القدس المحتلة – بدت الأحياء القديمة جنوب تل أبيب، مدينة أشباح يخيم عليها صمت قاتل، وهو ما يعكس حالة التوتر والمستقبل المبهم الذي تعيشه المنطقة عقب الصدامات بين الشرطة الإسرائيلية وآلاف من اللاجئين الأفارقة من أصول إريترية.
وعقب الاشتباكات، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو نيته ترحيل المهاجرين الأفارقة، وقال نتنياهو -خلال اجتماع مع لجنة وزارية معنية بشؤون الهجرة أمس الأحد- إنه “تم تجاوز الخط الأحمر.. أعمال شغب.. حمام دم.. هذا غير قانوني ولا يمكننا قبوله”، ووجّه بإعداد خطة شاملة لترحيل كل المهاجرين الأفارقة.
ويبلغ عدد اللاجئين الأفارقة في إسرائيل 50 ألفا، بعد أن استقروا في الفترة (2006 – 2012)، حسب بيانات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، وذلك قبل أن تقوم ببناء جدار على طول حدودها مع مصر لمنع “تسلل طالبي اللجوء والعمال المهاجرين من أفريقيا”.
وقدرت إحصاءات وزارة الداخلية الإسرائيلية أن حوالي 120 ألف لاجئ من أفريقيا دخلوا البلاد في العقدين الأخيرين، حيث تم ترحيل أكثر من نصفهم بعد رفض طلبات اللجوء وإجبارهم على قبول الهجرة الطوعية مقابل 3500 دولار والانتقال لبلد ثالث أو السجن، بينما تم منح إقامة مؤقتة لمن تبقى، تتجدد كل 3 أشهر.
مدينة أشباح
وسط جنوب تل أبيب، بدت الطرقات -على غير العادة- شبه خالية سواء من اللاجئين الأفارقة، أو من تبقى من اليهود بالمكان وباتوا أقلية.
فقد تحولت المنطقة، السبت، إلى ساحة حرب خلفت 171 جريحا في صفوف اللاجئين الإريتريين بينهم 16 في حالة خطيرة جدا، أصيبوا بالرصاص الحي للشرطة التي اعتقلت 40 لاجئا.
ما حصل في جنوب تل أبيب لم يفاجئ كثيرا من الإسرائيليين، الذين يرون أن المنطقة تحولت إلى مستنقع للعنف والجريمة يتم تجميع اللاجئين الأفارقة فيها.
وأشار معهد “دراسة الأمن الشخصي والمرونة المجتمعية” التابع للكلية الأكاديمية، إلى إن جنوب تل أبيب يتصدر المخالفات الجنائية ومعدلات العنف والجريمة بواقع 7% من إجمالي الجرائم في البلدات الإسرائيلية.
احذروا؛ إنه صحفي
وعلى وقع الصدامات والموجهات، انطلقت ومرافقي سائق سيارة الأجرة، إلى حيث يتجمع آلاف اللاجئين الأفارقة في الساحة الخلفية لعاصمة إسرائيل التجارية والاقتصادية.
ووسط الحالة الضبابية التي تغلف مصير اللاجئين الأفارقة بعد صدامات السبت، طلبت من مرافقي أن يخفف السرعة لتوثيق المشاهد التي غلب عليها التوتر وحالة الغليان التي تخفيها جدران المنازل التي يقطنها اللاجئون، وغالبيتهم من أصول إريترية وسودانية وإثيوبية.
طالبني السائق بتوخي الحذر وإخفاء الكاميرا ونصحني بعدم النزول من السيارة، قائلا إن اللاجئين الأفارقة “يخشون الكاميرات ولا يهابون سلاح الشرطة الإسرائيلية، هم يسيطرون على جنوب تل أبيب وكأنهم أصحاب السيادة”.
وأضاف “المنطقة شهدت صدامات لم تعهدها بالسابق تل أبيب، وهو ما أدخل الخوف والرعب في قلوب سكانها اليهود”.
كسرت حاجز الخوف وترجلت من السيارة، وحاولت تبادل أطراف الحديث مع بعض طالبي اللجوء من إريتريا، الذين التزموا الصمت وسارعوا للاختفاء عن الأنظار وعدم الاكتراث لسؤالي: “كيف وضعكم بعد المواجهات والصدامات؟”.
اتجهت إلى مقهى صغير وقديم، فسمعت صوتا عاليا “احذروا؛ إنه صحفي..”، بعضهم تنحى جانبا عن الطريق وقدحت عيناه شررا، في نظرة بعثت من خلالها رسائل متعددة، تلخص السياسات العنصرية والتمييزية التي تنتهجها ضدهم حكومات إسرائيل المتعاقبة منذ عقدين، حيث حطت بهم مسِيرة التشريد في البلاد بعد أن دخلوها عبر شبه جزيرة سيناء.
اقتربت من محطة للحافلات، حيث جاش في داخلي شعور بالطمأنينة حين رأيت امرأة سودانية مع أطفالها، وعائلة أخرى من أصول إريترية.
تبادلت أطراف الحديث مع العائلتين خلال دقائق انتظار الحافلة للعودة للمنزل المستأجر الذي لا تتعدى مساحته 80 مترا ويقطنه 15 من اللاجئين.
مخيم كبير للاجئين
سردت أمل (اسم مستعار) من إقليم دارفور للجزيرة نت تجربتها في البلاد الممتدة إلى 15 عاما، قائلة إن “جنوب تل أبيب هجره غالبية اليهود بعد أن تحولت المنطقة إلى مخيم كبير للاجئين”.
