ظلت شبكة الجزيرة تمثّل -طوال الشهور الماضية من الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة– منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 “هاجسا مزمنا” للمؤسسة السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية ولإستراتيجيتها الحربية، بسبب تغطية الجزيرة الواسعة والمستمرة للإبادة الجماعية في القطاع المحاصر.
ولأجل ذلك فقد كانت الحكومة الإسرائيلية تُعِدّ عدتها القانونية والسياسية للتخلص بشتى الوسائل من “الضغط” المستمر للشبكة الإعلامية، وتأثيرها في الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني والدولي.
ونقدم في التقرير التالي ملخصا لورقة أعدها الباحث محمد الراجحي تحت عنوان “إسرائيل: إغلاق مكاتب الجزيرة لإبادة الرواية الصحفية” ونشرها موقع مركز الجزيرة للدراسات، وسلط فيها الضوء على قرار الحكومة الإسرائيلية إغلاق مكاتب الجزيرة، من حيث سياق وحيثيات القرار، ومدى التأثير الكبير للجزيرة الذي أقلق حكومة الاحتلال الذي يسعى -فيما يبدو- إلى “إبادة الرواية الصحفية”.
ولم تجد إسرائيل، التي تربط هويتها بـ”أبناء النور” وتقول إنها الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، سبيلا لاحتواء هذا التأثير سوى الوصفة المألوفة في دول الهشاشة الديمقراطية التي تهيمن على قطاع الإعلام فتُسارع إلى إغلاق مكاتب قناة الجزيرة، ومصادرة أجهزة البث والاتصالات.
كما حجبت مواقع الجزيرة على شبكة الإنترنت بموجب قانون الطوارئ، الذي اصطُلح على تسميته سياسيا بـ”قانون الجزيرة” رغم أن نصوصه تشمل جميع وسائل الإعلام الأجنبية التي تعمل في إسرائيل وترى فيها ما يسمى “إضرارا بالأمن القومي”.
وتشير التسمية (قانون الجزيرة) إلى استهداف مقيد للقناة التي تم تفصيل القانون على مقاسها، وإلى اهتمام سياسي وأمني وعسكري إسرائيلي بدور الجزيرة في سياق الحرب على غزة وانعكاساته على مجرياتها، خاصة بعد التحولات الكبرى في الرأي العام العالمي.
السياق والحيثيات
تُعلِّل الرواية الإسرائيلية إغلاق مكاتب الجزيرة بـ”خرقها للأطر المهنية الضابطة للعمل الإعلامي، وإضرارها بأمن إسرائيل وجنود الجيش الإسرائيلي، والتحريض على الإرهاب أثناء الحرب” بل تمثّل الشبكة -من المنظور الإسرائيلي- بوقا دعائيا لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) في إسرائيل، وهو ما يستدعي “إيقاف آلة التحريض”.
وكان جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي (الموساد) قدّم توصياته إلى المؤسسة العسكرية والسياسية بدعم إغلاق شبكة الجزيرة في إسرائيل، لأنها كما يدعي “تضر بأنشطة الجيش الإسرائيلي وتُعرِّض القوات المقاتلة للخطر”.
وزعم الموساد -في توصياته- أن “قناة الجزيرة بمراسليها الميدانيين تكشف مناطق تجمُّع الجنود الإسرائيليين خلال الحرب في الجنوب، ومواقع حساسة أخرى في إسرائيل” واقترح إغلاقها.
وفي الواقع يبدو التعليل متهافتا، إذ تردد إسرائيل هذه الحجج في جميع الحروب التي خاضتها بالمنطقة خلال العقدين الماضيين مثلما حدث في الحرب المفتوحة بين إسرائيل ولبنان عام 2006، فقد اتهمت حكومة تل أبيب قناة الجزيرة بمساعدة حزب الله اللبناني.
ومن المفارقات أن يُقتل هؤلاء الصحفيون بصواريخ الطائرات المسيّرة الإسرائيلية وهم في الميدان (سامر أبو دقة، حمزة الدحدوح، مصطفى ثريا، عصام عبد الله، فرح عمر، ربيع معماري..).
أما تعليل إغلاق مكاتب الجزيرة بـ”خرقها للأطر المهنية الضابطة للعمل الإعلامي” فإنه يتناقض أيضا مع منهجية تغطيتها الإخبارية لمجريات الحرب، سواء في قطاع غزة أو الداخل الإسرائيلي أو غيرهما من الساحات الأخرى.
