الجزيرة نت – بكل هدوء يدخل قيس السعدي، الأسير الفلسطيني المحرر وأحد قادة كتائب القسام -الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)- في الضفة الغربية، لمحل ملابس في حي الهدف بمخيم جنين، لكن هذا الهدوء سيتحول إلى صخب واشتباكات ضارية مع ظهور عناصر من جاهز الأمن الوقائي التابع للسلطة الفلسطينية.
وبالرجوع إلى كاميرات المراقبة التي وثقت ما حدث، فقد حاول العشرات من عناصر أمن السلطة اقتحام محل الملابس واعتقال المقاوم السعدي، الذي تفطن في اللحظات الأخيرة وانطلق يعدو للهرب من مطارديه، لكن أفرد الأمن الوقائي سارعوا لإطلاق النار عليه. وأصيب السعدي بجروح متوسطة، بيد أنه تمكن من الفرار.
تغطية صحفية: لحظة إطلاق الأجهزة الأمنية الفلسطينية النار تجاه المطارد والأسير المحرر قيس السعدي خلال ملاحقته ومحاولة اعتقاله في حي الهدف بمحيط مخيم جنين. pic.twitter.com/zcZofGLQd0
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) March 2, 2024
وفور انتشار الخبر، سارع العشرات من عناصر المقاومة الفلسطينية داخل المخيم لنجدة أحد قادتهم، لتندلع اشتباكات بين أجهزة الأمن الفلسطينية والمقاومين الفلسطينيين في مخيم جنين امتدت لعدة ساعات.
والسعدي الذي نجا من محاولة الاعتقال “الفلسطينية”، هو أحد أبرز المطاردين من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ إطلاق سراحه عام 2021، كما نجا من محاولات اغتيال إسرائيلية عدة.
وهذه الاشتباكات ليست الأولى من نوعها، إذ وقعت اشتباكات بين المقاومين وأمن السلطة الشهر الماضي في مدينة طوباس شمالي الضفة عندما خرج المقاومون إلى شوارع المدينة للتصدي لاقتحام متوقع من قوات الاحتلال للمدينة بعد رصد قوة عسكرية إسرائيلية في المنطقة، لكنهم تفاجؤوا بملاحقتهم من قبل عناصر الأمن الفلسطينية، مما أدى إلى اندلاع اشتباكات بينهم.
تغطية صحفية: مخيم جنين: لحظة وصول خبر محاولة اعتقال الأجهزة الأمنية الفلسطينية للمطارد قيس السعدي بمحيط المخيم. pic.twitter.com/9XgtqJI8OA
— شبكة قدس الإخبارية (@qudsn) March 2, 2024
وفي مطلع يناير/كانون الثاني الماضي، اتهمت كتيبة جنين التابعة لسرايا القدس -الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي– الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة باغتيال المقاوميْن أحمد هاشم عبيدي وبهاء الكعكبان.
وأضافت السرايا أن فصائل المقاومة في جنين تتجنب الصدام مع عناصر السلطة الفلسطينية، لكنهم لم يتوقفوا عن ملاحقة المقاومين وإطلاق النار عليهم.
وتأتي هذه الاشتباكات والاعتقالات بالتزامن مع حرب إسرائيلية على قطاع غزة خلفت أكثر من 30 ألف شهيد، ومع حملة إسرائيلية ضد الضفة الغربية أدت لاستشهاد 445 فلسطينيا واعتقال 7500، بينهم نساء وأطفال.
وتعتقل أجهزة السلطة في الضفة المحتلة -وفق بيانات حقوقية- أكثر من 150 مواطنا فلسطينيا، بينهم مقاومون ومطاردون من قبل الاحتلال وطلبة جامعات وأسرى محررون ودعاة وكتاب وصحفيون، وترفض الأجهزة الإفراج عنهم، رغم صدور قرارات قضائية بالإفراج عنهم أكثر من مرة.
فكيف تحولت الأجهزة الأمنية الفلسطينية من المشاركة في المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي خلال انتفاضة الأقصى عام 2001 إلى ملاحقة المقاومة الفلسطينية واعتقال عناصرها بالضفة في آخر 18 عاما؟
تنسيق مشترك
“للأسف الشديد في وقت تتشكل فيه غرفة عمليات في وزارة الأمن القومي الإسرائيلي التي يقودها اليميني المتطرف إيتمار بن غفير، لوضع خطط للقضاء على المقاومة في الضفة الغربية ووقف عملياتها خلال شهر رمضان المبارك، تسارع كافة القطاعات داخل أجهزة الأمن الوطنية الفلسطينية للمشاركة فيها”، كما يقول الباحث في العلاقات الدولية والدراسات الإستراتيجية عبد الله العقرباوي تعليقا على اشتباكات جنين.
ويضيف العقرباوي للجزيرة نت أن أجهزة أمن السلطة كثفت في الفترة الأخيرة من عمليات ملاحقة المقاومة الفلسطينية في الضفة، وكانت محاولة اعتقال قيس السعدي والاشتباك مع المقاومة في جنين لتضع الأمور في سياقها الأكثر وضوحا.
ويعتقد الباحث الفلسطيني أن الأجهزة الأمنية تنفذ التوجهات السياسية للسلطة الفلسطينية، فرغم كل ما قامت به إسرائيل من إبادة جماعية في قطاع غزة ومن استهداف وقتل في الضفة الغربية التي يقترب عدد الشهداء فيها من 450 منذ طوفان الأقصى، فإن السلطة لم تغادر مربع المراهنة على مسار المفاوضات غير الموجود وغير الفعال والالتزام بالتنسيق الأمني مع الاحتلال.
