لو أتيح لك وتجولت في شوارع الضفة الغربية في عام 2003، أي بعد ثلاث سنوات من انطلاق الانتفاضة الثانية، فحتماً لن تخطئ عينك الجدران التي كُتبَ عليها؛ “لا لكرزاي فلسطين”، شعارٌ خطّته أيدي كتائب شهداء الأقصى الجناح العسكري لحركة فتح.
كان حامد كرزاي قادماً على ظهر دبابة أميركية ليتولى رئاسة أفغانستان عام 2001، فيما لم يكن “كرزاي فلسطين” -على حد تعبير كوادر شهداء الأقصى- سوى ذلك الذي جاء على إثر تصفية ياسر عرفات عام 2004. إنه محمود عبّاس أبو مازن، الشيخ الذي يمسك اليوم بمقاليد ثلاث سلطات دفعة واحدة: رئاسة السلطة الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير وقيادة حركة فتح.
وعلى مدار العقدين الماضيين، عمل أبو مازن على إفراغ الثلاث سلطات من أي فاعلية سياسية، وهو الآن ينتظر بفارغ الصبر هزيمة المقاومة في غزة ليقدم نفسه مجدداً كبديل للمقاومة المسلحة، مثلما فعل بعد انتهاء الانتفاضة الثانية.
لا شيء جديد في ذلك، فالنظام الدولي بقيادة الولايات المتحدة لم يكلّف نفسه عناء تقديم خمرٍ جديدة أو حتى أواني جديدة لتلك الخمر، فالذي يُطرح اليوم هو نفسه الذي طرح بالأمس: القبول بفكرة “مسار الدولتين”، وليس “الدولتين” كما يُشاع، والفارق بينهما كبير، فالمسار عملية ليست غايتها إنجاز أهدافها بل تأجيلها، وأهميتها تكمن في منحها إحساساً وهمياً بـ”الحل”، كما تعطي الفاعلين السياسيين لغة سياسية يمكن للأذن الدولية سماعها.
مرّ على ولادة السلطة الفلسطينية قرابة الثلاثين سنة، لكن فكرة الدولة سكنت قادة الفصائل قديماً، حتى أصبحت هاجساً يؤثّر على الأهداف ويغيّرها خلال الطريق. لطالما قطعت فكرة الدولة الطريق على فكرة التحرير، وبدلاً من أن تكون الدولة نتيجة طبيعية للتحرير، تحولت لعائق أساسي أمامه، كما لو كان شدة الخوف من ضياع الشيء السبب الرئيسي في تضييعه.
وبدلاً من مراجعة المسار بمجمله، جرى طرحه باستمرار بوصفه الطريقة الوحيدة لعمل الحقل السياسي الفلسطيني، فيما بدا كل ما هو خارجها لا يعدو كونه رومانسية ثورية لم تدرك بعد ما الذي تعنيه “الواقعية السياسية”. أما السلطة الفلسطينية، فتولت تعريف “الواقعية” بعد أن جعلتها رديفة للقبول بمسار التنازلات.
طُرح مشروع الدولة كعائق أمام توسع الانتفاضة الأولى، وطرح مجدداً كعائق أمام توسع الانتفاضة الثانية، وها هو يطرح اليوم مجدداً على وقع طوفان الأقصى، فما بال المؤمن يلدغ مرات عدة من نفس الجحر!
تاريخ الرغبة في “مسار الدولة”
لقد كان تأسيس حركة فتح عام 1957 حدثاً سياسيّاً فارقاً، فبعد نكبة عام 1948 أدرك الفلسطينيون بأن مصيرهم يُترك لهم شيئاً فشيئاً. وكانت نكسة عام 1967، الانفجار الأخير لهذه الحقيقة التي استحالت لوعي بالذات الوطنية، وهي اللحظة التي التقطتها فتح، لتنفصل بذلك عن مسار الأحزاب العربية، ومستفيدة من طريقة عمل “الإخوان المسلمين” في تأسيس التيارات العريضة. وفي الوقت الذي جاءت فيه هذه المحاولة كتعبير عن فشل الأنظمة العربية في اختبار القضية الفلسطينية، جرى تقليد هذه الأنظمة شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
كانت “معركة الكرامة” عام 1968 حدثاً عسكريّاً حوّل فتح من كونها وجهة نظر إلى “أمٍ للجماهير”. ومع أن الحدث بذاته لم يكن انتصاراً فارقاً، إلا أنه كان تكثيفاً رمزياً لإمكانية محاربة “إسرائيل” وكسر هيبتها. ومن الجيد أن ننتبه لذلك ونحن نراقب حدث الطوفان، الذي لم تولد بعد اللغة السياسية الخاصة به، فنتائج الطوفان تنظر بترقب للعقل السياسي الذي سيطلق العنان لمخياله استجابة لجموح الإرادة وتعبيراً عنها.
