في انتخابات الكونغرس التمهيدية لعام 2024، اتصل العضو الحالي جمال بومان -الذي يُمثّل المقاطعة 16 في ولاية نيويورك- بأحد الفاعلين المسلمين في السياسة الأميركية، الذي فضَّل عدم الكشف عن اسمه، وأخبره عن حاجته إلى دعم المسلمين ماديا وإعلاميا كي يتمكن من الفوز مرةً أخرى بمقعده في مجلس النواب.
انبرى الناشطُ يحثّ مَن حوله من رجال الأعمال والأطباء والمهندسين وغيرهم من الميسورين ماليا لتقديم ما تجود به أموالهم لدعم بومان، الذي دعا بوضوح لإيقاف الحرب الإسرائيلية، ووقف الدعم العسكري الأميركي لجيش الاحتلال.
كان بومان ممن تجرؤوا منذ اللحظة الأولى للحرب على الإعلان عن موقفه الذي عدّه “منطقيا وعادلا”، ولم يكن كذلك بالنسبة للوبي الداعم لإسرائيل، الذي أشهر أسلحته وشن هجوما شرسا لتشويه بومان ورفاقه الآخرين ممن دعموا وقف إطلاق النار، وسعوا لإفشالهم في الانتخابات التمهيدية الأخيرة للحزب الديمقراطي.
ما حصل أن صاحبنا، الناشط السياسي، لم يستطع أن يجمع أكثر من 20 ألف دولار، بعضها دفعه من جيبه، فعدد ممن تحدث إليهم دفعوا 100-150 دولارا استجابة لطلبه، ومَن تكرّم كثيرا دفع 1000 دولار، حدّ وصفه.
على الجهة المقابلة، ولقياس الفارق، أشارت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية إلى أن اللجنة الأميركية للشؤون العامة الإسرائيلية (أيباك) دفعت ما يزيد على 14 مليون دولار للتأكد من خسارة بومان، ووُصف هذا المقعد بأنه أحد أغلى مقاعد مجلس النواب في تاريخ الانتخابات التمهيدية.
خسر بومان بالفعل لصالح المرشح الذي دعمته الأيباك وهو جورج لاتيمر. قصة شبيهة أخرى حدثت مع النائبة عن الحزب الديمقراطي في ولاية ميزوري كوري بوش، بعدما صرفت الأيباك مبلغا فاق 8 ملايين دولار، بحسب موقع “الإنترسبت”، لصالح مرشحها ويسلي بيل.
هذا هو المال السياسي، وهذا ما يفعله. صحيح أن هذه الإستراتيجية لم تنجح مع رشيدة طليب وإلهان عمر، في ولايتَيْ ميشيغان ومينيسوتا على الترتيب، لمجموعة عوامل رجَّحت كفتيهما، لكن ذلك لا ينفي أثر المال السياسي.
أثر المال السياسي
يُعدّ المال السياسي أحد أكثر العوامل تأثيرا في السياسة الأميركية، وقطعا ليس المال وحده هو عامل الحسم، بل يصحبه مجموعة من العوامل والمحددات المهمة التي تصوغ الناتج النهائي. لكن المال السياسي في الوقت ذاته عامل لا يمكن التحرك من دونه، وقد وعت الشركات والمؤسسات وأصحاب المصالح السياسية هذه المعادلة باكرا، فانخرطوا فيها بقوة.
يحضر هنا للمثال لا الحصر اسم الملياردير الأميركي اليهودي المُتوفّى شيلدون أديلسون، إمبراطور القمار كما يُلقب في أميركا، وهو الذي رحل عن هذا العالم بثروة تقارب الـ40 مليار دولار. حضر اسم أديلسون بجلاء في عالمنا العربيّ، بعد أن كان مجاورا للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لحظة نقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس عام 2018. كان هذا التجاور نتيجة 40 مليون دولار دعم أديلسون بها ترامب في حملته الرئاسية الأولى شرط تحقيق هذا الطلب: نقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس.
ما الذي تعنيه الـ40 مليون دولار عند أديلسون الذي يمتلك صالات للقمار حول العالم؟
نشرت مجلة “فوربس” أن في عام 2013، كان شيلدون أديلسون يحقق 41 مليون دولار في اليوم الواحد، أي إن هذا القرار، بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، الذي أحدث ضجة عالمية، وأجَّج مشاعر ملايين المسلمين حول العالم، كان ثمنه أموال يوم واحد لأديلسون.