وأردف “السلطة خلال 30 عاما التي تلت التوقيع على اتفاقية أسلو أسقطت من يدها كل الخيارات الأخرى التي يمكن للفلسطيني أن يستخدمها، وزاد ذلك بعد استشهاد الرئيس ياسر عرفات، وتصدر قيادات فلسطينية لا تؤمن بالمقاومة، والتي سلمت مهمة تشكيل العقيدة القتالية للجنرال الأميركي كيث دايتون”.
ويضيف العقرباوي أن دايتون نجح في ترسيخ عقيدة أمنية داخل الأجهزة الأمنية تكره المقاومة وتعتبرها سببا لجميع المصائب التي حلت على الشعب الفلسطيني.
ولفت إلى أن السلطة الفلسطينية تواجه في الوقت الحالي 3 أزمات رئيسية، وهي انسداد الأفق السياسي وأزمة اقتصادية وأزمة تراجع الشعبية، وهي تخشى أن أي انتفاضة ضد الاحتلال في الضفة لأنها ربطت مصالحها الأمنية والسياسية ووجودها بالاحتلال الإسرائيلي.
وتابع العقرباوي “السلطة تحاول أن تنقذ نفسها عبر تقديم المزيد من التنازلات لتثبت للولايات المتحدة الأميركية أنها متمسكة برفض المقاومة وملتزمة بعملية السلام مع إسرائيل، ومستعدة لتكون بديلا مناسبا لحركة حماس في حكم قطاع غزة، لكنها لا تدرك أن هذه التصرفات تغضب الشعب الفلسطيني الذي لن يقبل طويلا تشكيل جيش لحد في الضفة الغربية”.
نقطة تحول
وفي دراسة بعنوان “النضال الفلسطيني في الضفة الغربية وتحدي المأسسة الأمنية”، يقول الباحث السياسي الفلسطيني محمود جرابعة إن اتفاقيات أوسلو الموقعة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية عام 1993 شكلت نقطة تحول في تاريخ النضال الوطني الفلسطيني.
ويضيف جرابعة، في الدراسة التي نشرها مركز الجزيرة للدراسات، أن عرفات اختار بعد حرب الخليج الثانية (1990-1991) وتراجع الدعم العربي وتراكم الضغط الدولي، اللجوء إلى “خيار السلام” مع إسرائيل كبديل عن الكفاح المسلح.
ويؤكد أن اتفاقات أوسلو ألزمت السلطة الفلسطينية بالتعاون مع الإسرائيليين في إطار “سلام أمني”، وذلك عن طريق المشاركة الاستخبارية المكثفة والتنسيق الأمني ومنع عمليات المقاومة ضد إسرائيل.
ويضيف أن السلطة حرصت على الالتزام بالتفاهمات الأمنية لكي “لا تشكِّل ذريعة” لإسرائيل للتملص من الاتفاقات السياسية، وقامت على إثر ذلك باعتقالات شملت بشكل خاص ناشطي حركة حماس وقادتها، بلغت ذروتها عام 1996 عندما اعتقلت السلطة حوالي 2000 من قادة ونشطاء الحركة في قطاع غزة والضفة الغربية.
وتابع محمود جرابعة “مع فشل عملية السلام واستمرار إسرائيل في سياساتها التوسعية، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية أو ما يطلق عليها انتفاضة الأقصى في سبتمبر/أيلول 2000 بدعم من عرفات، وشاركت الأجهزة الأمنية في المقاومة المسلحة، الأمر الذي دفع إسرائيل لاجتياح الضفة الغربية، وتدمير جميع مقرات الأجهزة الأمنية ومحاصرة ياسر عرفات حتى وفاته عام 2014”.
ومع وصول الرئيس محمود عباس لرئاسة السلطة الفلسطينية عام 2005، بدأت عملية لإعادة هيكلة أجهزة أمن السلطة الفلسطينية تحت إشراف الجنرال الأميركي كيث دايتون، بحيث تعمل على إحباط الهجمات الفلسطينية على إسرائيل، وتفكيك البنية العسكرية ومصادرة سلاح المقاومة في الضفة وغزة.
ويضيف جرابعة أن محمود عباس يعتقد أن المقاومة المسلحة أو الانتفاضة الشعبية لن تؤديا إلا إلى المزيد من الدمار والآثار الكارثية على المجتمع والسياسة الفلسطينية، وبالتالي تمسك بإستراتيجيته القائمة على المفاوضات كطريق وحيد للوصول إلى إقامة دولة فلسطينية.
ويؤكد أنه منذ الانقسام الفلسطيني في عام 2007، اتبعت السلطة الفلسطينية إستراتيجية “صفر تسامح” مع كافة أشكال النضال في الضفة الغربية والتي لا تتفق مع رؤيتها، وذلك بهدف تجفيف المقاومة وقمعها قبل تشكلها أو تحولها إلى حركات جماهيرية واسعة يمكن أن تتحدى السلطة أو تؤدي إلى إسقاطها.
وبناء على التنسيق الأمني، تسهل السلطة الفلسطينية، كما يقول جرابعة، في كثير من الأحيان دخول الجيش الإسرائيلي إلى المناطق الخاضعة لسيطرتها من أجل تنفيذ عمليات اعتقال أو اغتيال للنشطاء الفلسطينيين، كما يتبع الطرفان ما يطلق عليها “سياسة الباب الدوار”، حيث يجري اعتقال الفلسطينيين من قبل الجيش الإسرائيلي فور إطلاق سراحهم من سجون السلطة الفلسطينية، أو العكس.