الخرطوم- شهدت الحرب الدائرة حاليا في السودان أساليب لم تشهدها سابقاتها، حيث كان احتلال البيوت واستخدامها ثكنات عسكرية، ثم اغتصاب النساء على نطاق واسع، وفق ما أشارت إليه منظمات دولية متخصصة. وأخيرا، جاءت قوات الدعم السريع باستخدام المخدرات والمنشطات لزيادة فاعلية أداء المحاربين، أو لتكون تجارة تبتغي منها تحقيق الربح ولو كان ثمن ذلك هلاك آلاف من الشباب.
فقد أعلن جهاز المخابرات السوداني، الثلاثاء الماضي، اكتشاف مصنع لإنتاج الحبوب المخدرة في منطقة مصفاة النفط بالخرطوم بحري ينتج 100 ألف حبة من الكبتاغون في الساعة وتعود ملكيته للدعم السريع، وأن معظم الإنتاج كان يذهب كمنشطات للقوات “المتمردة”.
ولم تستبعد السلطات السودانية أن يكون جزء من إنتاج ذلك المصنع قد أخذ طريقه لدول الجوار والمجتمعات المحلية. وفُتحت أبواب المصنع لمجموعة محدودة من الصحفيين كانت الجزيرة نت من بينهم، إذ طرحت كثيرا من الأسئلة، وسعت بحثا عن إجابات لهذا الملف الغامض.
الطريق إلى الهدف
لم تشأ السلطات السودانية أن تعلن عن تفاصيل المفاجأة التي وعدت بها الصحفيين في ذلك اليوم، فمنحت الجميع العنوان وتركت لكل من أعضاء الوفد الصحفي أن يتخيل وجود مصنع مخدرات في مكان توقفت فيه كل المصانع بسبب الحرب التي تشارف على إكمال عامها الثاني في السودان.
الطريق إلى منطقة مصفاة الخرطوم، التي تسمى أيضا مصفاة الجيلي نسبة إلى المنطقة الريفية التي تقع قربها حيث يوجد المصنع المشار إليه، كان يعكس أهوال الحرب، شاحنات كانت تحمل وقودا لقوات الدعم السريع تكومت محترقة بعضها فوق بعض، بسبب الكمائن التي كان ينصبها جنود من الجيش السوداني لقطع الإمداد الحيوي من النفط للدعم السريع التي كانت منتشرة في هذه البقاع.
مصانع كبيرة أوصدت أبوابها بعد أن تحولت إلى مقار عسكرية، المصفاة الرئيسية في مرحلة جرد الخسائر، وهي مرحلة تسبق وصول الخبراء الصينيين الذين كانوا قد بنوها أول مرة، ومحطة توليد الكهرباء في منطقة قرى التي كانت تمنح الوطن نصف ما يحتاجه من طاقة أصابها ما أصاب أختها في التنمية مصفاة النفط.
من بين الركام والخراب كان موكبنا يتخذ مسارا حذرا مخافة الألغام، مرافقنا يحكي كيف أن سيارته تخطت لغما كان يمكن أن يمزقها إربا إربا، وكيف أنهم نزعوا 600 لغم من كيلومتر مربع واحد.
أخيرا، نقف أمام بناية متعددة الطوابق تشبه غيرها من المباني التي لم تكتمل بعد أن دهمتها الحرب، هنا مصنع المخدرات كما تسميه إدارة المخابرات السودانية.
مبنى محكم الإغلاق عالي الأسوار يتكون من عدد من الآلات وبه مستودع للخام. وحسب العميد بجهاز المخابرات السوداني هاشم العربي، فإن هذا المصنع ينتج نحو 100 ألف حبة في الساعة وإن المواد الخام التي وجدت فيه تكفي لإنتاج 700 مليون حبة.
وأوضح العربي أن البحث لا يزال جاريا عن حبوب أُنتجت ولم يكتمل توزيعها، وهنا ينشط رجال المخابرات وشرطة المخدرات في البحث عن مخازن تحت الأرض. كما أن البحث يشمل مناطق أخرى بحسب أحد رجال الشرطة المرابطين، الذي أكد للجزيرة نت أنهم يتوقعون وجود مخازن في أماكن مجاورة.
![أعلن جهاز المخابرات السوداني، الثلاثاء الماضي، عن اكتشاف مصنع لإنتاج الحبوب المخدرة في منطقة مصفاة النفط بالخرطوم بحري ينتج 100 ألف حبة من الكبتاغون في الساعة وتعود ملكيته لقوات الدعم السريع"](https://saudianas.com/wp-content/uploads/2025/02/EEE-1739449153.jpg)
شواهد
وقال العميد العربي للجزيرة نت إن المصنع كان يُشغّل عبر خبراء من دولة شقيقة رفض الكشف عنها، وهو أمر يتفق معه الكاتب الصحفي محمد حامد جمعة الذي زار المصنع ذاته ويعتقد أن مستوى التقنية المتخصصة تشير إلى أنه بُني على يد خبراء أجانب.