وفاة شيلدون لم تُوقف أثر ثروته، ففي الانتخابات الرئاسية الحالية لعام 2024، خرجت أرملته ميريام -التي كانت وريثة أمواله، وخلفته في منصب الرئيس التنفيذي لشركة “لاس فيغاس ساندز” التي تدير صالات القمار حول العالم- لتعرض على الرئيس الأميركي السابق ترامب أن تكون أكبر متبرعة له في حملته الحالية، بمبلغ قدره 100 مليون دولار، شريطة قبوله ضم إسرائيل إلى الضفة الغربية حال فوزه.
وعَى داعمو إسرائيل هذه الأهمية مبكرا، فرغم أن عدد اليهود في أميركا لا يتجاوز 6 ملايين نسمة، أي لا يتعدى 2% من عدد السكان الإجمالي للبلاد، كما أن معظمهم موجودون في ولايات محسومة مسبقا، مثل نيويورك ونيوجيرسي اللتين تصوتان عادة للحزب الديمقراطي، هذا بخلاف اليهود الذين لا يدعمون إسرائيل ويرون فيها دولة احتلال، وهم مَن شهد العالم مشاركتهم في المظاهرات الداعمة لفلسطين في مختلف الولايات والمدن الأميركية.
رغم كل ذلك، فاللوبي الداعم لإسرائيل يُعد أحد أكثر اللوبيات النافذة في السياسة الأميركية، ومرد ذلك عائد إلى الفهم المشترك لدى داعمي إسرائيل بأهمية توظيف المال السياسي نحو هدف واحد، وهو تحقيق مصلحة إسرائيل أولا.
أحد العوامل الأخرى المهمة في فهم قوة اللوبي الداعم لإسرائيل، بالمقارنة مع حجم وتأثير المسلمين سياسيا، هو تجذر العائلات اليهودية الداعمة لإسرائيل منذ النشأة الأولى لأميركا مع الهجرات الأوروبية إليها، وهو ما أتاح لهم بناء شبكة علاقات واسعة امتدت للاقتصاد والسياسة، وانعكست على فهم الواقع الاجتماعي الأميركي، ما مكنهم مبكرا الدخول في نسيج صناعة القرار، بينما العرب والمسلمون حديثو عهد إذا ما قورنوا بالمستوطنين الأوائل للأرض الأميركية.
ناهيك بمجموعة من العوامل الأخرى المتشابكة التي يتضافر تأثيرها الجزئي ليُشكِّل الصورة الكاملة، مثل الأبعاد الدينية، والبعد الاستعماري القائم على تشابه نموذجَيْ تأسيس أميركا وإسرائيل، وعامل التعاون الاستخباري والعسكري الوثيق.
تفكيك المأزق
ابتداءً، يمكنك أن تستشعر حجم تأثير الطوفان على نقاشات السياسة التي لم تكن حاضرة في جلسات عموم المسلمين. لحظة تاريخية كهذه، لم تُعِد فقط شريحة من العرب والمسلمين إلى مساحة التأثير والفاعلية، لكنها ضمّت شرائح أخرى من منابتَ مختلفة تتضامن مع القضية الفلسطينية وترفض ما كان يُصنَّف في حكم الثابت في المعادلة الأميركية، أي الرواية الإسرائيلية.
وبصورة أعم، خلق هذا الواقع أرضية يرى كثير من المسلمين العاملين في السياسة بأميركا أهمية استثمارها، لأنها تضم كتلا أخرى يمكن أن تضاف إلى رصيد التأثير السياسي.
رغم كل ذلك، يقول الدكتور أسامة أبو ارشيد، مدير مؤسسة “أميركيون مسلمون لأجل فلسطين”، في حديثه للجزيرة نت إن فاعلية المسلمين السياسية لم ترقَ بعد لحجم الدماء، ولا لحجم ما يمكن القيام به وفق مساحات العمل التي يمكن التأثير فيها بفاعلية.
هذا الضعف في الفاعلية يُمكن فهمه وفق عدة أبعاد:
أولا: حداثة العرب والمسلمين على الأرض الأميركية كما أشرنا مقارنة بغيرهم.