صيغت الهوية الفلسطينية على يد حركة فتح بشكل أساسي حاملة نوع من التساكن الفصامي بين مقولتين: “التحرير بالكفاح المسلح”، والآخر ينشد “مسار الدولة” كأرضية للعمل السياسي وغاية له.
كانت فكرة التحرير تسكن بجانب فكرة الدولة، دون أن تتنافرا. وبالأساس، كان هذا تحديداً اختراع فتح الذي سيظلّ ملازماً للحركة الوطنية إلى يومنا هذا. لكن الهوس بالدولة تسلّل تدريجياً مكان هدف التحرير، بعد أن أحكمت عليه الخناق، وهذا التاريخ من الهوس رصده يزيد صايغ في كتابه “الكفاح المسلح والبحث عن الدولة: الحركة الوطنية الفلسطينية، 1949-1993”.
لقد جعل التجاور بين فكرتي الدولة والتحرير، الانحدار نحو الهاوية سلساً، فمن الميثاق القومي الفلسطيني الأول عام 1964 (والذي صار فيما بعد الميثاق الوطني)، وحتّى حضور الرئيس الأمريكيّ بيل كلينتون في التعديل على الميثاق عام 1998، هناك 34 سنة، كانت كفيلة بحرف المسار، من “استعادة فلسطين كاملة” إلى “الدولة الفلسطينيّة الديمقراطيّة التي يتعايش فيها العرب واليهود” إلى مجرّد سلطة تبنت شعار “الدولة الفلسطينيّة المستقلّة” التي بإمكانها التواصل مع من أسمتهم “القوى اليهوديّة التقدّمية” إلى القبول بـ “دولة فلسطينية في حدود الرابع من حزيران” و”الاعتراف بدولة إسرائيل” و”حل النزاع بالطرق السلمية”.
وقفزاً إلى ما قبل طوفان الأقصى بأيام، فقد كتب الأسير إبراهيم حامد مقالاً مهماً نشر على “مجلة الدراسات الفلسطينية”، حمل عنوان: “في إعادة الاعتبار لتحرير فلسطين”، جاء فيه: “في عملية العبث هذه التي جرى فيها تغيير الأهداف العليا واستبدالها، طُرحت ثلاثة أهداف وطنية بديلة، ليُستعاض بها عن هدف تحرير فلسطين الجامع، وهي مثلما أُعلنت في سنة 1974 (سنة تغيير وجهة الرأس السياسي الفلسطيني): حقّ العودة؛ وحقّ إقامة دولة؛ وحقّ تقرير المصير. وغدا “خطاب الحقوق” هذا خاضعاً لمنطق الحقوق التي تسمح بها قوانين الأمم المتحدة الجائرة بحقّ فلسطين وقضيتها”.
يضيف حامد: “والمفارقة هنا، أن “تحرير فلسطين” عندما يتم إنجازه الفعليّ كهدف، فإن هذه “الحقوق الثلاثة” وغيرها ستصبح تحصيل حاصل! غير أن طرحها منذ سنة 1974 جاء ليُستعاض به عن هدف التحرير الذي تم إقصاؤه. ثم إن أي حق من هذه الحقوق، هو من النوع القابل للتفاوض عليه، وهو ما برهنته التجربة لاحقاً، بل إن هذا المنطق التنازلي، جعل حتى هذه الأهداف الثلاثة نسياً منسياً”.
الدولة الرمز والقائد الرمز: وقائع ما بعد أوسلو
كان أبو عمار شديد الولع بالرمزيات، وكلّما خسر حقيقة واقعية استبدلها برمز. في 30 آب/ أغسطس 1982، غادر أبو عمّار بيروت، آخر حدود جغرافية للنضال ضد “إسرائيل”. بعد أن مر على اجتياح بيروت ثلاثة أشهر، وانتهى باتفاق يقضي بخروج المقاتلين الفلسطينيين؛ الخطوة التي ستجعل مشروع التحرير يخسر آخر أدواته الفعلية، وتبعاً لذلك التفكير بقبول ما يعرض عليه.
