نتنياهو: أنا ومن بعدي الطوفان

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 14 دقيقة للقراءة

تعيش إسرائيل هذه الأيام أزمة خطيرة أساسها انعدام الثقة بين مؤسستيها السياسية والعسكرية، وتجد تعبيراتها في العديد من المواضع ومن بينها ما بات يعرف بـ”الفضيحة” السياسية الأمنية الجديدة. ورغم أن العاصفة الإعلامية الدائرة حاليا تتحدث من الناحية الشكلية عن قضية “تسريب” وثائق حقيقية ومزعومة، فإنها من الناحية الفعلية تتحدث عن “سرقة” و”خيانة زمن الحرب” ولا يقل أهمية عن ذلك التلاعب المغرض بالرأي العام الإسرائيلي لأغراض حزبية.

وتنبع أهمية القضية أصلا من أن الأنظار تتجه نحو رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ومقربين منه ووسائلهم “المعيبة” في إدارة شؤون الدولة والحرب.

ولا بد أولا من الإشارة إلى أن القضية تتناول أولا مسألة استعادة الأسرى، وهي واحد من 3 أو 4 أهداف للحرب، والعلاقة بين المؤسستين السياسية والعسكرية ومكانة المؤسسات وطرق الالتفاف عليها، وما يمكن لنتنياهو فعله لتحقيق أغراضه. وهنا من المهم الإشارة إلى أن المتهم الرئيس بهذه القضية شخص يدعى إيلي فيلدشتاين، وبات اسمه على كل لسان بوصف قصته من أهم عناوين الفضيحة.

فهذا الشخص الذي سبق له أن عمل في مكتب الناطق بلسان الجيش الإسرائيلي، سرعان ما استُخدم بعدها ناطقا بلسان قيادة الضفة الغربية العسكرية. ويدل هذا التعيين على نوع من العلاقة مع المستوطنين وأوساطهم، وهو ما قاده إلى العمل ناطقا باسم الوزير العنصري الأبرز إيتمار بن غفير. ومن هذه البوابة وصل إلى ديوان بنيامين نتنياهو، حيث ينطوي ذلك على دلالة بشأن ما يجمع بين نتنياهو وبن غفير.

ومن المؤكد أن فيلدشتاين ليس عبقري عصره، ولكنه من النّوع المستعد لفعل أي شيء من أجل خدمة سيده. وهكذا ما إن استأجره ديوان رئاسة الحكومة للعمل حتى سقط في اختبار التصنيف الأمني. وهكذا رُفض رسميا تشغيله بمكتب نتنياهو كناطق رسمي باسمه للشؤون العسكرية. لكن الحاجة إليه كانت -كما يبدو- حادة لدرجة استدعت تعيينه في مكتب المدير العام للديوان رغم الرفض الأمني، وأُوكلت إليه مهمة التواصل مع المراسلين العسكريين.

ولعب فيلدشتاين دورا في التحريض على رئيس الأركان، وفي المناوشات الإعلامية بين الأخير ونتنياهو. وكما يبدو، لعب فيلدشتاين دورا مركزيا في العلاقة مع آخرين داخل المؤسسة الأمنية، ممن كانوا على استعداد لأن يكون ولاؤهم لنتنياهو أو للائتلاف الحكومي أقوى من ولائهم للمؤسسة العسكرية، وكان هؤلاء يزودون فيلدشتاين -وربما آخرون- بمواد استخبارية خام وغير معالجة يمكن استخدامها لأغراض غير رسمية.

إيلي فيلدشتاين المشتبه به في قضية تسريب الوثائق (مواقع التواصل)

ومن هنا بدأت القصة. فالأمر ليس مجرد تسريب مواد من جهة يحق لها الاطلاع عليها، وإنما هي في جوهرها سرقة مواد استخبارية ثم استخدامها بأغراض خارج نطاق ما هو مطلوب رسميا. ووصف بن كسبيت كبير المعلقين السياسيين في صحيفة معاريف ما جرى على النحو التالي “المعلومات البالغة السرية التي تشكل أساس قضيتنا لم تصل إلى مكتب نتنياهو بالطريقة المعهودة: في ملف استخباراتي ضخم يحمله رئيس المخابرات معه إلى رئيس الوزراء. وهذه المادة السرية سُرقت من شعبة الاستخبارات ووصلت إلى يد أحد التابعين لنتنياهو، ومنه لوسائل الإعلام، ومنها إلى الرقابة التي رفضت نشرها، لكن هناك من أراد نشرها على أية حال، فكانت المحطة التالية وسائل الإعلام الأجنبية، وهناك نشرت بالفعل”.