ثانيا: الحديث عن المسلمين بوصفهم وحدة واحدة يحمل نظرة غير دقيقة للواقع وتشكّلاته، فهذا النسيج المسلم يتكون من جنسيات لها تصورات عدّة حول واقعها وأولوياتها، فالباكستاني يختلف عن الصومالي، واليمني يختلف عن المصري، وهكذا. لذلك يرى الإمام عبد المالك، وهو أميركي ذو أصول أفريقية وأسلم وعمره 15 عاما قبل أن يغير اسمه، أن على المسلمين أن ينظروا لأنفسهم بصفتهم مسلمين، وكتلة واحدة، عوضا عن أن يُفكّر كل قُطر في ذاته، فينفرد العدو بنا واحدا تلو الآخر كما يحكي للجزيرة نت.
وقد انعكس هذا التشتت في بعض جوانبه على العمل السياسي عبر اختلاف الأهداف والأجندة، مما يجعل من الجهود السياسية غير مركزة ومؤثرة تأثيرا فاعلا إن حضرت.
ثالثا: هذا التنوع في الأصول وحداثة العهد في السياسة جعلا عددا من المسلمين غير منخرطين أصلا في العملية السياسية، ولا يعدون الانتخاب أمرا فارقا ومؤثرا. ويعود ذلك في الغالب لضعف المشاركة والانخراط في الأعمال السياسية في البلدان التي جاؤوا منها، فالسياسة مكان محظور في كثير من الدول العربية، كما أنه يُمثِّل شكلا من أشكال الرفاهية لمهاجرين جاؤوا لتحصيل لقمة معيشتهم، وللاجئين كانت أقصى أحلامهم أن يجدوا مأوى آمن لأطفالهم وفرصة لعيش كريم.
رابعا: الملاحقات الأمنية التي طالت المسلمين بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وقانون باتريوت أكت الذي جعل كثيرا من المسلمين على قائمة الترقب الأمنية، وقد شكَّل هذا الحدث حاجزا من الخوف للانخراط الفاعل في السياسة.
خامسا: فهم عموم المسلمين لأموال الصدقات يتركز في العمل الخيري والدعوي المباشر، ولا يُنظر للمال الذي يُصرف على السياسة بأنه مال صدقة، لذلك ترى المسلمين يُقْدِمون على التبرع بأموال طائلة لخدمة المساجد، بينما لا يرون العمل السياسي ذا قيمة تُقارب أو تكافئ الأجر المرجو.
سادسا: المسلمون والعرب بعمومهم لا يتعاملون مع السياسة باعتبارها ضرورة تنعكس آثارها عليهم أولا قبل أن تنعكس على بلادهم الأصلية، وبالتالي فإن ثمة افتراضا وتوقعا أن يكون المنخرطون في الأعمال السياسية والجماهيرية متطوعين، لا متفرغين ومتخصصين، وهذا الافتراض قلَّل من أهمية التعاطي بجدية مع كل ما هو سياسي.
سابعا: توقع النتائج السريعة ومن ثم الانقلاب على أي حالة عدم نجاح بدعم مرشح معين، وخسارته، أو انقلاب ذلك السياسي على مواقفه الأولى التي استقطب بها المسلمين، ومن ثم تسري حالة من الإحباط بانعدام جدوى العمل السياسي. في حين أن العمل السياسي في جوهره هو عمل طويل الأمد، وبناء متراكم، والنجاحات فيه تُقاس بالنقاط.
كل تلك العوامل شكَّلت المشهد السياسي لسنوات خلت، وما زالت بعض آثارها قائمة. لكن تلك الطبقات من “المآزق” بدأ في تفكيكها عدد من رعيل الجيل الأول من المهاجرين بمحاولة فتح مسارات عمل سياسي شاقة، رأوها أمرا أساسيا وجوهريا لن ينعكس فقط على السياسة الأميركية الخارجية، بل سيكون له انعكاسات مباشرة على حقوق وأصوات العرب والمسلمين داخل أميركا ذاتها.
أما ما زاد الفرص والممكنات فقد تَمثَّل في صعود الجيل الثاني، وربما الثالث، من أبناء العرب والمسلمين المهاجرين الذين وُلدوا في أميركا وتشرّبوا ثقافتها بالتوازي مع الحفاظ على جذورهم وانتماءاتهم، وهم الذين ظهر صوتهم عاليا في شوارع وجامعات أميركا إثر العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني والدعم الأميركي لتلك الحرب.