وعلى متن السفينة اليونانية “أتلانتي”، التي كانت تتوجه صوب ميناء بيريه، لم يفكر أبو عمار طويلاً في جواب من سأله: إلى أين أنت ذاهب؟ فأجاب: إلى القدس. ولكن، وحتى بعد أكثر من عشرين سنة، لم يدفن أبو عمار في القدس كما أراد، بل دفن في المقاطعة في رام الله، ووضع “ليزر” فوق قبره يضيء ناحية القدس، لتكون آخر رمزيّة يتخذها.
لقد خسرت فصائل منظمة التحرير بخروجها من بيروت آخر حدود مع العدو، وأصبحت بعيدة معزولة في تونس، ومن هناك أعلنت قيام الدولة الفلسطينية “رمزياً”. وشكّل حدث الانتفاضة الأولى طوق النجاة الأخير، الذي بدلاً من تركه يتدحرج ويتحول لأفق جديد للنضال الفلسطيني، جرى تجييره لمشروع “الدولة”. وهكذا فقد زخمه ووضع في مسار التفاوض على أوسلو، تمهيداً لعودة الفصائل إلى البلاد، وتحولت التجربة برمتها من تجربة تحرير إلى تجربة “مسار إقامة الدولة”.
“لست الحاج أمين الحسيني… لا بدّ أن أنجز شيئاً”، قالها أبو عمّار. ولم يكن واضحاً بعد ماهية ذلك الـ”شيء” الذي كان يهجس به أبو عمار، بيد أن شاعر المنظمة محمود درويش قبض على بعض معانيه بقوله: “ما أكبر الفكرة ما أصغر الدولة”، تجلى الـ”شيء” لاحقاً عام 1993 باتفاقية أوسلو.
كانت أوسلو قطعاً للطريق على أفق الانتفاضة الأولى التي انطلقت عام 1987، واستعجالاً لوضعها في قالب “أقل الممكن” بوصفه “أفضل الممكن”.
لم تنص أوسلو على أن السلطة الفلسطينية ستتحول إلى دولة، بل تمسكت الاتفاقية بمصطلح “الحكم الذاتي”، مع تفاوض مفتوح حول “الوضع النهائي”، إلا أن قيادة السلطة كانت تعتبر نفسها مؤقتة، وأنها ستتحول إلى دولة في نهاية الفترة الانتقالية. ومن المفارقة، أن القضايا التي أُجّلت، كانت هي جوهر القضية الفلسطينية، كقضية اللاجئين والقدس، ولحقت بها قضايا أخرى كالأسرى والحدود والمياه.
لاحقاً عام 1994، ألحقت أوسلو باتفاقية باريس؛ الشق الاقتصادي الذي سيربط المناطق الفلسطينية كلياً بـ “إسرائيل”، لاسيما في التصدير والاستيراد وتحصيل الضرائب والجمارك، التي باتت تعرف بـ “أموال المقاصة”، وهي تشكّل ما نسبته 60-65% من موازنة السلطة الفلسطينية، تدفع بها السلطة رواتب العاملين معها في القطاع العام الحكومي. وهي الأموال التي ستستخدم باستمرار كأداة ضغط على السلطة الفلسطينية، إذ تقوم “إسرائيل” باحتجازها بشكل دوري ولفترات طويلة مقابل الحصول على تنازلات سياسية.
حددت اتفاقيات أوسلو التي وُقِّعت بين “إسرائيل” ومنظمة التحرير الفلسطينية برعاية أمريكية وبدعم عربي، بنية السلطة الفلسطينية الوليدة. ومع اتفاقية طابا عام 1995، قسمت المناطق الفلسطينية أمنيًّا ومدنيًّا إلى (أ، ب،ج)؛ وهو التقسيم الذي منع التواصل نهائياً بين مدن هذه “الدولة المرتقبة”، وثبّت وضعية “إسرائيل” في إحكامها الخناق على أي مكان تريده.
وإضافة إلى ذلك، حددت الاتفاقية ملامح التعاون الأمني بين السلطة والاحتلال، فجاء بنص الاتفاقية: “السلطة الفلسطينية مسؤولة عن منع الإرهاب والإرهابيين واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقهم”. كذلك، نصّت الاتفاقية على ضرورة عدم ملاحقة أجهزة السلطة الأمنية لمن تخابر مع الاحتلال، وعلى عدم الإضرار بمصالحهم الشخصية كالطرد من الوظيفة وخلافه، وهو الدور الذي مهّد لتوسع السلطة بعد اتفاق “غزة – أريحا أولاً” عام 1994.
