يحتل المدربون الخاصون موقعا مركزيا في مخطط التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا، وتهدف منه تل أبيب إلى تحقيق مكاسب دبلوماسية لدى السلطات وفي دوائر الحكم دون ضجة، وهو ما يعطي وجودها مغزاه الحقيقي.
ولعل من أكثر النماذج وضوحا في هذا الصدد وجود مؤسستي “مجموعة مير” و” بلاك كيوب” الإسرائيليتين، اللتين ترتبطان بعلاقات في الأوساط السياسية في أفريقيا على عكس الشركات الأمنية الأخرى على غرار مجموعة فاغنر الروسية مثلا.
بعد استقلال دول أفريقيا من الاستعمار الأوروبي، اندلعت مئات الصراعات في هذه البلدان وبدأت الأطراف المختلفة توظيف الخبراء الغربيين والمدربين الخاصين، لتدريب الجنود المحليين، وأحيانا حتى المشاركة في المعارك إلى جانب متدربيهم.
وبعد هجوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، الذي تبعه انخراط الولايات المتحدة بقيادة جورج بوش الابن فيما سماه الحرب العالمية على الإرهاب، تجلت بداية العصر الذهبي الحالي للشركات العسكرية الخاصة في العالم عموما، وفي القارة الأفريقية خصوصا.
البداية من عملية عنتيبي
وعند الحديث عن إسرائيل، برزت الأهمية لوجودها العسكري في أفريقيا بعد عملية عنتيبي في الرابع من يوليو/ تموز 1976، حين اختطفت مجموعة من الفلسطينيين واليساريين الأمميين طائرة فرنسية على متنها 248 راكبا في أوغندا، وأطلقوا جميع الركاب عدا اليهود، وطالبوا بالمقابل بتحرير أسرى فلسطينيين من السجون الإسرائيلية.
وفي رد الفعل الإسرائيلي، نقل ما يقارب 100 جندي من القوات الخاصة إلى أوغندا لتنفيذ عملية الإنقاذ، واستمر التعاون العسكري بين البلدين حتى بعد إتمام العملية، وهذا يفسر تركيز وجود المدربين الإسرائيليين الخاصين في العاصمة الأوغندية كامبالا حتى الوقت الراهن.
ومن حينها تشكلت نقطة ارتكاز للنفوذ الإسرائيلي في الدوائر الأمنية الأفريقية، من خلال تقديم الاستشارات العسكرية من المتقاعدين من الجيش الإسرائيلي، فضلا عن توسيع دور الشركات الأمنية الإسرائيلية في أفريقيا والمشاركة في تدريب وحدات النخبة في الجيوش الأفريقية.
جولة ليبرمان
في عام 2009، قام وزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان بجولة غير مسبوقة في القارة الأفريقية شملت إثيوبيا وغانا وكينيا ونيجيريا وأوغندا، وأعلن خلالها عن استعداد إسرائيل للمساهمة في حل الكثير من التحديات التي تواجه الدول الأفريقية، مؤكدا أهمية القارة السمراء بالنسبة لإسرائيل وضرورة عدم تجاهلها.
وأبرز ما لفت النظر في تلك الزيارة العدد الكبير لممثلي شركات الأسلحة الإسرائيلية الذين كانوا يشكلون غالبية أعضاء الوفد المرافق للوزير، مما يعكس الاهتمام الإسرائيلي بتعزيز العلاقات الأمنية مع الدول الأفريقية.
وفي السنوات اللاحقة، عملت وزارة الخارجية الإسرائيلية والجيش وجهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد) وجهاز الأمن العام (الشاباك) على تعزيز العلاقات الأمنية مع أفريقيا، كما عينت تل أبيب العقيد أفييزر سيغال كأول ملحق عسكري لها في أفريقيا منذ عقود.
ونجح في الترويج للخبرات العسكرية الإسرائيلية في الدوائر الأمنية، لتتجه العديد من الدول الأفريقية بعدها نحو الاستعانة بشركات الأمن الإسرائيلية لتدريب الوحدات الخاصة بحماية القيادات أو تلك المعدة للعمل في مناطق الصراع.
خيار مفضل
تمتاز الشركات العسكرية الخاصة بمرونتها وقلة الإجراءات البيروقراطية المطلوبة مقارنة بالقوات الحكومية، مما يجعلها خيارا مفضلا وفعالا للدول الأفريقية.
وتمكنت إسرائيل من اختراق الدوائر الأمنية الأفريقية من خلال المدربين الخاصين، وبحلول عام 2024، أشارت التقارير إلى أن قوات الكوماندوز الإسرائيلية تدرب قوات محلية في أكثر من 12 دولة أفريقية.
ومن بين الدول التي تتعاون معها إسرائيل عسكريا إثيوبيا ورواندا وكينيا وتنزانيا ومالاوي وزامبيا وجنوب أفريقيا وأنغولا ونيجيريا والكاميرون وتوغو وساحل العاج وغانا وأوغندا وإريتريا وجنوب السودان وغيرها.