وتقاطع هذا الحراك الفاعل مع تنامي الصوت المعارض للسياسة الإسرائيلية داخل أميركا من مختلف الأطياف، وهو ما دفع اللوبي الداعم لإسرائيل لاستشعار خطر هذا الحراك، ومحاولة تشويهه بكل الوسائل الممكنة، الأمر الذي ولّد على الطرف الآخر زيادة في الوعي السياسي وأهمية الانخراط في الفضاء العام.
مال المسلمين السياسي والخروج من المأزق
في إحدى حلقات جسر بودكاست بعنوان “تفكيك السردية الصهيونية”، استضاف الإعلامي خير الدين الجابري الدكتور نايف بن نهار، الأكاديمي القطري، ومدير مركز ابن خلدون للعلوم الاجتماعية والإنسانية في جامعة قطر، وذكر بن نهار خلال الحلقة إحصائية وردت في دراسة لجامعة إنديانا الأميركية حول زكاة المسلمين، التي قُدِّرت بـ1.8 مليار دولار في عام واحد.
عدتُ للدراسة الأصلية لأَسْتَبين تفاصيلها، وإضافةً إلى الرقم المذكور، وصفت الدراسة صرف المسلمين على الزكاة بالسخيّ، فمتوسط مبالغ الزكاة للفرد المسلم الواحد في أميركا هو 2070 دولارا للفرد.
تستعرض الدراسة أيضا طبيعة توزيع الزكاة بين الجنسين وبين الأعمار المختلفة، وحتى بين “الأعراق”، وما كان لافتا أيضا فيها أن ثاني أكثر فئة ضمن الأعمار التي تدفع زكاة مالها هي الفئة العمرية ما بين 18-29 عاما، بمتوسط 2298 دولارا للفرد.
تفتح هذه المعلومات بابا واسعا، بل أبوابا. خلال السنتين الماضيتين، حضرتُ عددا من جلسات جمع التبرعات، في مساجد عدة في ولايات مختلفة، وكان واضحا ما أشارت إليه الدراسة من “سخاء المسلمين” في التبرع للمساجد، سواء كان ذلك من أموال الزكاة، أو بوصفها صدقات.
فكما هو معلوم، ليس ثمة جهة مركزية تُموِّل المساجد في أميركا، والغرب عموما، كما وزارات الأوقاف في البلدان العربية، بل يأتي تمويلها وتشغيلها وإدارتها من المسلمين أنفسهم. أما ما لم تعرضه دراسة جامعة إنديانا، وربما لم يُعرَض في أي دراسة أخرى، فهي أموال الصدقات التي يجود بها المسلمون لإقامة المساجد والمدارس الإسلامية، وهو رقم سيتجاوز بكثير حاجز المليارَيْ دولار سنويا التي تُحسب بوصفها أموال زكاة.
أما النافذة التي يفتحها الوعي بهذا الرقم فتشبه كثيرا التذكير بفلسفة الطوفان الأولى، فالفكرة ليست بما يمتلكه الفرد وحده، ولا ما تمتلكه دولة وحدها من تقنيات أحدث وأكثر تدميرا، ولكنها ترتكز على قوة المجموع والقيم التي يستند إليها وينطلق منها نحو هدف مشترك.
فعملية الطوفان بُنيت على مجموعة متزامنة من الأفعال المؤثرة الصغيرة التي أنتجت مشهدا كُليا مؤثرا وفاعلا.
فالرقم المجرد الذي أشارت إليه الدراسة حول متوسط ما يصرفه الفرد سنويا، وهو مبلغ الـ2000 دولار، لا يُمثِّل شيئا يُذكر في جسد الاقتصاد الأميركي الكلي، لكن مجموع مَن يدفعون هو ما يصنع رقما كبيرا يقارب المليارَيْ دولار.
شيء شبيه كهذا يمكن أن يجري في العمل السياسي، لكن ذلك يتطلب في البدء الوعي بأهمية هذا الفعل، وتوليد هذا الوعي ليس صعبا إذا ما أدرك كل عربي ومسلم أن جانبا من مسؤولية استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل يقع على عاتقهم، إذ لا يوجد عمل سياسي مضاد يمكن أن يشق مسارات فاعلة في هذا الجدار السياسي الذي يبدو من بعيد مصمتا ولا طائل من محاولات الحفر فيه، لكن القرب منه سيجعلك تتكشّف ثغراته ومكامن مرور الضوء منها، كما أن العمل السياسي يتطلب طول نَفَس واختبارات عدة ستحوي كثيرا من الفشل.