في هذه الظروف ولد ما يعرف بـ “التنسيق الأمني”. والاسم مضلل بعض الشيء، إذ يوحي بأن ثمة تبادل للمعلومات بين طرفين، بينما الواقع أن طرفاً واحداً هو “الأجهزة الأمنية الفلسطينية” يقوم بتزويد الطرف الآخر وهو “الجيش الإسرائيلي”، بكل ما يحتاجه من معلومات أمنية، ولكن لا عكس؛ فالجيش لا يزود السلطة مثلاً بمعلومات حول اعتداءات المستوطنين!
وهكذا تحولت شريحة كبيرة من المقاتلين العائدين لعناصر أمنية موزعة على 13 جهازاً أمنياً، وهي طريقة أبي عمار في تفتيت السلطة وضمان عودة جميع الأطراف له كشخصية نهائية في حسم الصراعات.
خلقت السلطة الفلسطينية حولها مجتمعاً يعتمد عليها، من خلال بنائها جيشاً من الموظفين، بأكثر من 140 ألف موظفاً يعملون في القطاع العام، رواتبهم تزيد على 200 مليون دولار شهريًّا. وتولت تقديم خدمات التعليم والصحة وتأسيس البنية التحتية وإدارة البلديات، بالإضافة لنشاط الشؤون الاجتماعية التي تمول أكثر من 200 ألف من الفئات المهمشة والفقيرة، وعشرات الآلاف من عائلات الشهداء والأسرى، والجرحى، والأسرى المحررين الذين أمضوا أكثر من خمس سنوات في سجون الاحتلال، من خلال رواتب شهرية مخصصة تصرف لهم بانتظام. بهذا، أصبح للسلطة قاعدة اجتماعية، جزء كبير منها غير راضٍ عنها، لكنه في الوقت نفسه مرتبط بها مصيرياً.
في ظل غياب الدولة نفسها، تحولت السلطة ذاتها لجهاز إداري يخفف من أعباء الاحتلال على المحتل، ويربط الفلسطينيين بمحتلهم من خلال مفاصل الحياة الأساسية، كالسفر والعمل والتنقل، وتخفف عنه أعباءه الأمنية من خلال التنسيق الأمني.
لقد طاوعت السلطةُ إسرائيل في كل ما رأته عائقاً أمام “مسار الدولة”، حتى وصلت سلسلة التنازلات إلى القضايا التي هي من صلب اختصاص الدولة المزمع إقامتها؛ فأخرجت ملف الداخل الفلسطيني الذي أصبح من وقتها يمتلك حقلاً سياسياً معزولاً وعاجزاً عن العمل خارج حدود الكنيست، وأخرجت ملف اللاجئين الذين أسلموا أنفسهم لمصيرهم مع الدول المستضيفة في انتظار تصفية “وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)” بشكل نهائي، وملفات أخرى كان يجري تأجيلها، ولاحقاً موتها ونسيانها، لصالح صيانة مسار الدولة.
التسعينيات: معارضو المسار
عند تأسيسها، وعدت السلطة الفلسطينية أهل البلاد بمشروع إقامة دولة فلسطينية، ومن أجل هذا الهدف برّرت السلطة قمعها المقاومة أول قدومها. شهدت فترة التسعينات تنكيلاً واسعاً بفصائل المقاومة، لاسيما حركتي حماس والجهاد الإسلامي. فعلى سبيل المثال، ارتكبت السلطة أول مجيئها “مجزرة الجمعة الأسود” بحق مسيرة سلمية داعمة للمقاومة خرجت من “جامع فلسطين” في غزة، فاستشهد على إثرها 13 مصليّاً وجرح 200 آخرين.
وانطلاقاً من منتصف التسعينيات وحتى نهايتها (مع انطلاق عمليات “الثأر المقدس” التي قادها الأسير حسن سلامة، وصولاً إلى استشهاد عماد وعادل عوض الله عام 1998)، وجهت السلطة الضربة تلو الأخرى لفصائل المقاومة، وقدمت المقاومين قرباناً لـ “إسرائيل” على عتبة الدولة المقدسة المنتظرة، غير مدركة أن تقليم أظافر المقاومة يبعدها عن أهدافها ولا يقربها. في هذه الفترة الزمنية، وقف اللواء غازي الجبالي، قائد الشرطة الفلسطينيّة سابقاً، متبجحاً: “سنسيطر على المساجد ولجان الزكاة والجامعة الإسلاميّة، وسنجتثُ حماس والجهاد الإسلامي من جذورهم”. وهي الفترة نفسها التي برز فيها القائد العام لكتائب القسام محمد الضيف ورفاقه، كأقلية تحاول التصدي لمسار التنازل اللانهائي، فقد أدركوا بحسهم السليم أن الواقعية، كل الواقعية، في هزيمة الاحتلال، وأن الدولة سراب.
عارضت المقاومة الاسلامية ممثلة بحماس والجهاد مسار أوسلو قولاً وفعلاً، فلم يشاركا في انتخابات العام 1996. وكانت عمليات المقاومة تتحرك بمعزل عن المسار الذي خطّته أوسلو لنفسها، إذ نشأ لدينا مسارين منفصلين: “عمليات سياسية” و”عمليات مقاومة”، دون أي اتصال يربط بينهما. لقد اتسعت الفجوة بين حماس وفتح، وكذلك بين الحقلين العسكري والسياسي.
انقضت فترة التسعينيات، حيث ثبّت المحتل فيها مزيداً من حقائقه على الأرض: توسّع الاستيطان، وأجلت الملفات الكبرى، وتحول اتفاق المبادئ الذي كان من المفترض أن ينتهي بعد خمسة سنوات إلى حقائق راسخة. هكذا، كلّما كانت السنين تنقضي كان حلم الدولة يزداد ابتعاداً، وكانت برامج التيارين: من يؤمن بمسار الدولة ومن يؤمن بمسار التحرير، تزداد كذلك ابتعاداً.
الانتفاضة الثانية: لحظة اكتشاف الانغلاق
في مطلع الألفية الجديدة، كان ياسر عرفات (أبوعمار) وإيهود باراك يبتسمان أمام مسار مغلق في كامب ديفيد. مرّ في ذهن الأول تاريخ الرحلة كله، حاملاً داخله خيبة أمل كبيرة، مدركاً أن مسار الحكم الذاتي لم يكن سوى فخ، وأن مسار الدولة لم يكن سوى مسار التوقيع على الهزيمة، ولكنها هزيمة على مراحل ودفعات، حتى يمكن لكبريائه النضالي أن يبتلعها.
وقف أبو عمار حينها على آخر مفترق طرق عُرض عليه، وأغرته بزته العسكرية التي لم يخلعها بعد، إذ ظنّ أنه يستطيع التلويح بالقوة لتحسين شروط التفاوض، لكن القوة التي يدرك حدودها لم تعد مخيفة، والأشياء لم تعد كما كانت، فحدود المقاطعة في رام الله كانت أضيق من حواري بيروت، وأيام معركة الكرامة صار يفصله عنها تحول المقاتلين إلى موظفين، ورحيل رفاق السلاح، وتربص المستعدين لملء الفراغ وتقديم التنازلات التي عجز عن تقديمها.
ومع كل ذلك، حاول أبو عمار محاولته الأخيرة، لمّا وفر الدعم سرًا لكتائب شهداء الأقصى، وأدان عمليّاتها في العلن، وصولاً إلى واقعة سفينة “كارين إيه”، التي كانت تجاوزاً لقواعد اللعبة ونقلاً للتسليح إلى مستوى مختلف، ففرض عليه الحصار وحيداً ليرى بعينيه تقلص الفكرة من الدولة إلى مبنى المقاطعة.
أراد الأمريكان والإسرائيليون تحجيم ياسر عرفات، وتفتيت صلاحياته بين رجلين: الأول؛ محمود عباس، الذي استُحدث له منصب رئيس الوزراء، والثاني؛ محمد دحلان، الذي استلم وزارة الداخلية. لم ينجح الرجلان في أداء مهمتهما، فليس من السهل تحجيم “الختيار”، الذي استحدث قانون المحافظين، بصلاحيات أمنية ومدنية في المحافظات مع سلطة عليا ترجع إليه مباشرة، مما جعل المؤسسة الأمنية قادرة على ممارسة أدوار خارج إطار الحكومة. حتى إنّ عبّاس قد استقال من منصبه بعد 100 يوم عمل في حكومته، لعدم قدرته على تطبيق ما جاء من أجله.