وفي سؤال للجزيرة نت عن الشواهد التي تدل على أن هذا المصنع تعود ملكيته لقوات الدعم السريع، يوضح العربي أن الفحوصات الطبية التي أجريت على جثامين قتلى الدعم السريع تشير إلى أنهم تعاطوا كمية من الحبوب المخدرة.
كما يشير متصدر عسكري في الجيش السوداني للجزيرة نت -فضل حجب اسمه- إلى أن كثيرا من الأسرى بعد ساعات من القبض عليهم كانوا يطالبون بما يسمونها الفيتامينات المنشطة، “مما يؤكد وصولهم لمرحلة الإدمان”.
ويضيف جمعة شواهد أخرى، ومنها أنه لاحظ أن أفراد الدعم السريع يتمتعون بالقدرة على النشاط الزائد الذي لا يتناسب مع بنيتهم الجسمانية، وأن لديهم قابلية أكبر للاستجابة لأي استفزاز بردة فعل عنيفة.
وتابع أنه شاهد أيضا أن قوات الدعم السريع ليست لديها القدرة على إدراك المخاطر، إذ كانوا يكررون مثلا مهاجمة مقر قوات المدرعات غربي الخرطوم عشرات المرات، ويفقدون آلاف العناصر، ورغم ذلك يستمرون في المخاطرة مما يدلل على استخدامهم هذه الحبوب المخدرة.
الكبتاغون هو أحد أنواع المواد المخدرة التي تحتوي على مادة “ميثامفيتامين” المنبهة للجهاز العصبي المركزي، ويُستخدم في بعض الأحيان بشكل غير قانوني، ويؤدي إلى تأثيرات سلبية على الجسم والعقل، ويُعد من المواد التي يمكن أن تسبب الإدمان بشكل سريع.
يؤدي استخدام الكبتاغون إلى شعور مؤقت باليقظة والنشاط، لكن مع مرور الوقت قد يسبب مشاكل صحية خطيرة مثل تدمير الخلايا العصبية، واضطرابات في المزاج، وفقدان التركيز، بالإضافة إلى الأضرار التي تصيب القلب والجهاز التنفسي. ويُعد من المخدرات المحظورة في معظم البلدان ويُعتبر تعاطيه جريمة قانونية.
رأي القانون
ولكن ماذا يرى القانون السوداني في هذه المسألة؟
يتحدث للجزيرة نت نور الدائم زمراوي وكيل وزارة العدل الأسبق، ويقول إن قانون المخدرات والمؤثرات العقلية لسنة 1994 قد ميز بين أمرين:
- الأول: الاتجار في المخدرات أو المؤثرات العقلية بطريقة غير مشروعة، ويشمل زراعتها أو صناعتها أو الاتجار بها، وعقوبته الإعدام أو السجن المؤبد.
- الثاني: فهو التعاطي، وينظر المشرع إلى مرتكبه على أنه ضحية، ولذلك تدرّج القانون بين معالجة الضحية وعقوبة الحبس المتدرجة وفقا لجنوح المتعاطي.
من جانبه، قال خبير بشرطة المخدرات للجزيرة نت -فضل حجب هويته- إن هذا المخدر، فضلا عن زيادته للنشاط، فإنه يحد من تناول الطعام ويمنح الذي يتعاطاه إحساسا متوهما بالعظمة والقوة الخارقة، وهي أمور كانت تحتاجها ما وصفها بالمليشيا والتي كانت تقاتل في مناطق صعبة، وأحيانا تحت الحصار.
من جهته، يقول الصحفي جمعة إن استخدام قوات الدعم السريع المخدرات كسلاح كان يتيح لها السيطرة على قواعدها، خاصة بعد أن تصل مرحلة الإدمان. ويضيف المصدر العسكري ذاته أنهم رصدوا بعض الأفراد من منسوبي الدعم السريع أصبحوا تجارا يروجون لهذه العينة من الحبوب المخدرة.
وحسب مصدر في الاستخبارات العسكرية، فإن علاقة قوات الدعم السريع بالاتجار في المخدرات ليست وليدة هذه الحرب، بل سبقت ذلك، حيث كانت تصلهم شحنات عبر الموانئ والمطارات ويمنع تفتيشها باعتبارها مواد عسكرية.
ويضيف ضابط شرطة سابق للجزيرة أن السيارات المقاتلة للدعم السريع كانت تحمل في جوفها كميات من الحشيش ويرفضون وقتها الخضوع للتفتيش، وبعض هذه الكميات يستخدمها الجنود وجزء أكبر يتسرب للأسواق، ويعتقد جمعة أن الأمر لم يكن تجارة منظمة، ولكنها تحولت لتجارة يمارسها الأفراد و”ربما بمشاركة القادة الكبار في الميدان”.
وقد تواصلت الجزيرة نت مع عدد من قيادات ومسؤولي قوات الدعم السريع للتعليق على ما ورد من معلومات، ولكنها لم تتلق أي رد منهم.