صوّت الأوروبيون في الفترة من 6 إلى 9 يونيو/حزيران الجاري لاختيار 720 نائبًا في برلمان الاتحاد الأوروبي للسنوات الخمس المقبلة. وهذه هي الاستحقاقات العاشرة منذ أول انتخابات مباشرة في عام 1979، وتنافست فيها العديد من الكتل السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار.
وفي هذا التقرير، نستعرض مشاريع البرامج التي طرحتها هذه الكتل، بالتوقف عند النموذج الفرنسي، علما بأن فرنسا لديها 81 مقعدا في البرلمان بينما تمتلك ألمانيا 96 وإيطاليا 76.
ما مدى الحاجة إلى منظمة الاتحاد الأوروبي؟
أول ما يلفت الانتباه، التناقض التام في الطرح بين المدافعين عن أوروبا والوحدة الأوروبية وبين من يدفعون نحو الخروج من التكتل على غرار ما حصل مع بريطانيا، مع الإشارة إلى أن هذه الانتخابات هي أول انتخابات للبرلمان الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد (بريكست).
وتتزعم فكرة الدفاع عن أوروبا كتلة الأغلبية الرئاسية وعلى رأسها حزب النهضة للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي تصفه حملة الكتلة بـأنه “أكثر رئيس جمهورية أوروبي عرفته فرنسا على الإطلاق”.
كما تعرّف نفسها بأنها “الحركة الوحيدة المؤيدة لأوروبا”. ووضعت لحملتها الانتخابية شعار “الحاجة إلى أوروبا” وترى أن ” فرنسا أقوى مع أوروبا”، مع التأكيد على النجاح في الوفاء بالوعود في “الحماية من عودة الحروب والأوبئة وضبط حدودنا وتأمينها بشكل أفضل، وتعزيز التحول البيئي الضروري الذي يوفّق بين الإنتاج والنمو والتقشف”.
كما أن البرنامج الانتخابي لهذه الكتلة شدّد على تعزيز نفوذ أوروبا وسيادتها في العالم، لتكون قادرة على التنافس على قدم المساواة مع القوى الكبرى، ولا سيما من خلال تقوية ميزانياتها وصناعاتها الدفاعية.
القطيعة.. هي الحل الوحيد
في المقابل، تقف قائمة “أوروبا كفى” على النقيض من كتلة الأغلبية الرئاسية. ويتزعم القائمة فلوريان فيليبو رئيس حزب “الوطنيون” الداعي إلى السيادة الوطنية، وسابقا الشخصية الثانية في حزب الجبهة الوطنية (أقصى اليمين) قبل أن يتركه في عام 2017.
وفي مقطع من حملته الانتخابية، يحمّل الاتحاد الأوروبي المسؤولية الكاملة في المشاكل التي تعيشها فرنسا: فهو “يسرق حرياتنا”، ويجرّنا نحو الحرب العالمية الثالثة، ونظم الهجرة الجماعية”.
ويصرح بأن قائمته ستفجر النظام الأوروبي. وهي تدعو صراحة إلى الخروج من الاتحاد (فريكست) باعتباره “الحل الوحيد لاستعادة السيطرة على مصيرنا”.
كما تطالب باستعادة “سيادتنا الصحية، ضد هجمات شركات الأدوية الكبرى ومنظمة الصحة العالمية، وكذلك كشف الحقيقة حول الآثار الجانبية للقاحات كوفيد”.
بين المنزلتين
وبين الطرفين، تقف معظم الكتل السياسية الأخرى موقف الناقد للأداء الأوروبي والمطالبة بإصلاحات تطال مختلف القطاعات وأساسا الزراعة والصيد البحري والصناعة والتجارة والمبادلات التجارية ونظام الضرائب.
ومن بين المواضيع التي تم التركيز عليها في الإصلاحات مجال البيئة والمناخ. ويرغب أنصار البيئة في “فرض ضريبة إزالة التلوث اليوم على المنتجات الأكثر ضررًا في انتظار حظرها” و”إنشاء ضريبة على (الديون السامة) على الشركات المصنعة لجعلها تدفع ثمن تلوثها في الماضي”.