فقد كانت شبكة الجزيرة تُقدّر حجم التحديات التي ستعترضها، وكذلك الانتقادات التي تُوجّهها إليها أطراف مختلفة لا تهمها الحقائق مهما كانت الأدلة والوثائق والشواهد دامغة. لذلك اختارت الجزيرة التغطية المفتوحة/المباشرة لمسارات الحرب وتطوراتها، والنقل اللحظي لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، خصوصا في قطاع غزة، حتى لا تُتّهم بفبركة الأخبار واصطناع الوقائع والأحداث، وتزييف الصور وتركيب المشاهد وتمثيلها.
إذن، فما الذي دفع إسرائيل إلى اتخاذ قرار إغلاق مكاتب الجزيرة؟
جزء من الجواب تُقدّمه المنظمات الحقوقية الدولية التي تكاد تُجمِع على ما تراه سببا جوهريا دفع الحكومة الإسرائيلية إلى إغلاق مكاتب الجزيرة، إذ ربط مركز حماية وحرية الصحفيين هذا القرار بـ”التغطية الصحفية للحرب على غزة التي أماطت اللثام عن الجرائم الإسرائيلية في غزة”.
وانتقدت منظمتا “مراسلون بلا حدود” وهيومن رايتس ووتش القرارَ الإسرائيلي، واعتبرت رابطة الصحافة الأجنبية قرار إسرائيل إغلاق الجزيرة بـ”يوم مظلم لوسائل الإعلام والديمقراطية”.
وثمة جزء آخر من الجواب يتمثَّل في أسلوب ونمط التغطية الواسعة “لجريمة الجرائم” التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، إذ شكّلت شبكة الجزيرة “عين العالم” الساهرة في قطاع محاصر لا تتجاوز مساحته 362 كيلومترا مربعا، فلأول مرة في التاريخ الإنساني يتابع العالم لحظة بلحظة عبر شاشة الجزيرة، ومنصات أخرى، جميع أشكال الإبادة في غزة، حتى سُمِّيت بـ”الإبادة المتلفزة” أو “الإبادة على الهواء مباشرة”.
وقد وصل عدد الصحفيين الذين اغتالهم جيش الاحتلال منذ بداية الحرب نحو 150 صحفيا، فضلا عن مئات الضحايا من أفراد أسر الجماعة الصحفية الفلسطينية. وقد دفع صحفيو الجزيرة (وائل الدحدوح، سامر أبو دقة، كارمن جوخدار، أشرف أبو عمر، إسماعيل أبو عمر، أحمد مطر، مؤمن الشرافي، محمد أبو القمصان، رمزي أبو القمصان، أنس الشريف، عماد زقوت..) كلفة إنسانية واجتماعية باهظة بسبب حرصهم على الاستمرار في أداء واجبهم المهني ومواصلة التغطية الكاشفة لجرائم الاحتلال الإسرائيلي.
وكان صحفيو الجزيرة، والمراسلون المتعاونون معها، يتابعون تفاصيل المشهد الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والداخل الإسرائيلي، وفي مناطق أخرى. وقد أسهم نشاطهم الصحفي المهني في رصد جميع أشكال الإبادة الجماعية، وظلت كاميرا الجزيرة تنطلق من الميدان في كشف جرائم الاحتلال الإسرائيلي داخل المستشفيات وفي مراكز الإيواء ومساكن المواطنين وفي الخيام والشوارع والطرقات ونقط توزيع الغذاء.
ونقلت كاميرا الجزيرة تدمير الطفولة في غزة أو ما سُمّي بـ”الحرب على الأطفال”. كما اهتمت بتغطية “الحرب على النساء”. وركزت التغطية في بعدها الاستقصائي أيضا على كشف الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون الفلسطينيون في مراكز الاعتقال الإسرائيلية، سواء داخل قطاع غزة أو في الداخل الإسرائيلي.
ولم تغفل الجزيرة عن تغطية التدمير الممنهج للبنية التحتية في قطاع غزة والضفة الغربية، وهو ما يسمى بالإبادة المادية.