وترتبط هذه المواد الاستخبارية بأمرين مركزيين يتعلقان أساسا بموقف حماس من تبادل الأسرى من جهة، وتفكير حماس وزعيمها الشهيد يحيى السنوار باستخدام محور فيلادلفيا “للهرب” و”تهريب” الأسرى إلى سيناء على طريق نقلهم إلى الخارج. وأشيع أن الوثيقة الأولى بخط يد السنوار فيها تعليمات مزعومة من قيادة حماس لكيفية إدارة المفاوضات في قضية المخطوفين، ولكن سرعان ما تبين أن الوثيقة كتبها ناشط ربما بالصف الكادري الثالث من حماس، ولم تتبنها قيادة حماس وربما لا علم للسنوار أبدا بها.

وكان لتسريب الوثيقة هدفان أساسيان: الأول إظهار أن قيادة الجيش الإسرائيلي وجهاز الأمن كأنهما يخفيان عن نتنياهو والتابعين هذه المعلومات، بمعنى أنهم “يتآمرون على رئيس الوزراء”. والثاني إيجاد انطباع بأن حركة حماس ليس لها أي مصلحة بالصفقة، وأن الادعاء بأن نتنياهو هو الذي يحبطها لا أساس له.

وفي هذا السياق، من المهم العودة إلى الظروف التي نشأت فيها هذه الفضيحة.

وقد كتب عاموس هارئيل المراسل العسكري بصحيفة هآرتس “بعد العثور على جثث المخطوفين الستة الذين قتلوا على يد حماس في رفح، حدث ضغط كبير من قبل الجمهور على الحكومة من أجل استئناف العمليات للتوصل إلى صفقة لتحرير المخطوفين الآخرين. ويبدو أن التسريب المشوّه هدف إلى صد هذا الضغط وإلقاء كل المسؤولية في جمود الاتصالات على قادة الخاطفين، أي زعيم حماس الذي قتل فيما بعد في حادثة مع قوة للجيش الإسرائيلي”.

وبحسب المراسل العسكري، فإنه “منذ بداية الحرب، يخوض نتنياهو صراعا من أجل بقائه السياسي، وهو صراع تفاقم حتى مقارنة مع بداية محاكمته عام 2021، والانقلاب النظامي عام 2023. وقد استهدف الجهد الرئيسي إزاحة كل المسؤولية عن الإخفاقات التي مكنت من حدوث مذبحة 7 أكتوبر/تشرين الأول السنة الماضية، وتصويب كل النيران نحو قيادة الجيش الإسرائيلي والشاباك وخصوم نتنياهو السياسيين، ومن بينهم وزير الدفاع يوآف غالانت. عندما حقق هذا الجهد نجاحا نسبيا في أوساط مؤيديه، ووسّعه نتنياهو إلى قضية المخطوفين”.

ويقول هارئيل إن “نتنياهو سمح بعقد صفقة المخطوفين الأولى في نوفمبر/تشرين الثاني من السنة الماضية، لأنها لم تكن تنطوي على ثمن باهظ بالنسبة له. ولكن بعد ذلك، تهرّب دائما من عقد صفقة أخرى. وقد ساعد في ذلك أيضا رفض حماس، المتهمة الرئيسية بالمأساة من البداية. فأمام ناظري نتنياهو لم يكن يوجد سوى بقاء الائتلاف”.

ويعارض شركاؤه في اليمين المتطرف بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، أي صفقة أيضا، لأنهم يريدون الاحتلال الدائم للقطاع وإعادة الاستيطان إليه. في حين أن ما يهم نتنياهو هو استقرار الحكومة، أكثر من حياة المخطوفين. وهذا الأمر برز في يناير/كانون الثاني الماضي وعلى الاقل حتى يوليو/تموز، عندما منعت مرة تلو الأخرى تسريبات وإحاطات ممنهجة من قبل مكتب رئيس الحكومة حدوث أي اختراق في المفاوضات.

نتنياهو حقق غايته عبر تضليل الشارع الإسرائيلي وشن حربا نفسية عليه بطرق التفافية (الأوروبية)

ويواصل هارئيل فيكتب أنه “بداية سبتمبر/أيلول الماضي، ظهرت مشكلة جديدة بعد قتل المخطوفين الستة. وهنا دخلت حملة عرقلة الصفقة في عملية تسريع بسبب المظاهرات التي طالبت بإنقاذ باقي المخطوفين. وبدأ نتنياهو يتحدث في خطاباته بشكل مطول عن أن إسرائيل يجب أن تواصل الاحتفاظ بمحور فيلادلفيا على طول الحدود بين القطاع ومصر. وهكذا وضع عائقا واضحا أمام عقد الصفقة، وهو ما فاجأ رؤساء المؤسسة الأمنية الذين لم يولوا هذا المحور أهمية مشابهة”.