تعيش أمل مع زوجها وأطفالها الأربعة بلا امتيازات ولا حقوق، وبظروف اجتماعية واقتصادية مزرية، وفقر مدقع عمقته الإقامة المؤقتة التي تمهد للترحيل القسري.
وقالت إنها تعرفت على زوجها في جنوب تل أبيب، حيث يحرم أولادهما من الإقامة الدائمة، حسب ما ينص عليه القانون الإسرائيلي.
استمعت بهدوء لحديث أمل وزوجها أحمد (اسم مستعار) الذي تحدث عن استغلاله في العمل، حيث يعمل 16 ساعة لكسب لقمة عيشه، وكثيرا ما كان يتم استغلاله وطرده من العمل دون تقاضي مستحقاته.
تفرض السلطات الإسرائيلية عليه وعلى غيره من طالبي اللجوء الأفارقة، ضريبة دخل تصل إلى 20% من قيمة المعاش الشهري الذي لا يتعدى ألف دولار، بينما تحرم العائلات من الخدمات الاجتماعية والصحية، وتخصص المدارس في جنوب تل أبيب صفوفها الخالية من الطلبة الإسرائيليين لصالح الطلاب من اللاجئين الأفارقة.
وتصنف السلطات في إسرائيل الكثير من طالبي اللجوء أنهم “مهاجرون اقتصاديون” ولا يتم قبول طلبات اللجوء إلا في حالات نادرة، قائلة إنها ليست ملزمة قانونا باستضافتهم، على الرغم من القوانين الدولية.
شرارة الخلافات
على جانبي الشارع الرئيسي المتجه لمحطة الحافلات المركزية القديمة كانت المنطقة هادئة، فلا يعكر هذا الصمت سوى هدير محركات بعض المركبات والحافلات العامة والدرجات النارية لبعض الفضوليين الذين كسروا حاجز الخوف وقدموا إلى جنوب تل أبيب، لتفقد حجم الخسائر والأضرار التي سارعت البلدية بإزالتها لتظهر وكأن الحياة في جنوب تل أبيب عادت إلى طبيعتها.
لكن في شارع “ياد هحروتسيم” المتفرع من المحطة المركزية القديمة والمتجه نحو شارع “ألينبي”، بدت الأضرار واضحة على العديد من المحال التجارية، فضلا عن القاعة التي استضافت الفعالية التي نظمتها سفارة إريتريا في تل أبيب بمناسبة ذكرى بداية “الكفاح المسلح” ضد الحكومة الإثيوبية.
تحولت هذه الفعالية إلى الشرارة التي أشعلت التباين في نظام بلادهم، حيث فجرت غضب آلاف طالبي اللجوء الإريتريين الذي اعتبروا الفعالية ترويجا لنظام حكم الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، علما بأن نحو 18 ألف لاجئ من أصول إريترية يقيمون بإسرائيل إضافة إلى 32 ألف لاجئ من السودان ودارفور وإثيوبيا.
وتوافد إلى الموقع مئات من معارضي الحكومة الإريترية للحيلولة دون تنظيم الحدث، واندلعت اشتباكات وأعمال شغب بين المؤيدين والمعارضين، قبل أن تتدخل قوات الأمن التي عدّت التجمع مظاهرة غير مرخص لها، وأمرت بإخلاء الشارع.
دولة داخل دولة
قبل أن أغادر مدخل أحد الأزقة وأصل إلى موقف السيارات المؤدي إلى شارع “همسجير”، حيث كان السائق بانتظاري، فاجئني لاجئ يستقل دراجة هوائية وقد اعترض الطريق، ويبدو أنه كان يرصد تحركاتي.
سألني بنبرة غضب وبلغة عبرية ركيكة “ماذا صورت؟، أرني الصور.. احذفها”. شرحت له أنني التقطت صورا عامة وليست صورا لأشخاص. لم يقتنع بالصور التي عرضتها عليه عبر شاشة الكاميرا، وظل مصرا على طلبه.
لكن ما هي إلا لحظات، حتى تجمهر من حولي عشرات اللاجئين الأفارقة، غالبيتهم يجيدون اللغة العربية، حيث خرجوا من منازلهم التي تحصنوا بها خشية من تداعيات الصدامات والاعتقالات، منهم من اعتدى علي جسديا، وبعضهم حاول تحطيم الكاميرا وإتلاف عدستها.
استمر هذا السجال المصحوب بالاعتداء أيضا قرابة 20 دقيقة، حيث اخترق الحشود من حولي لاجئا يتحدث العبرية بطلاقة، قائلا “إنك تخاطر، كيف لك الدخول والتجوال هنا بين اللاجئين، فهذه منطقة نفوذهم ولا يدخلها أحد غريب”.
طلب مني حذف الصور، وأجبته بأنني سأقوم بذلك لكنهم يواصلون الاعتداء علي ويمنعونني من ذلك. فرقهم وأبعدهم عني وحذفت مجلد الصور من الكاميرا، وبعد أن تأكدوا من ذلك أخلوا سبيلي.
وكنت قد وافقت على حذفها بلا تردد لأنني كنت متأكدا بأنه سأقوم باسترجاعها من الشريحة الذكية للكاميرا، وهو ما حصل فعلا.
في نهاية المطاف، عدت إلى مرافقي الذي كان يرقب ما حصل عن بعد، قائلا “لقد حذرتك.. هنا دولة داخل دولة”.