تأثير الجزيرة
يوجد عامل آخر لا يمكن إغفاله في أي تحليل للقرار الإسرائيلي، الذي يقضي بإغلاق مكاتب الجزيرة بإسرائيل، إذ كان محكوما بتقدير المؤسسة السياسية والأمنية والعسكرية الإسرائيلية لما يراه “دورا تحريضيا” للجزيرة في تغطية الحرب، وهو في الواقع دور معرفي/إخباري بالأحداث والوقائع، الأمر الذي جعل الجزيرة تحظى بمتابعة واسعة لمجريات الإبادة الجماعية المتلفزة.
وقد أسهم ذلك في تعاظم تأثير الجزيرة في الرأي العام العالمي، ويمكن تتبّع هذا المتغير من خلال تطورات الأحداث الدولية وسيرورتها. فقد نقلت الجزيرة مشاهد الإبادة الجماعية إلى أروقة المؤسسات الدولية، ومكاتب الإدارات السياسية لمختلف الدول، فأصبح المتلقي يُطالع تقارير أممية عن الإبادة الجماعية.
ومن أمثلة ذلك، تقرير مقررة الأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية المحتلة فرانشيسكا ألبانيز، والذي يؤكد وجود أسباب معقولة للإقرار بارتكاب إسرائيل جريمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين بقطاع غزة، في تقرير يحمل عنوانًا دالًّا هو “تشريح الإبادة الجماعية” قدّمته ألبانيز إلى مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بجنيف، يوم 26 فبراير/شباط 2024.
وأثارت تغطية الجزيرة للجرائم والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني الرأي العام بالمجتمعات الغربية، ولا سيما في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا، وقد تطور ذلك إلى مظاهرات واحتجاجات طلابية في المؤسسات الجامعية بهذه الدول، مما دفع بعض البلدان إلى مراجعة سياساتها تجاه الحرب على غزة.
إبادة الرواية الصحفية
تسعى إسرائيل من خلال قرار إغلاق مكاتب الجزيرة إلى التحكم في الرواية الصحفية التي تخرج من إسرائيل وقطاع غزة إلى العالم، فلا يرى ولا يسمع بعدها عن أشكال الإبادة الجماعية والجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال في القطاع، وكذلك في الضفة التي بدأ يطبق فيها نموذج غزة.
كما لا ترغب الحكومة الإسرائيلية في أن تكون الجزيرة عين العالم على ما يجري في الداخل الإسرائيلي الذي تنهشه الصراعات والمصالح الحزبية والشخصية في إدارة مؤسسات الدولة.
وفي هذا السياق، يعني إغلاق مكاتب الجزيرة إبادة الرواية الصحفية المهنية وطمس الحقائق التي تكشفها للرأي العام المحلي والدولي، ومحاولة الحد أو القضاء على تأثير الجزيرة بشتى الوسائل العنيفة وغير العنيفة، وهو ما لم تنجح فيه إسرائيل خلال الشهور الماضية.
وقد أظهر مراسلو الجزيرة تصميما هائلا في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية وإصرارا على ممارسة حقهم بكل مسؤولية في إخبار وإعلام الرأي العام بمجريات الحرب، وعزما كبيرا في استمرار التغطية وضمان حق الجمهور في المعلومات والمعرفة.
ويعني التحكم في الرواية الصحفية -من جهة أخرى- فرض الرواية الإسرائيلية والهيمنة على الخطاب العام عن الحرب على غزة ومساراتها وتطوراتها بعدما تمكنت الجزيرة ومنصات أخرى من تحرير الرأي العام العالمي من الدعاية الإسرائيلية التي سادت في خطاب الإعلام الغربي خلال الشهور الثلاثة الأولى من الحرب.
وينذر إغلاق مكاتب الجزيرة أيضا بتداعيات خطيرة لما ستؤول إليه الأوضاع في المنطقة، خاصة الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ يمثّل مؤشرا سلبيا على إمكانية التصعيد الأمني والعسكري الإسرائيلي، والاستمرار في حرب الإبادة الجماعية بأشكالها المختلفة خاصة في رفح، وربما نقل “جريمة الجرائم” إلى ساحات ومناطق خارج الأراضي الفلسطينية.
لذلك، فإن استهداف الجزيرة يشكل محاولة لإبادة الشاهد المستقبلي حتى لا يكون مُوثقا لجرائم الجاني الإسرائيلي وكاشفا لانتهاكاته.