوات الأميركية، وصولًا إلى بروز تنظيم الدولة. وعلى الرغم من تحجيم هذا التنظيم عسكريًّا، واستعادة السيطرة على أغلب المناطق التي كان يسيطر عليها في شمال وغرب العراق، الذي أدت فيه الولايات المتحدة دورًا فاعلًا عبر التحالف الدولي، وبالتنسيق مع القوات الأمنية العراقية، فإن الهجمات المتكررة التي يقوم بها التنظيم في الوقت الحالي، تشي بأن هناك المزيد مما ستفعله الولايات المتحدة في العراق.
وتتمثل القضية الثانية بالفاعل الإيراني، وهو متغير وجدت الولايات المتحدة نفسها مجبرةً على التعاطي معه في العراق. إذ أبدت إيران حرصًا في المرحلة الأولى من الاحتلال الأميركي، على عدم الخروج المباشر والواضح والحاد على الإستراتيجية والأهداف الأميركية. بيد أنها لعبت فيما بعد لعبة السيطرة، عبر الفصائل الولائية المرتبطة بها، التي كانت قد دربتها ومولتها قبل احتلال العراق بزمن طويل، واستفادت من أعمال الفوضى التي صنعها الاحتلال الأميركي.
وبمراجعة طبيعة العلاقات بين الطرفين، نجد أنهما تمكنا خلال المنعطفات الحادة منذ بداية الاحتلال وحتى وقت قريب، من الوصول دومًا إلى تفاهمات، سواء عبر وكلائهما في العملية السياسية أو عبر التواصل المباشر وتقاطعات المصالح. وهذا التوافق الأيديولوجي والإستراتيجي، ساهم في استمرار تلك اللعبة، وصناعة نفوذ مزدوج داخل العراق.
لقد أصبح العراق محورًا رئيسًا في المنافسة الإستراتيجية بين الولايات المتحدة وإيران، وهي منافسة تشكّلت خلال الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، وحرب الخليج الثانية (1991)، والغزو الأميركي للعراق (2003). ومنذ عام 2003، تنافست الولايات المتحدة وإيران على تشكيل هيكلية العراق لمرحلة “ما بعد صدام حسين” من ناحية السياسة والحكم والاقتصاد والأمن.
وبذلت الولايات المتحدة جهودًا كبيرة لمواجهة النفوذ الإيراني في العراق، بما في ذلك استخدام مكانتها بوصفها قوة محتلة ومصدرًا رئيسًا للمساعدات في العراق، وكذلك عبر العمليات المعلوماتية، إضافة إلى تسليط الضوء -من خلال التصريحات الصحفية التقليدية- على التدخل الإيراني.
مع ذلك، فإن احتواء النفوذ الإيراني على أهميته بالنسبة لأميركا، لم يكن الهدف الرئيس لها في العراق، وإنما كان إيجاد حكومة مستقرة، والدفاع عن نفسها ضد التهديدات الخارجية، وإبراز الصداقة القوية المستقرة للولايات المتحدة وحلفائها في الخليج.
وتتمثل التأثيرات الإيرانية الأخرى في الإستراتيجية الأميركية في العراق، عبر نجاحها في تمرير الكثير من القرارات أو المشاريع عن طريق حلفائها هناك، إذ إنها ضغطت على حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي (2006-2014)، لإفراغ الاتفاقية الأمنية التي عقدت مع الولايات المتحدة، من أي مادة تتيح استخدام القوات الأميركية الموجودة في العراق ضد أهداف أو مصالح إيرانية.
كما أنها ضغطت على حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي (2014-2018)، للموافقة على إدخال عشرات المستشارين والجنود الإيرانيين إلى العراق، خلال الحرب على تنظيم الدولة. وأخيرًا ضغطت على حكومة رئيس الوزراء الأسبق عادل عبد المهدي (2019-2020)، لتوقيع اتفاقية مع الصين، وتمرير قرار نيابي يطالب الولايات المتحدة بإخراج قواتها من العراق، عقب عملية اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني في محيط مطار بغداد الدولي مطلع عام 2020.
وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن إيران نجحت في إفشال حكومة رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي (2020-2023)، كما حققت حتى الآن، خلال حكومة السوداني، نجاحًا في الضغط لإخراج الولايات المتحدة من العراق، عبر الدور الذي يقوم به حلفاؤها في العراق.
أما القضية الثالثة، فتتضح في الصعود الكبير للحشد الشعبي منذ عام 2014. وعلى الرغم من التغييرات الهيكلية والتنظيمية التي يمر بها الحشد الشعبي اليوم، إلى درجة أنه بدأ يتميّز شيئًا فشيئًا عن إيران، خاصة الفصائل التابعة لمرجعيات دينية شيعية عراقية، فإننا نجد في المقابل أن تيارًا آخر من الحشد -وهو الفصائل الولائية- قد بدأ يرتبط تنظيميًّا وإداريًّا بفيلق القدس، وهو ما جعل من هذه الفصائل اليد الطولى لإيران، لاستنزاف الولايات المتحدة
في العراق منذ عام 2018، وبدأت تثبت وجودها الإستراتيجي والعسكري في العديد من المناطق التي توجد فيها القوات الأميركية، وتحديدًا في المدن المحررة من سيطرة تنظيم الدولة.
برزت الفصائل الولائية المنضوية ضمن هيكلية الحشد الشعبي عسكريًّا عام 2014، بعد الفتوى الشهيرة التي أصدرها المرجع الشيعي السيد علي السيستاني. فعلى إثر تلك الفتوى وجدت العديد من الفصائل التي كانت ملاحقة قانونيًّا، الفرصة المناسبة لتشريع وجودها العسكري، عبر الدخول تحت مظلة الحشد الشعبي، بدعم وتأثير من قاسم سليماني.
وفي عام 2016، نُظّم الحشد الشعبي مؤسسيًّا، عبر قانون أصدره مجلس النواب العراقي تحت عنوان “هيئة الحشد الشعبي”، وأصبحت هذه الفصائل تمتلك قوة عسكرية موازية للجيش العراقي، وتنتشر في العديد من مناطق شمال وغرب العراق.
ويبلغ عدد هذه الفصائل الولائية التي تتلقّى الدعم المالي والعسكري من إيران، 64 فصيلًا مسلحًا، أبرزها “كتائب حزب الله العراقي” و”كتائب سيد الشهداء” و”عصائب أهل الحق” و”حركة النجباء”، وهي تهاجم القوات الأميركية في العراق بصورة مستمرة، وأدت دورًا بارزًا في الهجوم على السفارة الأميركية في بغداد في ديسمبر/كانون الأول 2019، ويمتد نشاطها العسكري إلى سوريا واليمن ولبنان والبحرين، عبر إرسال المستشارين العسكريين وتقنيات تصنيع الصواريخ.
تشكل الفصائل الولائية أحد أبرز التحديات الأمنية التي تواجهها القوات الأميركية في العراق؛ ولهذا سعت الولايات المتحدة خلال الفترة الماضية إلى الضغط على حكومات العبادي وعبد المهدي والكاظمي، ومؤخرًا السوداني، لإيجاد طريقة تضبط حركة هذه الفصائل، عن طريق دمجها بالقوات الأمنية العراقية أو حلها أو تنظيم وضعها بصورة مشددة قانونيًّا، وهي ضغوط يتوقع أن تحظى بمناقشات موسعة بين بغداد وواشنطن في المستقبل القريب.