وفي هذا الوقت بالذات، وقع تسريب لصحيفتين أجنبيتين هما صحيفة “جويش كرونيكل” البريطانية و”بيلد” الألمانية. فقد حصلت الأولى على معلومات مزورة بشأن الخشية من أن السنوار سيهرّب المخطوفين إلى مصر ومن هناك إلى إيران، لذلك ينبغي الاحتفاظ بمحور فيلادلفيا. وقد اتهم المراسل المسؤول عن هذه المعلومات فيما بعد بأنه محتال، وأقيل من الصحيفة.

أما “بيلد” فعرضت ما وصفته بأنها وثائق استخبارية سرّية من إسرائيل، تفيد بأن زعيم حماس لا يريد إطلاقا عقد الصفقة. وهذا ما برر الادعاء بأن الجيش الإسرائيلي يرتكب خطأ مزدوجا، لأنه من جهة يخفي معلومات حاسمة عن الجمهور الإسرائيلي، ومن جهة أخرى يتهم نتنياهو بأنه هو الذي يفشل الصفقة.

وكرر نتنياهو والمقربون منه هذه الادعاءات، مما ألحق ضررا كبيرا بالمظاهرات والحركة الاحتجاجية من أجل الأسرى. وبعدها تطورت الحرب مع لبنان وتراجعت قضية الاحتجاجات والأسرى إلى أسفل جدول الأعمال، وهكذا حقق نتنياهو غايته لكن عبر تضليل الشارع وشنّ حرب نفسية عليه بطرق التفافية.

وهنا يُطرح السؤال: كيف اتضحت الصورة ووصلت إلى إجراء تحقيقات أمنية في البداية، وجنائية لاحقا، مما قاد إلى اعتقال مقربين من نتنياهو وتعرّضه لأشد حملة انتقادات؟

وفي البداية أشعل المصابيح الحمراء بالمؤسسة الأمنية استخدام نتنياهو وزوجته والمقربون منه معلومات مضللة منشورة على نطاق واسع. فانتشار مثل هذه “الوثائق” في بريطانيا وألمانيا دفع شعبة الاستخبارات العسكرية للتحقيق في الأمر عبر دائرة أمن المعلومات العسكرية، وبعدها -ونظرا لتشابك الأمور- انتقل التحقيق إلى جهاز الشاباك.

Israeli Prime Minister Benjamin Netanyahu and his wife Sarah Netanyahu attend an event marking the 50th anniversary of Israel's capture of East Jerusalem during the 1967 Six-Day War, opposite the Old City wall and near the Tower of David in Jerusalem May 21, 2017. REUTERS/Abir Sultan/Pool
بيرغمان: لقاءات سارة نتنياهو مع أهالي المجندات الأسيرات كانت مليئة برسائل تنقل مخاطر لا أساس لها (رويترز)

أما رونين بيرغمان محرر الشؤون الأمنية الأبرز بصحيفة يديعوت أحرونوت، فكان أول من كشف إعلاميا جوانب اللعبة عندما دقق في مصادر كل من “جويش كرونيكل” و”بيلد” ولاحظ سرعة استخدام نتنياهو لما ينشر فيهما. وكتب أنه “سبق أن كشفنا من على هذه الصفحات كيف ظهر لنتنياهو فجأة “فيلادلفيا” كمحور أساسي، مليء بقدسية لم يشعر بها أحد في إسرائيل: لا في جهاز الأمن، ولا في أسرة الاستخبارات، ولا في طاقم المفاوضات، ولا حتى لدى نتنياهو نفسه. ولم يشعر أحد على مدى نحو 9 أشهر بأن له أي أهمية. فالأنفاق تحت فيلادلفيا أغلقها المصريون منذ زمن بعيد، وفي الحرب لم يكن ممكنا تهريب أي شيء من هناك من فوق الأرض”.

ولاحظ بيرغمان أن “الجمهور الإسرائيلي أصبح ضحية لحملة متواصلة من الأكاذيب والتلاعبات مسّت بفهمه لما يجري، وكانت تنكيلا حقيقيا بعائلات المخطوفين. ورأينا أهمية كبرى لأن ننشر من على هذه الصفحات الحقائق والتفاصيل الكاملة عن المفاوضات، تلك التي بذلت الحكومة جهودا جبارة لإخفائها عن الجمهور”.

