انتفض الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة (1903-2000) من فراشه بقصر قرطاج بسرعة، وامتطى على عجل سيارة شرطة قاصدا قاعة “البلماريوم” على بعد بضعة كيلومترات وسط العاصمة تونس.
كان منزعجا من خطاب حماسي عن الوحدة العربية يلقيه الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي (1942-2011) بالقاعة. من هو هذا الشاب العسكري الغرّ الذي جاء ليلقن “المجاهد الأكبر” دروسا في العلاقات الدولية والسياسة والنضال في عقر داره، وبين وزرائه وأعضاء حزبه الاشتراكي الدستوري العتيد؟
دخل بورقيبة القاعة دون سابق إعلام أو ترتيب، وتوجه إلى حيث القذافي ورفاقه وأمسك الميكروفون وألقى خطبة نحو ساعة استحضر فيها كل قدراته البلاغية -وقد كان الرجل مثقفا وخطيبا مفوها- ليفند آراء ضيفه الوحدوية، ولم ينس أن يطعمها بسخرية ونكات وأمثال يحذقها، قابلها القذافي بابتسامات لم تخف انزعاجه وغضبه.
يروي محمد مزالي (1925-2010) الوزير الأول الأسبق في عهد بورقيبة (1980-1986) في كتاب مذكراته “نصيبي مِن الحقيقة” (الطبعة الأولى، دار الشروق القاهرة، 2007، ص 557) أن بورقيبة سخر في ذلك الخطاب يوم 15 ديسمبر/كانون الثاني 1972 من أفكار القذافي وعروضه الوحدوية المتكررة قائلا: “العرب لم يكونوا موحّدين قط؛ إذ الوحدة تحتاج إلى قرون لتتحقق إذا سلكنا الطريق الصحيحة..”.
بعد ذلك بسنتين، اختزل بورقيبة بشكل مفاجئ كل تلك القرون التي تحدث عنها في ساعة واحدة، لينجز مع العقيد معمر القذافي “اتفاق جربة الوحدوي”، الذي انبثقت عنه الجمهورية العربية الإسلامية، وكانت التجربة الأقصر والأغرب في تاريخ التجارب الوحدوية العربية.