المؤسسة العسكرية العراقية
إن نهاية الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية، لم تعنِ انتهاء التهديدات التي يمكن أن يمثلها التنظيم، خصوصًا أنه أعاد تنشيط هجماته المسلحة في الآونة الأخيرة، فضلًا عن أن طول مدة الحرب على التنظيم، جعلت قدرة العراق العسكرية على التعامل مع أي عودة للتنظيمات الإرهابية أو الحرب الطائفية أو الصراع الداخلي أو التهديدات الخارجية، محدودة للغاية.
والإشكالية الأخرى التي تطرح هنا، هي أن أيّ جهود لإعادة بناء القدرات العسكرية العراقية يجب أن تتوافق مع الإشكاليات الأمنية بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان، وقبل ذلك مع الانقسامات الأيديولوجية العميقة داخل هيكلية فصائل الحشد الشعبي، فبعضها مرتبط بإيران ويعتبر نفسه جزءًا من محور المقاومة ومصدر الهجمات المتكررة على القوات الأميركية المتمركزة في العراق، والآخر مرتبط بوزارة الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة العراقية وجزء من منظومة الأمن الداخلي.
وفي ظل هذه التحديات والإشكاليات الهيكلية والجوهرية، يمكن القول بأن العراق لا يستطيع إيجاد حلول سريعة لجميع هذه المشاكل، إذ يحتاج إلى شكل من أشكال الاتفاق على خطة عمل للتعامل معها بمرور الوقت، وإستراتيجية لإنشاء قوات عسكرية كبيرة وقوية، بما يكفي لتأمين حدوده.
تعرضت الولايات المتحدة للكثير من المطبات خلال الفترة الماضية، نتيجة للهجمات المتكررة من الفصائل الولائية. ولكي تكون القوات الأمنية العراقية قادرة على القيام بمهامها الأمنية، لا بد لها من إعادة تدريب وتأهيل.
وتقول الرواية العسكرية الأميركية إنه إذا كان العراق على استعداد لتقديم التسهيلات والدعم المطلوب في هذا الإطار، وكانت الولايات المتحدة مستعدة لتقديم التزام إستراتيجي دائم للعراق، فإن هذين المدخلين من الممكن أن يساهما في تفعيل مصالح البلدين عبر الحوار الإستراتيجي في يونيو/حزيران المقبل، وهو الموعد الذي تم الاتفاق عليه على هامش زيارة السوداني الأخيرة لواشنطن.
ونظرًا إلى طبيعة التحديات التي مرت بها المؤسسة العسكرية العراقية في مرحلة ما بعد عام 2003، سواء على مستوى الهيكلية أو العمليات أو الظروف، فإنها جعلت قوات الأمن العراقية متخلفة ولا تشكل قوة فعالة لـ”ضبط الأمن أو حتى ما يشبه الردع والدفاع الفعال ضد قوى إقليمية أخرى، كإيران على سبيل المثال.
هذا إلى جانب تقادم العديد من الدروع والمدفعية وغيرها من الأسلحة البرية، التي لم تتم صيانتها بشكل كاف لقتال حربي حقيقي، وهي أنظمة عسكرية قديمة تعود إلى الحقبة السوفيتية، ويحتاج الكثير منها إلى إعادة بناء وتحديث واستبدال، وليس من الواضح ما إذا كانت هناك دولة أخرى غير روسيا، يمكنها توفير الخدمات والمعدات اللازمة لإعادة تأهيلها وتحديثها.
كما يحتاج العراق إلى المساعدة في عمليات إعادة تشغيل وصيانة العديد من القواعد العسكرية، التي يمكن أن تلبي الاحتياجات الأمنية الوطنية الكاملة.
إضافة إلى ما تقدم، فإن القوات الجوية العراقية لا يزال حجمها صغيرًا وأثرها محدودًا جدًّا. وعلى الرغم من أن لديها طائرات أميركية من نوع “إف 16” (F-16)، فإنها بدأت للتوّ في تطوير قدرات قتالية جوية حديثة.