وفهم من هذه المنشورات أنه عندما كانت المفاوضات في لحظة التحقق، فرض عليها نتنياهو “كتاب الإيضاحات” الذي وصفه مسؤول كبير في طاقم المفاوضات بأنه “كتاب الدماء” وأنه أوضح قليلا وخرّب كثيرا، وأضاف سلسلة عوائق وأثقال جعلت الوصول إلى أي اتفاق متعذرا.

وفي نظر بيرغمان، فإن “أهم وأصعب ما في كل هذه العقبات كانت كذبة فيلادلفيا. شخص مطلع على تسلسل الأمور يقول إنه حيال الوثائق والمكتشفات، شعر مكتب نتنياهو بأنه لا ينجح في إقناع الجمهور، فبدأ معركة متداخلة: خطاب نتنياهو الذي جاءت بعده المقابلة مع (فوكس نيوز) الودية جدا والتي كرر فيها رسائله، والخطابات العامة ولقاءات زوجته سارة مع أهالي المجندات المخطوفات التي مررت فيها أيضا رسائل كلها مليئة بمخاطر مختلقة لا أساس لها وتتعارض مع التقديرات المهنية لجهاز الأمن التي ينطوي عليها ترك فيلادلفيا. والخطابات والمقابلات الصحفية واللقاءات كانت بعد الخطاب، وستنتشر أيضا في التقارير الصحفية التي ستنشر لاحقا في وسائل الإعلام الدولية، وفيها وثائق تؤكد خطاب نتنياهو”.

الفضيحة الجديدة على أهميتها لا تضيف لتاريخ نتنياهو السياسي في الألاعيب وطرق الإفلات من الحساب إلا قليلا (الفرنسية)

عموما ورغم كل ما قيل ويقال، فإن الفضيحة الجديدة على أهميتها لا تضيف إلى تاريخ نتنياهو السياسي في الألاعيب وطرق الإفلات من الحساب إلا قليلا. وما يمكن قوله إن أساليب نتنياهو هذه كانت ولا تزال معروفة لكل مقربيه القدامى الذين سرعان ما كانوا يتحولون إلى أعداء حقيقيين له. واسألوا أفيغدور ليبرمان ونفتالي بينيت وكثيرا من قادة الليكود وأحزاب أخرى. نتنياهو كان ولا يزال ميكيافيلي النهج، والغاية عنده تبرر الوسيلة، وطالما أنه يريد البقاء ملكا على إسرائيل فكل شيء متاح ومباح.

واليوم يعتقد كثيرون أن نتنياهو -الذي يدير منذ سنوات حربا داخلية باسم إصلاح النظام القانوني من أجل منع إدانته في المحكمة- قادر على مواجهة العاصفة الجديدة وتجاوز آثارها، فالحرب تتواصل بسبب إصراره على البقاء في الحكم، وليس ثمة ما يمنع التضحية ليس فقط بالأسرى وإنما أيضا بالجنود وباقتصاد إسرائيل من أجل هذا البقاء.

ومثل كثير من التحقيقات السابقة، قد يجد نتنياهو أكباش فداء. ومثلا مع الناطق باسمه فيلدشتاين، وطوال أيام، أعلن أنه لا تجمعه بديوانه جامع. ورغم الصور الكثيرة له مع نتنياهو، بما في ذلك في مداولات واجتماعات وزيارات، بقي هذا الإصرار، وليس من المستبعد أن تجد النيابة العامة وسائل لتخليص نتنياهو من آثام أفعاله.

ومن جهته، يصرّ الجيش على أن سرقة الوثائق منه تشكل خطرا جسيما على أمن الدولة، ليس بسبب أهميتها وإنما أصلا بما يمكن أن تقود إليه من كشف للمصادر. وقال أحد المسؤولين في أعلى قمة المؤسسة الأمنية نهاية الأسبوع “الذين سرقوا وأزالوا هذه المادة يجب أن تقطع أيديهم وأرجلهم”. وعندما سئل عن السبب، قال: “المهم هنا ليس المادة نفسها، بل الضرر والمخاطر الهائلة على المصادر. هناك مواد إذا خرجت فإنها تسمح للعدو بمعرفة كيف أو من أين حصلت عليها إسرائيل”.

وفي المستوى السياسي، هناك من يراهنون على أن الفضيحة قد تسقط رئيس الحكومة، ولذلك يصرون على مواصلة الدق على طبولها. وأهم هذه الطبول أن نتنياهو لا يتورع عن استخدام الحرب النفسية ضد شعبه وضد قيادة جيشه.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *