غزة- في سوق نشأ بشكل عشوائي بشارع الوحدة غربي مدينة غزة، ووسط الركام المتناثر على جانبي الشارع، يصطف باعة يعرضون سلعهم، حيث يمكن العثور على ملابس وأحذية وأدوات التنظيف وغيرها من السلع، في حين يجوب المواطنون الشارع ذهابا وإيابا، ويوجهون للتجار سؤالا موحدا “هل يوجد طحين؟”.
يقول الباعة إن ما يعرضونه هو ما تبقى من السلع التي كانت مُخزنة في المتاجر، إذ لا تسمح قوات الاحتلال الإسرائيلية بإدخال أي بضائع إلى القطاع المحاصر.
ويبدو العثور على طعام داخل هذا السوق كاقتفاء أثر إبرة وسط كومة من القش، وإن توفّرت المواد التموينية، فإن أسعارها باهظة جدا، وليست في متناول السكان الذين نفدت مدخراتهم، ويعانون البطالة منذ قرابة 5 أشهر.
وتجبر سياسة التجويع التي تشنها إسرائيل على شمالي قطاع غزة كثيرا من السكان على زيارة الأسواق مرات عديدة خلال اليوم، بحثا عن أي شيء “يمكن أكله”، كما أنها تدفعهم للنزوح إلى جنوب القطاع، وفق ما يراه المراقبون.
ودفع العدوان المستمر على القطاع منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي محكمة العدل الدولية لإصدار قرار يوم 26 يناير/كانون الثاني الماضي يأمر إسرائيل بمنع الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة، وضمان توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية.
وقال المسؤول في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية راميش راجاسينجهام، أمام مجلس الأمن الدولي الثلاثاء الماضي، إن “ما لا يقل عن 576 ألف شخص في القطاع أصبحوا على بعد خطوة واحدة من المجاعة”.
لا طحين
بشكل يومي، يزور رائد العدوي وزوجته السوق بحثا عن طحين القمح، لكن دون جدوى، وفي حال عثر على كميات منه، فإنه لا يقدر على شرائه، إذ يصل سعر الكيلوغرام الواحد منه إلى 150 شيكلا (42 دولارا)، مما اضطره إلى المخاطرة بحياته والتوجّه إلى شارع الرشيد الساحلي، لعلّه يتمكن من الحصول على كيس من الطحين، لكنه لم ينجح في ذلك.
وتسمح إسرائيل التي أحدثت فراغا أمنيا كاملا في شمالي قطاع غزة، بدخول شاحنات قليلة محمّلة بالطحين، لكنها تطلق النار على الفلسطينيين الذين يأتون للحصول عليه، وهو ما جرى في المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال الخميس الماضي، وراح ضحيتها قرابة 118 شخصا، وجُرح المئات ممن حاولوا الحصول على المساعدات.
يقول العدوي، الذي كان برفقة زوجته في سوق الوحدة، للجزيرة نت، إنه يطعم أولاده “أشياء لا تقبل أن تأكلها الدواب”، وتتدخل زوجته قائلة إنهم كانوا في السابق يجدون طحينا رديئا مصنوعا من الذرة والشعير، لكنهم -ورغم سوئه- لم يعودوا يجدونه، وقالت “لم نجد ذرة ولا قمحا ولا شعيرا، ولا شيء بالمرة”.
حمص وخبيزة
بعد أن يأس من العثور على الطحين داخل السوق، قرر المواطن حسام أبو حصيرة شراء علبة من الحمص المطبوخ لإطعام أولاده، ويقول للجزيرة نت إنه يجوب الشوارع والأسواق بحثا عن الطحين بدون فائدة، وحينما يجد القليل منه، لا يستطيع شراءه بسبب ارتفاع ثمنه.
ويذكر أبو حصيرة، وهو أب لـ6 أبناء، أنه اشترى علبة الحمص التي تزن نصف كيلوغرام بـ14 شيكلا (نحو 4 دولارات)، بعد أن كانت في السابق بـ5 شواكل فقط (1.4 دولار) ويضيف “منذ 8 أيام نعيش على الحمص، أو نشتري (نبات) الخبيزة”.
وبغضب شديد، خاطب أبو حصيرة إسرائيل والولايات المتحدة بقوله “لو لديكم بهائم ستطعمونها، نحن (بشر) أكلنا أكل البهائم، ولم يبق شيء نأكله، نحن أرواح، إسرائيل مجبرة على إطعامنا لأننا تحت احتلالها”. ويشير إلى أن إسقاط المساعدات من الطائرات “غير مجدٍ”، فهي قليلة للغاية، ويستفيد منها “الأقوياء” فقط.
لا فواكه أو لحوم
ونظرا لإصابة زوجها وابنها الكبير جراء قصف الاحتلال، اضطرت السيدة رندة اليازجي للذهاب بنفسها إلى السوق، للبحث عن طعام لأسرتها، مصطحبة ابنتها المصابة في رأسها.
ومتفقة مع سابقيها من المواطنين، تقول رندة اليازجي للجزيرة نت إن المواد التموينية نادرة، كما أن الأسعار غالية جدا، وتضيف “أجد معاناة كبيرة جدا في توفير أي لقمة عيش لأولادي، أتمنى من الله أن تنتهي هذه الحرب”.
وتمنت، خلال رحلة بحثها عن الطعام في الأسواق، العثور على خضروات بأسعار مناسبة، فلم تجد سوى أصناف قليلة جدا مثل البصل الأخضر والليمون والخبيزة، أما الفواكه واللحوم فلم ترها في السوق منذ فترة طويلة، وتقول “أكثر شيء أتمناه -كوني أمًا- هو لقمة العيش والطحين”.
المكسرات بديل الطحين
دفعت سياسة التجويع التجار إلى إخراج ما تبقى من المكسرات التي سلمت من آلة الدمار الإسرائيلية من المخازن والحاويات، ودفعوا بها للأسواق كبديل عن الطحين المفقود، لكنّ ارتفاع ثمنها لا يجعلها في متناول جميع السكان.
ويقر البائع رمضان الحلاق بأن أسعار المكسرات مرتفعة، وهو ما يجعلها بديلا مكلفا على المواطنين، ويقول للجزيرة نت إن “المكسرات كانت لفئات معينة ومن أجل التسلية، إلا أنها الآن طعام أساسي بديل عن الطحين، لكنها ليست مشبعة كوجبة، ولا يستطيع جميع الناس شراءها”.
إرادة العمل
قبل الحرب، كان عبد القادر مرشد يمتلك متجرا لبيع أدوات التنظيف وإكسسوارات المنازل، لكن متجره تعرض للقصف والتدمير، فقرر مؤخرا استخراج ما تبقى من بضاعة في محله المدمر، وعرضها للبيع على أحد أرصفة سوق شارع الوحدة، بهدف توفير مصدر دخل لأسرته.
وبينما يشير مرشد إلى القارورات الملونة المملوءة بأدوات التنظيف، قال للجزيرة نت “هذه البضاعة هي التي تبقت من متجري الذي تعرض للقصف”، ونظرا لخلو بسطته من أي نوع من الطعام، فإنه لا يبيع كثيرا من السلع، ولا يحقق ربحا جيدا.
ويعلق على ذلك بقوله “ناس قليلة تشتري مني، لأن الناس تبحث عن الأكل والشرب وعن الطحين، فقدان الطعام دفع الناس لأكل طعام الحيوانات”.
لكن مرشد يصر على الاستمرار في عمله رغم قلة البيع والأرباح، معتبرا أن ذلك “أفضل من الجلوس في المنزل بلا عمل”.