كما لا يمتلك العراق أسلحة دفاع جوي، ولا منظومات صواريخ متطورة، ولا نظام إنذار ومراقبة جوي، ولا قدرات أرضية للدفاع الجوي، وهي قدرات عسكرية مهمة للتعامل مع تهديدات عسكرية مستقبلية مفترضة من قبل دول الجوار، مثل إيران وتركيا وسوريا.
كما تحتاج المؤسسة العسكرية العراقية إلى تحقيق المزيد من التكامل الوظيفي على مستوى العمل العسكري، فعلى الأرض هناك ثلاث قوات عسكرية رئيسة، هي: الجيش العراقي، والحشد الشعبي، والبيشمركة الكردية. وهي قوات حتى اللحظة، لم تظهر ذلك التكامل الوظيفي في العمل الأمني الرسمي، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بصراعات مسلحة في قضايا داخلية محددة، أو موقف متوتر مع دولة جارة.
وعلى الرغم من ارتباط هذه القوات نظريًّا بوزارة الدفاع العراقية والقيادة العامة للقوات المسلحة، فإنها من الناحية العملية تواجه تعقيدات كبيرة، وهو ما يمكن أن يجعلها مصدر توتر وعنف داخلي خطير قد يفضي أحيانًا إلى حرب أهلية، وطريقة تعاطي هذه الأطراف مع الأحداث التي جرت في مدينة كركوك في أكتوبر/تشرين الأول 2017، والمناطق المتنازع عليها في مراحل لاحقة، خير دليل على ذلك.
ستتعقد عملية تطوير القدرات العسكرية العراقية، إذا قررت الولايات المتحدة الانسحاب في أي وقت من الأوقات، دون أن يكون هناك التزام إستراتيجي يربط علاقاتها بالعراق. فمثلًا أدت عملية الانسحاب الأميركي من العراق عام 2011، إلى تصدعات كبيرة عانى منها الجيش العراقي في مواجهة هجمات تنظيم الدولة عام 2014، وعندما قررت الولايات المتحدة العودة إلى العراق عام 2016، ساهمت في مساعدة العراق على دحر التنظيم، وحققت إنجازات أخرى على الأرض.
وبما أن الحرب على تنظيم الدولة كانت تقنية بامتياز، فإن حاجة العراق إلى دعم قدراته العسكرية في هذا المجال، تبقى ضرورة ملحة في أية ترتيبات مقبلة مع الولايات المتحدة.
المستقبل الصعب
لا بد من القول مقدمًا، إن هناك العديد من التحديات التي تقف في وجه العلاقات الأمنية بين العراق والولايات المتحدة، بعضها نابع من البيئتين الداخليتين للدولتين، وبعضها إقليمي ودولي. لذلك، فإن أي حوار إستراتيجي قريب المدى، ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار التحديات التي يمكن أن تفرضها إيران وحلفاؤها، إلى جانب قوى دولية أخرى كروسيا والصين، إذ إن لكل من هذه القوى الإقليمية والدولية دوافع إلى عرقلة أي جهود تهدف إلى تقويض مصالحها وأهدافها، سواءً في العراق أو في دول الشرق الأوسط الأخرى، فأي اتفاق أو ترتيب أمني سيتمخض عن هذه اللجنة، لن تقتصر تداعياته على العراق فحسب، بل سيشمل أيضًا البيئتين الإقليمية والدولية.
إضافة إلى ما تقدم، ستكون الولايات المتحدة خاضعة لضغوط أخرى إضافية، على اعتبار أنها اليوم تعاني من تداعيات الحرب في أوكرانيا وغزة، إلى جانب الضغوط الأخرى الكامنة في المهددات التي بدأت تعصف بوحدة الاتحاد الأوروبي، والتفاهمات الأمنية عبر الأطلسي، وتصاعد بوادر المواجهة الساخنة مع الصين.