وكما يهتف المتظاهرون في شوارع أميركا “كُفُّوا أيديكم عن الشرق الأوسط”، فإن جزءا من هذا الكف يرتبط بتغيير المعادلة السياسية من الداخل.
وبحسبة بسيطة، لو أن 10,000 فرد عربي ومسلم موزّعين حول أميركا، وهذا الرقم يعني أقل من 1% من مجمل عدد المسلمين هناك، لو أن كل واحد منهم دفع مبلغا قدره 1000 دولار سنويا، أي بمعدل 90 دولارا شهريا، للجنة عمل سياسي تدعم الحق الفلسطيني، لعنى ذلك مبلغا قدره 10 ملايين دولار، وهو مبلغ يمكن أن يُشكِّل فارقا في العمل السياسي الفاعل، وهذا مبلغ بسيط جدا لمَن له اطّلاع على المبالغ التي تُدفع في جلسة جمع تبرعات واحدة بمسجد واحد أو اثنين في رمضان.
زيادة هذا الرقم من حيث العدد أو من حيث المبالغ المدفوعة سيعني زيادة في التأثير وزيادة في الحضور، وإيذانا بدخول العرب والمسلمين بوصفهم رقما صعبا يتجاوز تأثيره مجرد أصوات انتخابية يقتصر أثرها على المدة الانتخابية والمحدودة زمنا وتأثيرا، لكنه يمكن أن يمتد لمدى أبعد ونطاقات أوسع، مما سيعني وفق معادلات السياسة الأميركية ظهور المزيد من السياسيين الذين يدعمون الحق الفلسطيني، ويرفضون التغول الإسرائيلي في السياسة الأميركية، خاصة مع صوابية المنطلقات أخلاقيا، ووضوح القضية وعدالتها.
وكما أشرنا سابقا، ضخُّ الأموال وحده لن يعني بالمحصلة تحقيق نتائج سياسية مباشرة. نعم، المال معطى مهم، لكن أهميته تكمن في أن يتبعه أجندة سياسية واضحة في الثواب والعقاب كما تكشف أبجديات جماعات الضغط في أميركا، وأن يرتكز كل ذلك على حضور قيادة لها وزن سياسي وقدرة على التأثير في الاستقطاب والتحفيز، ويُضم إلى كل ذلك شبكة واسعة من أدوات النفوذ والتأثير القادرة على توظيف المال بشكل صائب ومؤثر مبني على دراسة المرشحين وميولهم وتقدير فرص الربح والخسارة قبل الخوض في قرار الدعم من عدمه. بالإضافة إلى قاعدة شعبية قادرة على الترويج لتلك الأجندة والسعي لجعلها قضايا انتخابية تؤثر على الناخب الأميركي، وهو ما يتطلب انخراطا واسعا لجمهور شعبي عريض في العمل السياسي.
لكن النقطة المحورية هنا، التي تُشكِّل منطلق الفكرة وعمادها، هي وعي المسلمين والعرب بأهمية المال السياسي وأهمية الانخراط السياسي الفاعل، وأن يكون ذلك جزءا من المال الدوري المقتطع من أموال الصدقة. أما دون ذلك، فستبقى الفاعلية السياسية القادرة على التأثير في مسارات السياسة الأميركية محدودة وضعيفة.
تأتي هذه الدعوات وسط وجود أرضية منشأة للعمل السياسي بالفعل، ينقصها التمويل والكوادر البشرية والوعي العام بأهمية هذا الفعل، وهذه المنظمات على حداثة عهدها، بما لا يُقارن مع اللوبيات الداعمة لإسرائيل، فإنها تحتاج إلى كثير عمل وتنظيم ومراعاة للاختلافات والفروقات الداخلية والبينية، ودعم مستمر وتقويم كي تُحدث أثرا فاعلا.
أما النقطة المهمة التي يمكن ختم هذا التقرير بها، فإن بناء جماعات ضغط سياسية فاعلة لن ينعكس فقط على تصعيد سياسيين قادرين على التأثير في السياسة الأميركية الخارجية، بل سيعني أيضا دعما للعرب والمسلمين في السياسات الداخلية وتقوية لحضورهم الداخلي.