برلين- أثار كشف متكرر عن عملاء وقضايا تجسس مخاوف كبيرة في ألمانيا من أن تصير مكشوفة أمام التهديد الأجنبي، لا سيما بعد واقعة اعتقال 6 أشخاص، بينهم مساعد نائب في حزب “البديل من أجل ألمانيا”، الذي يُعدّ حاليا ثاني أكثر الأحزاب شعبية في البلاد.
وطرحت قضية التجسس الأخيرة تساؤلات من قبيل “هل ألمانيا هشّة أمام التجسس الأجنبي إلى هذا الحد، خصوصا من القوى التي تصنفها برلين معادية، وعلى رأسها روسيا والصين؟”.
ووجد النائب الألماني في البرلمان الأوروبي ماكسيميليان كراه، عضو حزب البديل، نفسه تحت شبهات كبيرة وهو مطالب الآن بتفسير سبب توظيفه لـ”جاسوس صيني”.
لكن كراه نفسه تحوم حوله عدة أسئلة، وسبق لموقع “تي أون لاين” الألماني الحديث عن إنشاء كراه لوبيا ألمانيا- صينيا لأجل زيادة نفوذ بكين في ألمانيا، وأنه سافر إلى الصين على نفقة شركة حكومية صينية، كما أنه دافع عنها على الدوام داخل البرلمان الأوروبي.
يقول العقيد المتقاعد رالف د. ثييله، رئيس الجمعية السياسية العسكرية، في مقال تعليقا على القضية، إن “السياسيين وشخصيات الأعمال يتم التجسس عليهم وتجنيدهم. لذلك، فإن خبرة المؤسسات والمراكز البحثية الألمانية، وخاصة على الصعيد الصناعي والاقتصادي وعلى صعيد الأسلحة، تجد طريقها بسهولة إلى المنافسة الصينية أو الروسية”.
ويتابع “لا يقتصر الأمر على الأعداء النظاميين فحسب، بل كذلك المنافسين الأصدقاء الذين يلقون نظرة عميقة على معرفتنا واتصالاتنا وبنانا التحتية الحيوية. وإذا لزم الأمر، يمكن بعد ذلك إيقاف تشغيلها دون مشاركتنا”.
وحث سنان سيلين، نائب رئيس المكتب الاتحادي لحماية الدستور (الاستخبارات الداخلية) الشركات الألمانية على الحذر، لافتا في ندوة صحفية هذا الأسبوع إلى أن “وجود مواقف إيجابية تجاه العلاقات التجارية مع الصين أدى نتائج وخيمة على الشركات” التي ليست على دراية كبيرة بأخطار التجسس، منتقدا كذلك الاعتماد الاقتصادي الألماني المفرط على الصين.
“جاسوس صيني”
مساعد ماكسيميليان كراه في البرلمان الأوروبي الموقوف، اسمه الشخصي جيان غو، ويحمل الجنسية الألمانية، ويعمل في قطاع الأعمال.
وحسب الادعاء العام الألماني، فهو عميل منذ سنوات لصالح السلطات الصينية، وينشط في التجسس على المعارضة الصينية في ألمانيا وجمع معلومات عن الصينيين المقيمين في البلاد، وكذلك تبليغ النقاشات والقرارات المتخذة في البرلمان الأوروبي.
وحسب معطيات نشرتها صحيفة “تسايت” الألمانية، فإن هذا العميل الصيني عرض نفسه للعمل مخبرا للاستخبارات الألمانية منذ مدة، لكن كانت هناك شكوك في دوافعه، غير أنه استطاع التسلل إلى داخل مجموعات المعارضة الصينية والوصول إلى مهام رفيعة داخلها.
ونفت الصين رسميا هذه التقارير، وقالت إنها تهدف إلى الإضرار بعلاقتها مع أوروبا. لكن مزاعم التجسس لا تستثني حتى الألمان غير المجنسين؛ فمن بين من تم إيقافهم، شخص ألماني اسمه توماس.ر، كان عميلا للاستخبارات الصينية (إم إس إس)، ويُعتقد أنه حصل على معطيات مهمة للغاية حول تقنيات مبتكرة، واستخدم رجلا وامرأة ألمانيين يملكان شركة معلوماتية لها تواصل مع شخصيات مهمة، للوصول إلى هذه المعطيات.