وإذا نجحت الحكومة العراقية في الحصول على التزامات اقتصادية وعسكرية، وحتى سياسية، من قبل الولايات المتحدة، فإن ذلك لن يشكل مخرجًا لحل الأزمة العراقية المعقدة، إذا لم تتوفر إرادة عراقية حقيقية عبر إجراءات حكومية واضحة، لمعالجة المسببات والمشاكل التي عانى منها العراق طوال الفترة الماضية.
فحتى لو تمخضت التفاهمات الأمنية مع الولايات المتحدة عن وضع يؤسس لعلاقات إستراتيجية متوازنة، فإن العراق سيظل مطالبًا بتحمل المسؤولية الأساسية عن إصلاح عمليته السياسية واقتصاده المتأزم وقواته الأمنية المحدودة.
ولا يكفي العراق الاتفاق على حكومة تحظى بإجماع غالبية الكتل السياسية، كما حصل مع حكومة السوداني عبر تحالف “إدارة الدولة”، بل يجب عليه أيضًا أن يدرك أن المساعدات الخارجية (الأميركية والدولية) ستكون محدودة في المرحلة المقبلة، على اعتبار أن أغلب دول العالم ستذهب باتجاه ترميم ما دمرته الحرب في أوكرانيا وغزة، وهو ما سيزيد من عدد كوابح النجاح التي يمكن أن تقف في وجه التفاهمات العراقية الأميركية.
لا ينفي هذا الواقع حقيقة أن الولايات المتحدة تتحمل مسؤولية إنسانية وأخلاقية حيال العراق، فهي المتسبب الرئيس في حالة الإخفاق الأمني والفشل الإداري والاقتصادي، والأزمة الصحية والمجتمعية، في العراق.
وهذا على اعتبار أن مرحلة ما بعد 2003، وإسقاط النظام السياسي في العراق، لم تسفر عن جهود أميركية حقيقية في بناء عراق مزدهر ومستقر، إذ أنتجت سياساتها المرتبكة في العراق، حالة من الانقسام الطائفي والقومي، ومنحت فرصة كبيرة لدول الجوار العراقي لأن تتنافس على الساحة العراقية. كما جعلت من البيئة العراقية حاضنة للعديد من الجماعات والفصائل المسلحة؛ مما أنتج بدوره حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني في العراق.
خلاصة إستراتيجية
إن النظرة الإستراتيجية المتعددة المسارات، توحي بأن مسارات العلاقة الأمنية بين العراق والولايات المتحدة لن تخلو من التعقيدات والموانع الإستراتيجية، فتحوُّل العراق من دولة فاعلة في التوازن الإقليمي قبل عام 2003، إلى دولة تتشكل عليها التوازنات الإقليمية والدولية بعد هذا التاريخ، جعل أيّ متغير يحدث في الساحة العراقية، يجد له تداعيات في البيئات الأخرى.
وعلى هذا الأساس، فإن مرحلة حوارات اللجنة العسكرية العليا بين العراق والولايات المتحدة، ستكون حاسمة في تقرير المستقبل الذي ينتظر العلاقات العراقية الأميركية، فالمقاربات السياسية والإستراتيجية المعقدة التي تنتظر مخرجات هذه اللجنة، ستكون واضحة في التحكم في مسارات العلاقة بين البلدين
تدرك الولايات المتحدة حجم التحديات التي تعاني منها الحكومة العراقية الجديدة، خصوصًا في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية، لذا ينبغي أن تكون لديها قدرة عالية على فهم الضرورات العراقية، خصوصًا عندما يتعلق الأمر بملفات حساسة، أهمها الدور الإيراني في العراق، والتفاهم على صيغة معينة للوجود الأميركي في العراق، وتأثر العراق بتداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة. ومن ثَمّ فلا بد أن تكون هناك تفاهمات تستند بالأساس إلى القدرة والإمكانية العراقية في الوفاء بها، فضلًا عن ضرورة أن تكون هناك رؤية واضحة لطبيعة المشاكل والحلول.