كما تم التشديد في البرامج الانتخابية على الإصلاح المؤسساتي من حيث تحسين أدائها وعلاقاتها البينية واحترام سيادة الدول الأعضاء.
وما يلفت الانتباه أن حزب «الاسترداد” يدعو في برنامجه إلى تضمين المعاهدات الأوروبية “الجذور اليونانية واللاتينية والمسيحية لأوروبا”. وفي نفس السياق، يرفض أي توسيع إضافي ووقف إجراءات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فضلا عن إعادة التفاوض بشأن الاتحاد الجمركي.
وتتفق جل الأحزاب والكتل السياسية على عدم توسيع الاتحاد الأوروبي، خاصة فيما يتعلق لتركيا، والبعض يضيف البلقان وأوكرانيا.
ويؤكد حزب “فرنسا الأبية” رفضه أي توسع إضافي للاتحاد الأوروبي، وخاصة فيما يتعلق بأوكرانيا “طالما لم يتم تنفيذ التنسيق البيئي والاجتماعي والمالي وحقوق الإنسان”.
الهوية والإسلام
وتسعى الأحزاب اليمينية إلى إبراز مسألة الدفاع عن الهوية المسيحية للمجتمعات الأوروبية مقابل ما تراه تهديدا من الكيان الإسلامي. ومنع تركيا والبلقان من الانضمام إلى الكيان الأوروبي يأتي في هذا السياق.
مثال جلي على ذلك أن حزب “الاسترداد” وضع على رأس القضايا العشر التي سيتصدى لها ما سماه “أسلمة أوروبا”. ومنع منظمة الإخوان المسلمين وإغلاق “المساجد الراديكالية”.
وتقول رئيسة الحزب ماريون مارشال في مقدمة برنامجها ” أنا أم لبنتين، ولا أرغب أن يصبح الإسلام دين الأغلبية، وأن تُكرَه ابنتاي على ارتداء الحجاب..” وأضافت “أنا أوروبية، وأرغب في الدفاع عن ثقافتنا وقيمنا وحضارتنا وجذورها المسيحية”.
من ناحيته، وعد حزب التجمع الوطني “بطرد المهاجرين غير الشرعيين والإسلاميين والمنحرفين الأجانب”. وبالتالي، هناك خلط مقصود في البرنامج الانتخابي للأحزاب المتطرفة، بما يعطي دلالة بأن الخطر مصدره هذا الثلاثي.
ملف الهجرة.. 3 توجهات:
ووضعت الأحزاب الهجرة في أعلى سلم اهتماماتها وذلك على النحو التالي:.
1 معالجة سياسية وأمنية واقتصادية
شدد أصحاب هذا التيار -ويشمل الأحزاب اليمينية المحسوبة على الوسط- على تعزيز دور الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) المكلفة بالسيطرة على الهجرة إلى القارة الأوروبية.
وطالب هؤلاء بنشر القوات البحرية في البحر الأبيض المتوسط لمنع الهجرة غير الشرعية.
كما تتفق الأحزاب اليمينية على سياسة وقائية استباقية عن طريق التفاوض والدبلوماسية مع بلدان الأصل المعنية بالهجرة، مع اعتماد خطاب يحمل نبرة التهديد المباشر أو غير المباشر بربط المساعدات لهذه الدول بشرط القبول بنتائج المفاوضات.
في هذا السياق، يقترح حزب “التجمع الوطني” تنظيم معالجة طلبات اللجوء مباشرة في بلدان الأصل، وجعل مساعدات التنمية مشروطة بـ”الحفاظ على السكان في بلدانهم الأصلية” و”محاربة المهربين”.