الخطر الأكبر
أكثر ملفات التجسس التي تفجّرت في ألمانيا، كانت لها علاقة بروسيا، إذ تم تسجيل ما يقارب 10 حالات، ومن ذلك محاكمة ضابط احتياط عام 2022، زوّد عسكريين روسا -قال إنه لم يدرك هويتهم- بمعلومات حساسة تخصّ الجيش الألماني.
ووصلت الشبهات إلى مسؤولين ألمان كبار في مواقع حساسة، فقد أقالت الداخلية الألمانية عام 2022 رئيس وكالة الأمن السيبراني آرنه شونبوم، بعد نشر القناة الألمانية الثانية تقريرا حول شركة استشارية أسهم في تأسيسها، لها صلات بالاستخبارات الروسية.
أصرّ شونبوم على براءته، ورفع دعوى ضد القناة، وكذلك ضد الوزارة، ولا تزال القضية معروضة أمام القضاء.
وأدين موظف ألماني عام 2021، كان يعمل في شركة للخدمات الأمنية تقدم خدمات للبرلمان الألماني، إثر تسليمه قرصا مدمجا للسفارة الروسية يتضمن مباني البرلمان. وما قد يفسر سلوكه، أنه كان ضابطا سابقا في ألمانيا الشرقية التي كانت صلاتها قوية بالاتحاد السوفياتي حينها.
وآخر ملف هز الرأي العام، نشر الإعلام الروسي تسجيلا صوتيا مطولا في مارس/آذار الماضي، يتحدث فيه ضباط ألمان عن إمكانية قصف شبه جزيرة القرم، وهو التسجيل الذي أكدت برلين صحته، وتبين أن أحد الضباط لم يحترم البروتوكولات الأمنية، وشارك في الاجتماع من سنغافورة، عن طريق وسيلة اتصال غير آمنة.
ثغرات خطيرة
أدت هذه الاعتقالات إلى انعقاد جلسة خاصة في البرلمان الألماني، ووجهت عدة أحزاب اتهامات لحزب “البديل”، واتهمته بـ”الوطنية الكاذبة”، خصوصا أن هذا الحزب يرفع دوما شعارات تمجّد القومية الألمانية.
لكن في المقابل، هناك شكوك في مصداقية عدد من هذه الاتهامات بحكم محاولات الأحزاب الألمانية عزل حزب “البديل” ومنعه من الانتشار في البلاد بمبرّر “خطره على النموذج الألماني”.
أما رالف د. ثييله، فيشير إلى أن الأمر يتعلق بثغرات خطيرة في البنية الأمنية الألمانية، لافتا إلى أنها تفتقر إلى أساس واضح يحدد من يقوم بأدوار الحماية من هجمات تأتي من روسيا والصين، خصوصا عدم وجود تنظيم للقرارات بين الحكومة الفدرالية وحكومات الولايات والحكومات المحلية، مؤكدا أن الأمر لا يخص فقط هذه الهجمات، بل كذلك الاضطرابات في إمدادات الطاقة والمياه والاتصالات.
يقول كونستانتين فون نوتز، رئيس “لجنة مراقبة الأجهزة السرية” في البرلمان الألماني، في جلسة برلمانية “علينا أن نأخذ هذا التهديد على محمل الجد مرة أخرى، لأن مسألة النجاح في مكافحة التخريب والتجسس والدعاية المناهضة للديمقراطية لا تتعلق بأقل من مستقبل ديمقراطيتنا وحريتنا”.
وحسب دراسة لجمعية “بيتكوم”، وهي ائتلاف اقتصادي ألماني، فإن 75% من الشركات الألمانية تعرّضت ما بين 2017 و2019 لهجمات سيبرانية، خصوصا منها الشركات الصغيرة، وعبرّت 21% من الشركات عن سرقة بيانات حساسة.
وتضمنت الهجمات على الخصوص سرقة كلمات المرور، أو إرسال برمجيات خبيثة، وتسببت بخسائر اقتصادية للشركات تقدر بـ100 مليار يورو سنويا.
ومما توصلت إليه الدراسة، أن مصدر الخطر الأكبر هو الموظفون السابقون الذين يقصدون الإضرار بالشركة بنسبة 33%، يليهم الموظفون الذين يتم استغلالهم دون علمهم بنسبة 23%.