بعد ذلك، جلس شارون قرب وزير دفاعه شاؤول موفاز، أتعمدا ترك الميكروفون مفتوحاً أم نسياه أمام الشاشات؟ لا يهم، المهم أنهما اتفقا بصوت واضح: “سنُطيّر أبا عمار”. فانتظره سمُّ البولونيوم في مكان ما، وتسلل إلى جسده، لنشاهده لأول مرة يخلع بزته العسكرية ويرتدي ثياب المرض إلى ساعة رحيله.
ما بعد الانتفاضة الثانية
دعت الإدارة الأميركية الشعب الفلسطيني لانتخاب “زعماء جدد لا يشينهم الإرهاب”، وشكلت خارطة الطريق (2003) أساساً للمستقبل، واضعة وعداً بالتسوية بحلول عام 2005. شكّلت انتخابات عام 2006 تصويتاً على عودة “مسار الدولة” مجدداً كخيار “عقلاني” وحيد لممارسة السياسة، والسؤال القديم الجديد عاد وقتها: “هل يمكن الجمع بين الحكومة والمقاومة؟ في إرث قديم من العيش بين المتناقضات.
منحت فصائل المقاومة أبا مازن الهدوء الذي يريده، فانطلق في مشروعه لتصفيتها. تصدّت له المقاومة في غزة عام 2007 بحكم انسحاب الإسرائيليين من القطاع، مما أتاح لها لاحقاً تطوير مشروعها المقاوم، فيما لم تنجح في تكرار الحسم في الضفة بسبب تواجد الإسرائيليين فيها، وهذه باختصار حكاية تشكل المسارين المختلفين لغزة والضفة.
مع قدوم أبو مازن للحكم عام 2005، كانت الانتفاضة الثانيّة تلفظ أنفاسّها الأخيرة. رفَعَ شعارَ “القضاء على عسكرة الانتفاضة”، وتعهد بذلك في أوراق اعتماده الجديدة أمام المجلس التشريعي. كانت أجيالُ الانتفاضة المؤسِسَة قد رحلت بين شهيد وأسير إثر اجتياح “السّور الواقي”، ومن تبقى من المطاردين، فتح لهم أبو مازن بابًا وصيّرهم جنودًا في أجهزته الأمنيّة، أما من رفض استبدال الوظيفة الأمنية بالنضال فقد جرى اغتياله أو اعتقاله، تماماً كما جرى ويجري اليوم مع المجموعات المسلحة في الضفة، أمثال “عرين الأسود” و”كتيبة جنين” و”كتيبة طولكرم”.
استُقدم الجنرال الأمريكي كيث دايتون لإعادة بناء الأجهزة الأمنية من جديد، فالطريقة التي انفلتت فيها في الانتفاضة الثانية لم تعجب رعاة مسار “الدولة”. “ما فعلناه هو بناء رجال جدد”؛ صرح دايتون مزهواً أثناء خطابه في “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط” عام 2009، ومعه ولد مصطلح “الفلسطيني الجديد”. نقل دايتون كلمات ضابط فلسطيني كبير، في حفل تخريج الدفعة الأمنية التي تدربت تحت إشرافه: “لستم هنا لتتعلموا كيف تقاتلون إسرائيل”! قال الضابط الفلسطيني الجديد، فعقب دايتون فخوراً: “سألني ضبّاطٌ في الجيش الإسرائيلي: كم من هؤلاء الرجال الجدد تستطيع أن تصنع؟”.
وفي ميزانية السلطة الفلسطينية السنوية لعام 2016، والتي بلغت 4.25 مليارات دولار، حظي قطاع الأمن لوحدة بما نسبته 28% من الموازنة، حيث يستلم 64 ألف موظف عسكري 3.9 مليار شيكل من إجمالي فاتورة الرواتب، وهو ما يعادل ميزانيات الصحة والزراعة والتعليم مجتمعة. بعد الانتفاضة الثانية شكّل الأمن جوهر مهمة السلطة، فيما تخففت لاحقاً من باقي المهام.
استعان عبّاس بسلام فيّاض لإتمام “الإصلاح الاقتصاديّ” المُشابه “للإصلاح الأمنيّ”. والذي كان يعني “تنظيف” النظام الماليّ من أي وسيلة يمكن فيها للمال أن يفيد المقاومة. سيطروا على طرق تحويل الأموال وجمع التبرعات والمؤسسات الخيريّة ولجان الزكاة، وسلّطوا البنوك على الناس تنهشهم فارتفعت نسبة القروض الممنوحة خلال الفترة بين عامي 2007 و2017 بنسبة أكثر من 460%. وكان الإحساس الوهمي بالرفاه مترافقاً بالإحساس الوهمي في الاقتراب من الدولة.