نماذج للوجود الإسرائيلي
أفاد تحقيق أجراه موقع “أفريكان أرغمنتس”، المتخصص في الشؤون الأفريقية، وقناة إسرائيل 13 بتدريب خبراء إسرائيليتين لكتيبة التدخل السريع التابعة لرئيس الكاميرون بول بيا، وذلك بعد محاولة الانقلاب الفاشلة عام 1984، وهو العام الذي طبعت الكاميرون العلاقة مع إسرائيل.
ولم يقتصر التحقيق على تسليط الضوء على المبالغ المالية الضخمة التي ينفقها رئيس الكاميرون للحفاظ على سلطته، بل أيضا على طموحات إسرائيل لتعزيز نفوذها الأمني في أفريقيا من خلال المدربين الخاصين.
في عام 1999، قام الملحق العسكري الإسرائيلي في ياوندي وقتها، آفي سفيان، بتدريب وحدات النخبة في الجيش الكاميروني ومن ثم الحرس الرئاسي، مؤسسا بذلك وحدة التدخل السريع (بي آي آر) الشهيرة.
توفي آفي سفيان في حادث مروحية عام 2010 قرب العاصمة ياوندي، وخلفه في المهمة العميد المتقاعد إيري زوكرمان، الذي كان له دور سابق في الحرب الإسرائيلية اللبنانية عام 2006، واستمر في تدريب الوحدة الخاصة حتى عام 2017. بعد زوكرمان، تولى عيران مواس، خبير الأمن الإسرائيلي، مسؤولية تدريب الوحدة.
تتميز الوحدة بمكانتها الخاصة في الكاميرون، حيث تخضع مباشرة للرئيس بول بيا وليس لوزارة الدفاع، مما يجعلها مستقلة عن الجيش الكاميروني. كما يأتي تمويل الوحدة من نسبة معينة من أرباح شركة النفط الوطنية وصفقات التنقيب عن الغاز.
وكشف مجندون سابقون في وحدة التدخل السريع، وفقا لتحقيق “أفريكان أرغمنتس”، عن تفاصيل تدريبهم على يد مدربين إسرائيليين، حيث تضمن التدريب القتال الحضري وتعلم الكراف ماغا، وهو فن قتالي طورته قوات الدفاع الإسرائيلية، ويتم تجنيد دفعات جديدة للوحدة كل بضع سنوات، حيث يتولى المدربون الإسرائيليون تدريبهم وتزويدهم بأسلحة إسرائيلية.
كشف تقرير مشابه عن نشاط المدربين الخاصين الإسرائيليين، حيث تم تصوير ضباط إسرائيليين وهم يدربون الجنود في تنزانيا على مهارات الكراف ماغا، وإنقاذ الرهائن، والقتال الحضري.
- الكونغو الديمقراطية
بالموازاة، تم تسليط الضوء على التعاون الأمني بين الشركة الأمنية “مجموعة مير” وجمهورية الكونغو الديمقراطية كجزء من تقوية العلاقات الثنائية، والتي شهدت تطورا منذ تولي فيليكس تشيسيكيدي الرئاسة في عام 2019.
لم يقتصر الوجود الإسرائيلي على تدريب الوحدات النخبوية فحسب، بل توسع أيضا ليشمل تقديم خدمات استخبارية للأنظمة السياسية الحاكمة، ففي تقرير استقصائي أذيع في برنامج “يو في دي إيه” على التلفزيون الإسرائيلي في السادس من يونيو/ حزيران 2019، تم الكشف عن استعانة الرئيس الكونغولي جوزيف كابيلا بالمخابرات الإسرائيلية الخاصة “بلاك كيوب” للتجسس على معارضيه.
توسعت إسرائيل في تعزيز حضورها العسكري في أفريقيا، وذلك من خلال تقديم دعم مساعدات عسكرية وخبراء لإثيوبيا لمساعدتها في مواجهة تهديدات الجماعات المسلحة، وشملت هذه المساعدات تطوير الطائرات الإثيوبية، وتدريب الطيارين، وتزويدهم بكميات كبيرة من الأسلحة.
أقامت إسرائيل محمية عسكرية في جزر دهلك التي تتميز بموقع إستراتيجي على ارتفاع 7500 قدم فوق أحد الجبال شمال العاصمة أسمرا، وهي مجهزة بأحدث التقنيات للتنصت على الاتصالات اللاسلكية وأنظمة الملاحة البحرية.
وفي جزيرة حالب تمتلك إسرائيل معسكرا يضم نحو 800 فرد، بالإضافة إلى وجود رادار على قمة جبل سوركين الذي يقع عند مدخل مضيق باب المندب، مما يعزز القدرة الإسرائيلية على المراقبة في منطقة إستراتيجية هامة.
تعزيز النفوذ
وفي العقود الأخيرة، اتخذت إسرائيل خطوات إستراتيجية لتعزيز نفوذها، مستخدمة المدربين الخاصين كأداة رئيسية. وهذه أساليب اعتمدتها إسرائيل في هذا السياق:
- المصير المشترك:
وفقا لما أورده البروفيسور الكاميروني جان بول بوغالا في ندوة عام 2020، يحرص المدربون الإسرائيليون على التأكيد على التشابه بين التجارب التاريخية للأفارقة مع الاسترقاق والاستعمار، ومعاناة اليهود الذين عانوا التمييز في أوروبا واختتمت بالهولوكوست.
- التهديد المشترك:
يناقش المدربون الإسرائيليون مع المتدربين والمسؤولين الأفارقة الخطر المشترك الذي يواجهه كلا الطرفين، وهو الإرهاب والتطرف.
- التعاون المشترك:
تهدف إلى تعزيز العلاقات الدبلوماسية الإسرائيلية في القارة، وكذلك لمواجهة التأثير العربي-الفلسطيني والحد تأثير السرديات المعاكسة.
كما توفر إستراتيجية إسرائيل في تدريب القوات العسكرية فائدة أخرى، تتعلق بالأمن القومي الإسرائيلي، فالعديد من الدول الأفريقية التي تلقت تدريبات عسكرية إسرائيلية تشارك بفعالية في مهام حفظ السلام، بما في ذلك على الحدود الإسرائيلية مع سوريا ولبنان، ويعد وجود قوات تحت قيادة جنود تدربوا على أيدي إسرائيليين مفيدا للأمن الإسرائيلي.
دعم إسرائيل
تفسر هذه العلاقات الأمنية التي تقدمها تل أبيب لهذه الدول، السبب وراء دعم 11 دولة أفريقية لإسرائيل في المحافل الدولية، مثل مشاركتها في حفل افتتاح السفارة الأميركية في القدس.
ويعد تأييد قادة دول الكاميرون وكينيا وغانا وزامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية لإسرائيل وإدانتهم للمقاومة الفلسطينية دليل على ازدياد النفوذ الإسرائيلي، كما يعتبر ثمرة للجهود التي بذلها المدربون الإسرائيليون في هذه الدول.
ومن الضروري بيان أن الدول التي ينشط فيها المدربون الإسرائيليون هي نفسها التي سعت لتسهيل إدراج إسرائيل كمراقب في الاتحاد الأفريقي عام 2021، لكن المحاولة باءت بالفشل وتم تعليق هذه العضوية في القمة الـ37 في هذا العام بسبب الفظائع التي ارتكبتها إسرائيل في غزة.
ومن المهم التذكير بأن هناك جمعا من الدول الأفريقية ما زالت تعتبر إسرائيل نظام “احتلال عنصري” وتدين ما تعتبره عمليات إبادة متواصلة في غزة.
لقد كشفت هذه الدول، التي تشكل الأغلبية الساحقة داخل أروقة الاتحاد الأفريقي، عن موقف متماسك وجلي خلال القمة الأخيرة، يتمثل في دعمها الصريح للشعب الفلسطيني انطلاقا من تجربتها التاريخية المريرة مع الاستعمار، مما يؤكد التقاطع العميق في المصير والمعاناة مع الفلسطينيين.
تباينات
وتختلف شركات الأمن الإسرائيلية عن سواها في آليات العمل، فبينما تتشارك الشركات الأمنية الخاصة والكيانات العسكرية الروسية مثلا مهمة حماية الأصول من أي تهديدات عنيفة في البلدان التي تتنشط فيها، فإن المؤسسات الأمنية الخاصة من إسرائيل تسلك مسارا مختلفا عن نظيراتها الروسية والغربية بأهدافها المنصبة حاليا نحو سد الفجوات الأمنية من خلال تأهيل قوات النخبة المكلفة بحماية القيادات، أو تأمين استثمارات رجال أعمال إسرائيليين في الكونغو الديمقراطية مثلا.
ففي الوقت الذي تسهم فيه الكيانات الأمنية الأخرى بشكل فعال في صقل مهارات القتال للدول التي تراها حيوية لتحقيق مصالحها الإستراتيجية وتشارك في العمليات القتالية البرية، تقتصر مهمة الكيانات الإسرائيلية على إعداد قوات النخبة دون الانخراط المباشر في الحروب.
ومن جهة أخرى، يعكس هذا التحالف مع إسرائيل تبعية للسياسات الأميركية والغربية الجديدة التي تربط الدعم المالي والتجاري لأفريقيا بالتوافق مع إسرائيل وتأييد سياستها.
ويدعم هذا التحليل تقرير يفيد بأن دعم الولايات المتحدة لمصالح إسرائيل السياسية والتجارية كان شرطا في الاتفاق التجاري مع كينيا، وهي من الشركاء الموثوق بهم للغرب وتتلقى دعما مستمرا من واشنطن.