إقليم الحوز – في الطريق إلى “أمندار”، إحدى القرى المعزولة المتضررة من الزلزال في إقليم الحوز، وبعد قرابة 3 ساعات في طرقات ومسالك جبلية ضيقة ومتعرجة ومليئة بالحُفر، انتهى دور سيارتنا “المدللة” التي لا بد أن نستبدلها لتحل مكانها سيارة أخرى ألفت هذه الجبال وتظهر عليها “ندوبها” بوضوح.
هذه المسالك التي شق بعضها سكان القرى بتعاونهم وتضامنهم وبوسائلهم الخاصة، لا ينفع فيها محرك ولا بنزين ولا عجلات، ولا يعوّل فيها إلا على الدواب أو الأقدام، وإن كانت الدراجات النارية قد بدأت خوض غمارها في السنوات الأخيرة.
سيارة متهالكة حمولتها في الأصل 5 أشخاص، تكدس فيها مبعوث الجزيرة نت مع 9 أشخاص آخرين من أبناء المنطقة، وقد سعدنا لأننا وجدنا ما يحملنا في هذه المسالك الرهيبة دون أن نلقي بالا لشعارات السلامة والأمان، فالسلامة الحقيقية في هذه الجبال وفي هذه الظروف هي أن تجد من ينقلك من قرية إلى أخرى، وإلا ستضطر للمشي ساعات تحت الشمس ووسط الغبار.
كرم رغم الكارثة
القرية التي قصدناها لنقضي ليلة في العراء مع منكوبيها، تبعد عن مدينة تارودانت نحو 150 كيلومترا وتقع في منطقة “أغبار” بإقليم الحوز، وهي وقرى أخرى كثيرة نائية وكانت في الأصل معزولة، وزاد الزلزال أوضاعها سوءا ودمارا.
المسلك الوحيد المؤدي إلى أمندار لا يزال إلى حدود زيارتنا لها مغلقا، حيث عاينّا عجز بعض الآليات الثقيلة عن فتحه، مما اضطرنا إلى المشي نحو ساعة ونصف الساعة على الأقدام لنصل إلى أول تجمع سكني في القرية.
وصلنا أمندار وقت الأصيل، واستقبلنا كرم أهلها، حيث عرضوا علينا بحفاوة شرب الشاي والقهوة وما تيسر من ثمار ما تنبت بساتينهم الغنّاء، وخصوصا الجوز واللوز، قبل أن يأخذنا “دّا إبراهيم” (العم إبراهيم) -كما يناديه شباب القرية- في جولة إلى المساكن التي أصبحت خاوية على عروشها، وكذا مسجدها المتصدع الذي بُني قبل أسابيع فقط، والذي اشتهرت نساء “أمندور” بحمل الآجر على ظهورهن للمساهمة في بنائه.
هذه القرية وأُخَر مثلها عبارة عن مساكن متشبثة بجبال صخرية شديدة الانحدار، وتنتشر هنا وهناك على طول واد سحيق مليء ببساتين من الأشجار المثمرة، أبرزها الجوز والتفاح والتين.
أكواخ في البساتين
الأسر المنكوبة غادرت منازلها وآوت إلى هذه البساتين تستظل تحت أشجارها نهارا، وتنام تحت بعضها الآخر ليلا بعد أن بنت هناك أكواخا من ركام الزلزال.
في التجمع الذي استقر بنا فيه المقام (هناك تجمعات غيره في باقي أنحاء القرية)، توجد 6 أسر من نحو 50 فردا، أقامت كوخين تحت شجرة جوز، ومطبخا في العراء تحت شجرة تين. وطول الكوخ الواحد نحو 10 أمتار وعرضه نحو 3 أمتار، وهو هيكل من أخشاب مربوطة بالحبال ومغطاة ببعض الفِراش والنيلون.
أوانيهم بعض ما ترك لهم الزلزال وبعض ما وصلهم من قوافل المساعدات الإنسانية التي تحدّت الظروف في هذه الأعالي، صحون قصديرية وبلاستيكية قادرة على الصمود في مثل هذه الظروف، وقدور وطناجر وكؤوس تتزاحم هي الأخرى مثل البشر في هذه المساحة الضيقة.