لقد جرى تصوير مرحلة ما بعد الانتفاضة الثانية على أنها مرحلة بناء الدولة، بل وعد سلام فياض أنها ستحدث خلال سنتين. وسلام فياض هو واحد من الأسماء التي ورد اسمها مجدداً لتولي إدارة قطاع غزة في مرحلة “ما بعد حماس” المتخيلة بعد طوفان الأقصى، على الرغم من أنه لم ينجح وقتها رغم كل الدعاية المهولة التي رافقته، فقد أطلقت عليه ألقاب كثيرة، منها: “مارشال الفلسطيني”، كما وصفته إحدى الصحف الغربية وقتها، وقال عنه الصحفي البريطاني روجر كوهين: أهم ظاهرة في الشرق الأوسط، أما الرئيس الإسرائيلي شمعون بيرس المعروف بمبالغته فوصفه بـ “بن غوريون الفلسطيني”. لم يحرز فيّاض أكثر من 1.20% من مجموع الأصوات في انتخابات المجلس التشريعي لعام 2006، ولكن هذه النسبة لا تعني شيئًا مادام الرجل هو “الأكثر قدرة على التحدث بلغتتنا” كما وصفه داني أيالون، السفير السابق لـ”إسرائيل” في الولايات المتحدة.
في نهاية مرحلة “الإصلاح الأمني والاقتصادي” التي أشرف عليها محمود عباس، أجري استطلاع رأي في مستوطنات الضفة حول سبب تفضيل المستوطنين السكن في المستوطنات، فجاءت النتيجة بـ 70٪ من سكان المستوطنات يختارونها لأغراض الرفاه، وهذا بالضبط ما يعنيه جوهر وجود السّلطة اليوم؛ أن تؤمّن الرفاه لدولة المستوطنين المحيطة بها، وهو عكس ما كانوا يزعمون.
ما تبقى لنا: واقع الضفة بعيداً عن الرموز
واقع الضفة اليوم يحكي بشكل واضح عن استحالة إقامة دولة مستقلة، فلقد جرى ربط كل شيء جغرافيا وحياتيا بــ “إسرائيل”.
الجغرافيا
تسيطر “إسرائيل” على 60% من الضفّة عسكريّاً، وهي المنطقة التي تُعرف بمنطقة “ج”. فيما تُشكِّلُ المنطقتان “أ” و”ب” نحو 40% من مساحة الضّفة الغربيّة، ويُفترض رسميّاً أنّها تحت حكم السّلطة الفلسطينيّة بشكلٍ جزئيّ ومتفاوت. نحن نتحدث عن 165 قطعةٍ جغرافيّة مكتظّة ومخنوقة وممنوعة عن التوسّع والتواصل. أما شوارع المستوطنين فيبلغ طولها 49 كيلومتراً، تشمل 43 نفقاً وممرّاً تحت أرضيّ، وهي تأكل باستمرار من مساحة الضفة، ومحظورة غلى الفلسطينيين الذين يسلكون حولاها الطرق الالتفافية باستمرار، وهي طرق يتراوح طولها بين ضعفيّن وخمسة أضعاف من طول الطرق المباشرة.
المستوطنون
بحسب تقرير “هيئة مقاومة الجدار والاستيطان”، فقد تجاوز عدد المستوطنين في الضفّة الغربيّة الـ 720 ألفاً (بما يشمل شرق القدس)، موزّعين على أكثر من 170 مستوطنةً وأكثر من 180 بؤرةً استيطانيّة، عدا عن آلاف الوحدات الاستيطانيّة التي تُصادِقُ عليها حكومة الاحتلال باستمرار، فيما بلغ عدد المواقع الاستيطانيّة والقواعد العسكريّة الإسرائيليّة في الضّفة الغربيّة 435 موقعاً مع نهاية عام 2017. بُنيت كذلك عشرات المستوطنات لتشكّل طوقاً لحماية القدس ولمنع أيّ تواصلٍ جغرافيٍّ وبشريٍّ بين مدن جنوب القدس (بيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور والخليل وحلحول) وشمالها (رام الله والبيرة وقراها)، وهي المستوطنات المعروفة بما يُسمّى “القدس الكبرى”. أضف إلى هذا كله عمليات المصادرة والتهجير المستمر في مناطق الأرياف والأغوار والتجمعات البدوية وغيرها.
