جاكرتا- في الرابع عشر من فبراير/شباط الجاري، ستعقد إندونيسيا أكبر انتخابات في يوم واحد على مستوى العالم لانتخاب رئيس ونائب رئيس، إلى جانب قرابة 20 ألف نائب في البرلمان المركزي ومجلس الشيوخ والبرلمانات على مستوى الأقاليم والمحافظات والمدن، يخوض فيها السباق نحو ربع مليون مرشح.
ومنذ التحول الديمقراطي في إندونيسيا عام 1998، تحظى الانتخابات باهتمام شعبي وحزبي واسع، حيث يشارك قرابة 200 مليون ناخب بالاقتراع كل 5 سنوات، يتغير بموجبها حوالي نصف مشرعيهم في البرلمان المركزي ومئات من المجالس التشريعية المحلية.
إلا أن الانتخابات، التي ستجرى بعد أيام، تحظى بخصوصية عن سابقاتها، إذ تشكل عامل جذب للقارئ العربي لمتابعة مجرياتها ونتائجها، بحكم أنها أكبر بلد مسلم (حوالي 278 مليون نسمة)، ولاعتبارات أخرى داخلية وخارجية لها تأثيرها، نستعرضها في المحاور التالية:
من أصول عربية
رغم الحضور اللافت للإندونيسيين من أصل عربي (الحضارمة) في الحياة السياسية والعامة في البلاد، فإنها المرة الأولى التي يخوض سياسي من هذا الوسط السباق على رئاسة البلاد، ممن هاجر أجداده إلى إندونيسيا واستقروا فيها، وولد في غربي جزيرة جاوا.
وللمرشح الرئاسي أنيس باسويدان حضور وتجربة في الحياة السياسية، حين فاز في معركة شرسة في انتخابات حاكم جاكرتا عام 2017 في مواجهة تحالف واسع من الأحزاب السياسية، وانتهت ولايته في أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وعلى مدى السنوات الخمس الماضية، كان باسويدان ناشطا بشكل ملحوظ على المستوى الشعبي، ومهتما بقضايا المنطقة العربية وخصوصا القضية الفلسطينية بمختلف محطاتها وأحداثها.
يرى يون محمودي، مدير قسم دراسات الشرق الأوسط في جامعة إندونيسيا الحكومية، أن الشارع الإندونيسي لا يضع اعتبارا كبيرا للأصل العرقي للمرشحين سواء كان عربيا أو صينيا أو غيره، لكن قد يؤثر ذلك على اهتمام المواطن العربي بنَسب باسويدان في متابعة الانتخابات ونتائجها، لكنه غير مؤثر في الشارع الإندونيسي.
ويستدرك في حديثه للجزيرة نت، “لكن عامل النسب قد يكون له تأثير على شعبية باسويدان لدى الناخب الإندونيسي، بحكم أن جده عبد الرحمن باسويدان من أبطال حرب استقلال إندونيسيا وأحد مؤسسي الدولة”، فقد أعلنت جاكرتا استقلالها في بيت عبد الرحمن باسويدان.
فيما يرى الباحث والمحلل السياسي مولاورمان هانيسي أن جذور أنيس باسويدان العربية لها تأثير في شعبيته في المناطق التي يتركز فيها الإندونيسيون من أصول عربية، وهم بالملايين، تماما كما يستفيد المرشحون الآخرون من نَسبهم وأصولهم داخل البلاد.
القضية الحاضرة
كانت إندونيسيا، تاريخيا، من الداعمين بقوة للقضية الفلسطينية على اختلاف توجهات رؤسائها من أحمد سوكارنو في ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم، بكافة أشكال الدعم السياسي والإنساني والإعلامي، وقد اشتهرت جاكرتا وغيرها من المدن الإندونيسية مثل باندونغ وميدان وسورابايا بتنظيم مظاهرات حاشدة دعما لقطاع غزة وفلسطين في أوقات الأزمات.
ولعل القضية الخارجية الوحيدة التي تجد مكانا بارزا في البرنامج الانتخابي لكافة المرشحين للرئاسة هي القضية الفلسطينية والحرب على غزة.
يقول محمودي “فلسطين قضية عالمية، والعالم أجمع يهتم بها، فلا عجب أن تكون محل اهتمام كافة المرشحين فهي قضية حق سياسي وإنساني”.
وعن موقف إندونيسيا الرسمي من القضية الفلسطينية، يضيف محمودي للجزيرة نت: “الدولة من البداية تهتم بهذه القضية وشعبها، ولذلك فاهتمام المرشحين بهذه القضية سيؤثر على مدى شعبيتهم في الانتخابات”.
من جانبه، يرى الباحث هانيسي أن قضية فلسطين وغزة تحديدا كانت حاضرة بقوة في الانتخابات الإندونيسية عامي 2014 و2019. “وفي هذه الانتخابات تفرض الحرب في غزة نفسها على اهتمام العالم، فمن باب أولى على الانتخابات الإندونيسية”.
لكنه يعتقد أن المرشحين في هذه الانتخابات لا يقدمون برنامجا واضحا تجاه القضية الفلسطينية مثل الانتخابات السابقة، رغم أنها جزء مهم من حملاتهم الانتخابية.
اختبار لمسار الديمقراطية
يعتقد مراقبون محليون أن هذه الانتخابات تعد اختبارا للمسار الديمقراطي في إندونيسيا الذي بدأ عام 1998 بعد سقوط نظام الرئيس السابق حاجي محمد سوهارتو. وحسب تقديرهم، إذا تمكنت دولة ما من اجتياز 5 انتخابات دون أن تعكرها سلوكيات غير ديمقراطية، يمكن اعتبار أنها اجتازت مرحلة التحول من الدكتاتورية إلى النظام الديمقراطي.
وإندونيسيا تجري الآن الانتخابات السادسة، بعد 5 سابقة سلسة، وإن شابتها انتقادات في مدى نزاهة بعض محطاتها.
لذلك يقول عضو مفوضية الانتخابات لأوغست ميلاز في حديث لصحيفة كومباس المحلية، “إن انتخابات 2024 ستحدد ما إذا كانت إندونيسيا قادرة على تأكيد التزامها بكونها دولة ديمقراطية وطريقة تطبيق هذه الديمقراطية”.
وتجري انتقادات واسعة لسلوك الرئيس الحالي جوكو ويدودو (جوكووي) بتدخله بشكل مباشر وغير مباشر في هذه الانتخابات، من خلال ترشيح نجله (غيبران راكابومينغ راكا) نائبا للرئيس إلى جانب المرشح برابوو سوبيانتو، وذلك بعد تعديل قانوني للحد الأدنى لأعمار المترشحين أقرته المحكمة الدستورية قبل موعد تقديم أسماء المرشحين، وهو حكم قضائي أثار -وما زال- جدلا واسعا بين السياسيين والأكاديميين والقانونيين.
فضلا عن نشر جوكووي صورته إلى جانب برابوو ونجله، في الملصقات الانتخابية، رغم أنه لا يزال على رأس عمله كرئيس ويفترض أن يكون محايدا في الانتخابات.
لذلك يخشى بعض المراقبين من حصول تدخل مباشر أو غير مباشر في الانتخابات بما يؤثر على نتائجها.
كتلة الشباب المؤثرة
ستجري هذه الانتخابات بمشاركة عدد كبير من الناخبين الشباب وتشكل لحظة تحول بين الأجيال بالنظر إلى أن عدد الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و40 عاما يصل إلى قرابة 55% من الناخبين، ولذلك، يتوقع المراقبون أن يكون للشباب دور محوري في صياغة الخيارات السياسية المقبلة في إندونيسيا بما تفرزه هذه الانتخابات.
ولهذا، يعتقد محمودي أن جيل الشباب الذين يشكلون نسبة كبيرة من الناخبين، وينشطون بشكل لافت على منصات التواصل الاجتماعي، أقدر على البحث عن المعلومة عن المرشحين وتقييمها وتحديد خياراتهم بحرية بعيدا عن التأييد التقليدي للأحزاب والشخصيات التي تخوض الانتخابات.
وهو ما يتفق معه هانيسي من أن الشباب الإندونيسي لديهم وعي سياسي قوي وقدرة على الوصول إلى المعلومة من وسائل الإعلام الحديثة، وتشكيل قناعتهم بأنفسهم دون تأثير خارجي على اختياراتهم.
الوزن الإستراتيجي
الوزن الجيوإستراتيجي الكبير الذي تتمتع به إندونيسيا في منطقة جنوب شرق آسيا، جعلها على الدوام محل اهتمام وصراع على النفوذ بين القوى الكبرى منذ الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والمعسكر الغربي، وبقي هذا الصراع قائما بمنسوب متفاوت على مدى العقود الستة الماضية.
ومع تصاعد الصراع الأميركي الصيني في بحر جنوب الصين، تجد إندونيسيا نفسها في قلب هذا الصراع بحكم موقعها الجغرافي وثقلها السياسي والاقتصادي والعسكري، وتحكمها بعدد من أهم الممرات المائية في العالم وهو ممر ملاقا وغيره من الممرات القريبة منه.
ويمر عبر مضيق ملاقا حوالي ربع تجارة العالم من السلع (أكثر من 50 ألف سفينة تجارية سنويا)، وثلث إجمالي تجارة النفط الخام والمنتجات السائلة الأخرى وهو ما يجعله ثاني أهم ممر بحري لتجارة النفط العالمية بعد مضيق هرمز. كما أن حوالي 80% من صادرات الصين تمر عبر هذا المضيق وهو ما يعني أن مصيرها الاقتصادي يعتمد بشدة على استقرار الأوضاع فيه.
وفي فترة حكم الرئيس الإندونيسي الحالي ويدودو على مدى السنوات العشر الماضية، وجدت بكين موطئ قدم متزايدا في إندونيسيا من خلال المشاريع الاقتصادية الكبيرة، وهو ما عزز من حدة الصراع الصيني- الأميركي في هذا البلد.
يعتقد محمودي أن أميركا والصين تلعبان وتتدخلان في ملفات داخلية كثيرة في البلاد وبشكل مباشر. ويرى أنه يمكن توزيع ميول المرشحين الثلاثة تجاه القوى الخارجية على النحو التالي:
- يميل باسويدان نحو الدول العربية والشرق الأوسط.
- فيما يعتبر برابوو أقرب إلى الصين بحكم ارتباطه بالرئيس جوكوي.
- بينما ينفتح غانجار على الصين وأميركا في آن واحد.
فيما يرى محللون آخرون أن الأمر قد يتجاوز ذلك التوصيف، فأنيس باسويدان يلقى قبولا في عواصم غربية، ولبرابوو قنوات تواصل مع واشنطن قوّاها خلال تسلمه وزارة الدفاع في السنوات الماضية، أما غانجار برانوو فهو مقبول أيضا لدى عواصم آسيوية أخرى مثل سنغافورة.