دخان وسمر وظلام
بعد صلاة المغرب، بدأ الرجال يفترشون حصيرا تحت شجرة لوز، والنساء بعضهن في المطبخ العاري تحت شجر تين يطبخن بالحطب مرقا بما تبقى لديهن من قديد عيد الأضحى، وبما جمعن من خضار بساتين القرية، وأعينهن تفيض من الدمع لكثرة ما تعرضت له من دخان.
تقول يامنة، التي يظهر من خلال تعامل النساء معها أنها من “قيدوماتهن”، أي أكبرهن سنا وقدرا، “نتعاون جميعا في الطبخ، تستيقظ أولا اللواتي ليس لديهن أطفال، ويبدأن في العمل إلى أن تلتحق بهن المرضعات اللائي سهرن الليل مع أطفالهن”.
الصغار والكبار هنا سواسية في المسؤولية، فالفتيات يجلبن الماء من النهر ويساعدن أمهاتهن في الطبخ ويعتنين بإخوانهن الصغار، والفتيان يهتمون بكل ما من شأنه مساعدة الرجال في مهامهم مثل الرعي والاعتناء بالبساتين والمواشي وغيرها.
وتتابع يامنة “نطبخ كل ما نستطيع، نعد الحساء والمرق والكسكسي والخبز، ونعد الشاي والقهوة والحليب، في الأيام الأولى عانينا من البرد القارس، لكن في هذه الأيام الحمد لله وصلنا ما يكفي من الأغطية”.
وتناشد القائمين على المساعدات الإنسانية قائلة “أولويتنا الآن أن يتم توفير مأوى لنا ويتم إعادة إعمار مساكننا، نحتاج مكانا نؤوي فيه أطفالنا من البرد والأمطار القادمة”.
أما “إيجّو”، وهي مسنة في الثمانين، فتقول إنها شاهدت في هذا الزلزال أهوالا لم تشاهدها قط في حياتها، وتضيف للجزيرة نت “نجونا بأرواحنا إلى هذه البساتين نحن وأطفالنا وما تبقى لنا من مواش وحيوانات”.
وتضيف “لا أذكر في حياتي أننا عشنا مثل هذه الكارثة، لكننا نحمد الله تعالى على ما ابتلانا به. انتشلني أبنائي وأحفادي من تحت الأنقاض، والحمد لله لم أصب بأذى كثير، رحم الله شهداءنا وشافى جرحانا وأحسن إلى من أحسن إلينا”.
خارج الحدود
رغم هول الزلزال، فإن الحياة مستمرة وتمضي لأن صلابة هؤلاء الرجال والنساء من صلابة الجبال التي عاشوا فيها، لذلك وإن كانت مأساتهم تلازمهم في كل وقت وحين، فإنهم يهتمون لمأساة إخوانهم في المناطق الأخرى.
على إيقاع توزيع كؤوس الشاي في ظلام دامس يشقه بصيص ضوء من مصباح يدوي معلق في شجرة اللوز، يسألني العم إبراهيم، الذي يحترمه الجميع هنا لكبر سنه ولمسارعته للخير بينهم، “أنت صحفي وجلت في كثير من المناطق والقرى التي تضررت، أما نحن فبالكاد نصل إلى أقرب نقطة نستلم فيها المساعدات، حدثنا قليلا عما رأيت وكيف حال المتضررين هناك”.
رويت لهم بعض ما رأيت في قرى “تاجكالت” و”تفنكولت” و”تيزي نتاست” و”إيخفيس” و”أيت تيوكا” و”تمسولت” و”شفارني”، وبعض ما رأيت في قرى أخرى بمنطقة “أغبار” مررنا عليها ونحن في الطريق إليهم، كما حدثتهم عن حالة كثير من الطرق والمسالك التي سلكناها.
“نوف كرا يافاغ كرا” يقول الحسين (50 عاما)، وهي عبارة أمازيغية معناها “نحن أفضل من البعض والبعض أفضل منا”، لخص فيها معاني الرضى بالقدر التي تتجلى في سرائر وظواهر هؤلاء الرجال والنساء.