يستعد المستوطنون باستمرار ليوم الحسم في الضفة الغربية، مدعومين بتيار سياسي يرى في الضفة الغربية استمراراً للمشروع الصهيوني أرض “يهودا والسامرا”. فخلال عام 2023، أصدر بن غفير نحو 38 ألف رخصة سلاح جديدة. وبعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، تضاعفت طلبات المستوطنين لرخص امتلاك السلاح، حيث يقدّم يوميًا من 8 إلى 10 آلاف طلب. فيما كشفت صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية أن جيش الاحتلال الإسرائيلي يدرس تسليح عناصر أمن المستوطنات في الضفة الغربية، بصواريخ مضادة للدروع.
العمال
لقد قامت دولةُ المستوطنين في الضفّة، وهم على مقربة من إعلانها بشكل رسمي، وإتمام تهجير أكبر قدر من الناس في مناطق (ج، ب)، ويتكدّس الفلسطينيون على هامشها في أحزمةِ فقرٍ مكتظّة، يجري تحويلهم -بعد ضرب مقومات صمودهم- إلى أيدي عاملة رخيصة عند دولة المستوطنين.
وقد شهدت السنوات الخمس الأخيرة الارتفاع الأكبر والأسرع في أعداد العمّال الذين يعملون لدى الاحتلال الإسرائيلي؛ كان في الربع الأول من العام 2022 أكثر من 173 ألف عامل يعملون في أراضي الـ48، إضافةً إلى 31 ألفاً يعملون في مستوطنات الضفّة، وهم يُشكّلون أكثر من 18% من إجمالي العمالة الفلسطينيّة في الضفّة وغزّة (إذا ما أخذنا أرقام الضفّة وحدها فإنّ نسبتهم من مجمل العمالة حوالي 25%). وهو الملف نفسه الذي تستخدمه “إسرائيل” اليوم لمعاقبة السكان ثم ضبطهم أمنياً في الضفة الغربية.
مآلات السلطة
تخلّت السلطة عن مكونها السياسي، وانخرطت نخبتُها في شبكةٍ واسعةٍ من الفساد والمصالح، ولم يتبق من دورها إلا الشق الأمني، فقد أصبح الحاكم الفعلي للضفة ضابطُ الجيش الإسرائيلي المسمّى بـ “المنسّق”، في حالة تشبه مرحلة روابط القرى. والشأن المدنيّ أيضاً مندرجٌ تحت إطاره الأمني ومحكوم به، يعمل كأداةً أمنيّةً لإدارةِ السكان، بما فيها مسائلِ العلاج والتراخيص والتصاريح والإعفاءات وأذونات السفر وما إليها. ولذلك فإن الشخصين اللذين يتهيآن لوراثة أبو مازن يُعبّران تماماً عن هذه الخلاصة: حسين الشيخ؛ منسِّق الإدارة المدنيّة والمُنَفِّذ لخُطَط المنسق، وماجد فرج؛ منسِّق الإدارة الأمنيّة.
الطوفان: أفق جديد
إن تاريخ المواجهات بيننا وبين “إسرائيل” تحكمه قواعد اشتباك بحكم موازين القوى غير المتكافئ، وتبعاً لذلك كان المخيال السياسي يضيق ليحاول تحصيل شيء من الواقعي الذي أمامه، مما جعل الواقعي يستمر في التقلص، وتستمر “إسرائيل” في التمدد على حسابنا، وقد أخذنا اللهاث خلف “مسار الدولة” إلى خسارة قضايانا الأساسية كلها.
قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، كانت القضية الفلسطينية على وشك الاندثار، لكن الطوفان قفز بها إلى الأمام، ومازالت اللغة السياسة المنوط بها التعبير عن هذا الحدث لم تولد بعد. إن وضع هذا الإنجاز مجدداً في إطار “مسار الدولة” سيطيح بكثافته، وسنجد أنفسنا مجدداً أمام صيرورة طويلة من التفاوض على التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، فيما “إسرائيل” لا تعبأ بالمعاهدات والوثائق، وتستمر في خلق حقائقها على الأرض.
الطوفان هو تذكير بأن المهمة الأساسية هي “تحرير فلسطين”، بعد أن تراكم فوقها غبار اللغة “الواقعية” للسياسة، والتي أثبتت الوقائع عدم واقعيتها.