أما حزب الأغلبية الرئاسية، فيدعو إلى التفاوض على اتفاقيات بين الدول الأعضاء ودول الأصل لعودة المهاجرين غير النظاميين “مع تنفيذ تدابير انتقامية في حالة عدم التعاون، ولا سيما تخفيض التأشيرات الممنوحة”، مقابل مضاعفة عدد العودة الطوعية بهدف بلوغ 200 ألف شخص يغادرون طوعا أوروبا كل سنة، علاوة على منح 100 ألف تأشيرة ذات أولوية في أوروبا خاصة للباحثين ورجال الأعمال وأصحاب التخصصات في المهن التي تعاني نقصا في القارة.
ودعا حزب “الجمهوريين” إلى وضع قائمة على المستوى الأوروبي بـ “البلدان الأصلية الآمنة” وقائمة “البلدان الآمنة” التي يمكن للاتحاد الأوروبي أن يتعاون معها لإدارة تدفقات الهجرة. بل إنه دعا إلى إحداث نوع من “الصدمة” في العلاقات الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي مع دول التفاوض على أن تكون القاعدة: “لا مساعدات تنموية ولا تأشيرات للدول التي لا توقع أو تنفذ اتفاقية إعادة القبول”، ووضع عقوبات مالية ضد الدول غير المتعاونة في مكافحة الهجرة غير الشرعية أو في مسائل إعادة القبول.
2 مواقف متشددة.. الإغلاق والطرد
ومن خلال قراءة في برامج الأحزاب والكتل السياسية اليمينية، تتجلى عملية المزايدات في البروز بمظهر القوة في حسم موضوع الهجرة.
وقد دعا حزب التجمع الوطني إلى قصر حرية التنقل في منطقة شنغن على “مواطني الدول الأعضاء فقط” ووعد بـ”طرد المهاجرين غير الشرعيين والإسلاميين والجانحين الأجانب”.
كما وعد بـ”تنظيم استفتاء في فرنسا “لإعادة التأكيد على أولوية الدستور الفرنسي على قرارات القضاة الأوروبيين بشأن مسائل الهجرة”. ودعا إلى إلغاء الإعانات العامة المقدمة إلى “المنظمات غير الحكومية المؤيدة للمهاجرين”.
ويتفق حزب الاسترداد مع “التجمع الوطني” في هذه المسألة. ودعا إلى “محاكمة أولئك الذين يشاركون بنشاط في الاتجار بالبشر كما تفعل الدولة الإيطالية”.
كما طالب بإنشاء “حدود ثلاثية” في أوروبا تتألف من إعادة إنشاء الحدود الوطنية (مع نهاية حرية الحركة لغير الأوروبيين)، وحدود أوروبية مادية وعسكرية (بحرية في البحر الأبيض المتوسط) و”حدود خارج حدودنا”، من خلال التعاون والاتفاقيات مع دول البحر الأبيض المتوسط.
كما دعا إلى إلغاء ميثاق الهجرة التابع للاتحاد الأوروبي والإصلاح الشامل لنظام اللجوء الأوروبي، لا سيما لتسهيل إجراءات الطرد، ورفض توزيع المهاجرين بين الدول الأعضاء، وإجراء اختبارات طبية لتحديد عمر المهاجرين القاصرين، والإذن للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان “بطرد المهاجرين، على الحدود الخارجية، الذين لم يطلبوا اللجوء في سفارة أو عبروا عدة دول آمنة”.
على المستوى الداخلي، هناك اتفاق بين التيارات اليمينية المعارضة حول التشديد على المهاجرين، فدعت أحزاب أقصى اليمين إلى إزالة التوجيه الأوروبي بشأن لم شمل الأسرة، أما حزب “الجمهوريون” فدعا إلى السماح للدول الأعضاء بتنظيم لم شمل الأسرة كما يحلو لها.
3 مقاربة مختلفة
في المقابل، تناولت الأحزاب اليسارية ملف الهجرة بمقاربة مختلفة.
بالنسبة للحزب الاشتراكي، دعت قائمته (الساحة العامة) إلى ضمان “واجب الإنقاذ” للمهاجرين، بحيث يقوم الاتحاد “بتعبئة موارد الإنقاذ في البحر” و”إلغاء تجريم التضامن”.