وتشعب النقاش بشأن الكارثة إلى الحديث عن بعض المشاكل والنواقص التي اعترت عملية توزيع المساعدات، وامتد إلى الانتقاد الحاد لبعض السياسيين، وعرج على مشروع المساعدات الفرنسية التي أثارت جدلا حادا في البلدين هذه الأيام، وتفرع إلى تراجع النفوذ الفرنسي في أفريقيا، ولم يخلُ الحديث من طرائف استرجعها البعض من فترة ما قبل الزلزال، بل إن منهم من حوّل بعض لحظات الكارثة إلى طرفة ومزاح.
وتجاوز النقاش حدود البلاد للحديث عن زلزال كهرمان مرعش في تركيا وما خلفه من دمار في فبراير/شباط الماضي، وبدأت المقارنات والتحليلات، ثم كارثة الفيضانات التي ضربت مدينة درنة الليبية الأسبوع الماضي، وكانت الأحاديث مفعمة بمشاعر التضامن والأخوّة وبالدعاء للمتضررين هناك.
صوف ومصابيح
تصل الحرارة في هذه الجبال وفي هذا الفصل في الليل إلى نحو 10 درجات مئوية، لذلك فالكل بعد المغرب يهرع إلى ما لديه من ملابس صوفية سميكة ودافئة.
ومن حين لآخر تسمع تحذيرا من السقوط أو إسقاط شيء، فالمصابيح اليدوية القليلة التي يبددون بها الظلام معدودة، وأعطي أكثرها للنساء، فليس هناك أحوج للضوء من قدر أو طنجرة يطبخن فيها عشاء 50 شخصا.
وسط صيحات الأطفال وصراخهم وبكاء بعضهم، وصل إعلان من المطبخ أن العشاء جاهز، فهبّ أحد الشباب لجلب إناء مليء بالمياه وسطل فارغ وبدأ يلف على الجالسين ليغسلوا أيديهم استعدادا للأكل، وتلك عادة مغربية في الترحيب بالضيف وإكرامه، وتحلّق الرجال في مجموعتين حول مائدتين، في حين شكلت النساء بدورهن مجموعتين في حيزهن للغرض نفسه.
وما كاد الجمع ينتهي من الأكل حتى برز من بين أشجار البساتين ضوء مصباح يدوي، إنهم 4 شبان من أبناء القرية يعملون في مدينة الرباط واصلوا الليل بالنهار ليصلوا الرحم ويجلبوا لأهلهم ما استطاعوا من مساعدات، وبدأت جولة جديدة من السمَر في انتظار تجهيز عشاء سريع من الشاي والخبر والبيض المقلي للقادمين الجدد.
كوابيس تحت البلاستيك
بعد مدة، بدا العياء على الجميع وهرع 4 شبان إلى الكوخ البلاستيكي لإعداد فراش النوم، تكدسنا أكثر من 20 رجلا وطفلا جنبا إلى جنب، واستمرت في الظلام أحاديث الزلزال والمساعدات والسياسة والأوضاع، ولم يقطعها إلا بدء شخير بعض ممن غلبهم النوم.
في الليل تسمع من حين لآخر بعض الهمهمات والصرخات المكتومة من تلك التي تدل على أن صاحبها غارق في رعب تحت الفراش، وتلك علامة على أن أهل القرية لا يزالون يستذكرون هول الزلزال ليس فقط في يقظتهم، بل إنه جعل كثيرا من أحلامهم كوابيس.
وفي الصباح أبى أهل قرية أمندار إلا أن يكون مسك الختام إفطارا بالشاي المنعنع وبالجبن والعسل المصفى، ودعناهم بالشكر والثناء على الكرم وحسن الاستقبال، وودعونا بالآمال في أن ننقل للعالم معاناتهم.
آخر كلام سمعناه في القرية ما قاله مالك، وهو أحد أبناء القرية القاطنين في مدينة طنجة شمالي البلاد وعاد إليها هذه الأيام لمواساة أهله ومساعدتهم على تجاوز الكارثة، “حللت ضيفا عزيزا علينا وكنت واحدا منا هذه الليلة، ونرجو أن تحمل رسالة إلى العالم ليعلموا أن في هذه الجبال قرى منسية لا يلتفت إليها إلا في الكوارث والأزمات”.