انتهى الموت بالتنازل عن عوض في اللحظة الأخيرة، بعد أن نبهت تشنجات في جسمه بعض العاملين في خدمات الموتى، ليخرجوه من الكيس الذي كانوا يستعدون لإغلاقه عليه كغيره من الجثث، وليعيدوه إلى عالم الأحياء، وها هو الموظف المصري في أحد المطاعم ينقل مذعورا ومصدوما إلى المعهد الفني بمدينة درنة التي جرف الفيضان ثلثها، مما أدى إلى سحق، أو إسقاط مجمعات سكنية بأكملها في البحر.
بهذه القصة افتتحت صحيفة “لوموند” الفرنسية تقريرا لمراسليْها بالمكان عينه: نسيم قسطيلي، ومجيد زروقي قالا فيه، إن العديد من المهاجرين الموسميين أو الدائمين القادمين من مصر والسودان وتشاد يعيشون حالة صدمة الفيضان، وهم يحاولون التغلب عليها دون مساعدة التضامن الأسري، في مدينة تؤوي حوالي 100 ألف مهاجر في المناطق المتضررة من الفيضانات.
وإلى مبنى المعهد الذي نقل إليه حي الأموات، عوض، يأوي عمال أجانب وعائلات، معظمهم مصريون وسودانيون، وقد علّقت على بابه 5 لوحات تتضمن قائمة بأسماء 150 شخصا مفقودا، ويزور المكان علماء نفس من مستشفى الطب النفسي بالمدينة، ويقولون، إن “هذا المكان يضم أكثر الأشخاص الذين دمرتهم الكارثة نفسيا. لقد شهدوا مشاهد الرعب نفسها مثل كثير منا، لكنهم معزولون، ولا يمكنهم الاعتماد على التضامن العائلي” في مدينة بها 40 ألف نازح.
ويقول عوض، الذي لا يزال في حالة صدمة وساعداه ويداه منتفختان بشكل غير طبيعي، متحدثا عن أحداث 11 سبتمبر/أيلول الجاري، “لقد كان يوم القيامة. كنت قد تحصنت قبل النوم في المطعم عندما سمعت حوالي الساعة الثانية والنصف صباحا، صوتا مرعبا (انهيار السد الأول). كان المبنى يتدحرج على نفسه. استعدت وعيي بعد 4 ساعات بعد أن تقيأت الماء. لقد خلعوا ملابسي وبدؤوا في لفّي. كنت من الناحية الفنية ميتا، أنا في درنة منذ أسبوعين فقط”.
8000 مهاجر وعامل أجنبي
لم يبقَ من حياة عوض السابقة سوى حساب على فيسبوك وهواتف أعارها له أبناء وطنه ورفاقه في المحنة، ومن بينهم محمد السعيد (29 سنة)، وسعيد المصري (26 سنة)، وأحمد محمد (24 سنة)، وهم عمال بناء من قرية نزلة الشريف المصرية المدمرة التي قضى 75 من شبابها في درنة، حيث ذهبوا مع آخرين لإعالة أسرهم، يقول محمد، “لقد مات أو اختفى حوالي 120 من سكان قريتنا”.
وحسب المنظمة الدولية للهجرة، وصل عدد المهاجرين والعمال الأجانب في المدينة وقت وقوع الكارثة إلى حوالي 8000 شخص، من بين أكثر من 100 ألف يعيشون في المناطق المتضررة من الفيضانات، معظمهم من مصر وتشاد والسودان، وقد فقد نحو 430 منهم حياتهم ليلة 11 سبتمبر/أيلول الجاري، وفقا للتقارير التي لا تزال جزئية للغاية، ولا تزال السلطات المصرية التي أعلنت عن التعرف إلى أكثر من 120 جثة يوم الخميس الماضي، تبحث عن 300 من مواطنيها.