كما دعت إلى إنشاء “آلية لتوزيع طالبي اللجوء بناءً على إرادتهم الحرة وعلى التضامن الفعال والإلزامي” مع إنشاء “تصريح عمل متعدد السنوات للعمال الموسميين مع تنسيق سياسات تأشيرة العمل”.
من ناحيته، شدد حزب “فرنسا الأبية” على التصدي إلى “المنفى القسري”. واقترح في هذا السياق :
- تعزيز المساعدات التنموية المقدمة من الدول الأعضاء والاتحاد الأوروبي لدول الأصل”.
- استبدال وكالة فرونتكس بوكالة إنقاذ مدنية أوروبية في البحر والبر، دعما لوكالة اللجوء التابعة للاتحاد الأوروبي”. وجاء في برنامج الحزب “أوقفوا العسكرة القاتلة للحدود، والتسليح الضخم لوكالة فرونتكس والمراقبة البيومترية الواسعة النطاق للمداخل والمخارج”.
- فرض عقوبات على عمليات الإعادة غير القانونية في البحر وعلى الأرض التي يديرها خفر السواحل التابع لوكالة فرونتكس أو سلطات بعض الدول الأعضاء”.
- تعزيز التعاون بين الشرطة والقضاء لإدانة شبكات المهربين التي تستغل بؤس المنفيين”.
- السماح للأشخاص الذين يفرون من العنف والاضطهاد بسبب جنسهم أو ميولهم الجنسية بالاستفادة من حق اللجوء.”
- حظر وضع القُصّر والعائلات والأشخاص المستضعفين في مراكز الاحتجاز.
- تأسيس وصول فعال للمنفيين إلى الرعاية الجسدية والعقلية وكذلك الدعم النفسي والاجتماعي”.
- بناء برنامج لمساعدة عودة اللاجئين الذين يرغبون في القيام بذلك عندما يسمح الوضع في بلدهم الأصلي بذلك”.
الحرب على غزة تلقي بظلالها
كما ألقت الحرب في غزة بظلالها على أجواء الانتخابات الأوروبية، وبرزت مواقف حزب “فرنسا الأبية” في هذا الشأن في برنامجه الانتخابي، الذي طالب فيه بوقف فوري لإطلاق النار في الشرق الأوسط وإنشاء ممرات إنسانية وعودة جميع النازحين وإنهاء حصار قطاع غزة فورا، ووضع حد للاستعمار غير القانوني في الضفة الغربية، والاعتراف بدولة فلسطين وسيادتها على جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، ودعم تشكيل حكومة فلسطينية واحدة تدير جميع الأراضي الفلسطينية، بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وتكثيف جميع الجهود الدبلوماسية لإعادة إطلاق عملية السلام على أساس قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة.
ودعا الحزب لدعم جميع المبادرات الدبلوماسية الرامية إلى إطلاق سراح الرهائن المحتجزين في غزة لدى حركة حماس، وكذلك إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين المحتجزين تعسفا من قبل حكومة بنيامين نتنياهو.
وطالب بتعليق اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل طالما استمر احتلالها للأراضي الفلسطينية، وإنهاء اتفاقيات التعاون مع الدول المعنية، وفقًا لأحكام محكمة العدل الدولية.
ودعا لفرض حظر على الأسلحة التي ترسلها دول الاتحاد الأوروبي إلى إسرائيل، والتي تستخدم في مذابح شعب غزة، ومعاقبة الأفراد والكيانات الذين تنتهك أفعالهم القانون الإنساني الدولي وقرارات الأمم المتحدة بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
وحث حزب فرنسا الأبية على إحالة جميع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت خلال النزاع الإسرائيلي الفلسطيني إلى المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الضالعين فيها.
ويتضح في الأخير أن الانتخابات الأوروبية الحالية ذات أهمية قصوى، كما أكدت البرامج الانتخابية نفسها لخصوصية الوضع الإقليمي الأوروبي والوضع الدولي عموما.