اعتقال وطرد
ويقول جلال حرشاوي، الباحث المشارك في معهد الخدمات الملكية المتحدة لدراسات الدفاع والأمن، إن المصريين يسافرون إلى ليبيا منذ عقود للبحث عن عمل، “منجذبين إلى الرخاء النسبي الذي تشهده البلاد، الأكثر ثراء من الناحية الهيكلية، وأقل سكانا من مصر”، ولكن سلطة بنغازي، المدينة الرئيسة في برقة، نفّذت في بداية يونيو/حزيران الماضي، عمليات اعتقال وطرد واسعة النطاق بين المهاجرين المصريين، وذكرت مصادر أمنية مصرية أن ما يقرب من 4000 شخص أعيدوا إلى الحدود، مما ينظر إليه في مصر على أنه “إذلال”.
ويقول محمد السعيد، الأكبر بين الأصدقاء الثلاثة، إن “هذه المدينة (درنة) كانت ديناميكية للغاية. كان القطاع في حالة جيدة، وكان الناس يبنون في كل مكان. ما حدث للتوّ أعادها لعقود من الزمن. مثل هذه الكارثة لم يسمع به من قبل. حتى خلال سنوات الحرب الأهلية”، ويضيف السوداني محمد سليمان، “كانت حياتي جيدة جدا، وكانت لدي علاقة جيدة جدا مع الليبيين، وكان هناك عمل”.
وقبل 45 عاما، عندما وصل محمد سليمان -الذي تزوج ليبية أنجبت له 4 أبناء- إلى ميناء طرابلس بعد عامين في لبنان، وجد عملا في أحد الفنادق الكبيرة في العاصمة طرابلس، قبل أن يستقر في بنغازي حيث عمل لمدة 10 سنوات في الجامعة، وانتهى به الأمر بالاستقرار في درنة في نهاية التسعينيات، وفي مساء الكارثة، جرفت الفيضانات منطقة الجبيلة التي كان يعيش فيها بالكامل.
أخطاء بشرية
المدن الكبرى في برقة ليست الوحيدة التي تجتذب العمالة من خارج البلاد، إذ تعتمد منطقة الجبل الأخضر وعملياتها الزراعية المتعددة على العديد من العمال المهاجرين، ومن الممكن أن تغيّر الأضرار التي خلفتها العاصفة، التي أتت على محاصيل آلاف الهكتارات، مستقبل كثير منهم، يقول نعيم (21 عاما)، وهو موظف في مزرعة دجاج بالقرب من بلدة قندولة، “كان من المفترض أن أتلقى راتبي في منتصف سبتمبر/أيلول الحالي، لكن مديري لم يسلمني أي شيء بعد”.
نعيم، أصله من شمال تشاد، يحرس اليوم مدخل مزرعة خالية من كل أشكال الحياة والنشاطات، ويقول، “أكسب 1000 دينار (190 يورو) وأعيل عائلتي التي بقيت هناك”، ويضيف أنه كان يحلم بمستقبل يتجاوز الأفق الليبي “كنت أتمنى أن أبني ثروة صغيرة لمغادرة هذا البلد في يوم من الأيام. ليس عندي أي شيء. حتى أوراق هُويتي جرفتها المياه”، ويقول عوض بعد عودته من الموت، “هذه أخطاء بشرية. لقد جئنا إلى هذا البلد للعمل، لا أن ينتهي بنا الأمر في قاع البحر على بعد أميال من الشاطئ”.
وأشار التقرير إلى أن برقة -أيضا- تشكل نقطة انطلاق رئيسة إلى أوروبا منذ أن أعيد فتح ممر يربط شرق ليبيا بإيطاليا في نهاية 2022، وهو طريق يستخدمه العديد من المصريين، كما يستخدمه السوريون الذين يرون أنه بديل لطريق البلقان، الذي يصعب الوصول إليه الآن، غير أن الناجين من الفيضانات لا يخططون لمثل هذه الرحلة في الوقت الحالي.