بيروت- منذ استهداف مسيرة إسرائيلية عمق مدينة النبطية، أول أمس الخميس، لأول مرة منذ حرب يوليو/تموز 2006، في محاولة لاغتيال أحد قياديي حزب الله، كرست إسرائيل تجاوزها قواعد الاشتباك، لإعادة رسم الواقع الأمني عند جبهتها الشمالية.
ويأتي هذا التصعيد متناقضا في الشكل مع حركة موفدين غربيين استثنائية تشهدها بيروت، على المستويين الأمني والدبلوماسي، مشحونة بالمقترحات والأفكار والرسائل الإسرائيلية التي لم ترق بعد إلى عتبة التفاوض الجدي لحسم مصير جبهة لبنان الجنوبية.
على طريق بيروت
ويتوالى الحديث عن مساعٍ أميركية فرنسية لمنع توسيع رقعة الحرب إلى لبنان، يقودها آموس هوكستين مبعوث الرئيس الأميركي الخاص لشؤون أمن الطاقة العالمي، بين تل أبيب وبيروت، وكذلك الحراك الفرنسي أمنيا ودبلوماسيا حيث وصل بيروت قبل يومين وفد على رأسه فريدريك موندوليني المدير العام للشؤون السياسية بالخارجية، بعد أيام من زيارة الوزير ستيفان سيجورنيه.
إضافة إلى عشرات الزيارات التي أجراها موفدون وزاريون وأمنيون من هذه الدول، وأخرى مثل إسبانيا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا والمجر. وحتى ألمانيا التي تصنف حزب الله بجناحيه السياسي والعسكري “منظمة إرهابية” أوفدت نائب مدير المخابرات أولي ديال نهاية يناير/كانون الثاني ليجتمع مع نعيم قاسم نائب الأمين العام لحزب الله.
وتتقاطع هذه الزيارات، وفق مراقبين، عند بحث طروحات مثل انسحاب حزب الله لمسافة 8 – 10 كيلومترات عند الحدود، باعتبارها أداة لتطبيق القرار الأممي رقم 1701، مقابل تعزيز حضور الجيش اللبناني وقوات “يونيفيل” جنوب الليطاني، وغيرها من المطالب التي تهدف لضمان عودة أكثر من 100 ألف مستوطن إلى الشمال.
حراك على وقع التصعيد
ميدانيا، أعلن قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي أوري غوردين، الجمعة، أن إسرائيل تهدف إلى تغيير الوضع الأمني بالشمال، حتى تتيح “إعادة السكان بأمان” بينما يواصل حزب الله تصعيده بضرب المواقع والثكنات الإسرائيلية ردًا على توسيع إسرائيل مساحة النار التي تطال النبطية راهنا.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي داود رمال أن قصف إسرائيل سيارة ومبنى، بعمق مدينة النبطية، شكل خروجا كليا عن قواعد الاشتباك القائمة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول. ويزيد التصعيد المعهود عن إسرائيل، حيث كلما اتجهت الأمور إلى خواتيمها بالحرب أو نحو الهدنة، تعمد إلى ممارسة جنون غير مسبوق بعمليات القصف واستهداف المدنيين، وهو ما فعلته بحروبها مع لبنان.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي وسيم بزي إن حركة الموفدين الغربيين ببيروت “انطلقت عقب عملية طوفان الأقصى، وكانوا طوال الفترة متنوعي التأثير، دبلوماسيا وأمنيا، لكن هوكستين صاحب الدور الأكثر أهمية، كموفد رسمي من الرئيس الأميركي جو بايدن، ووسيط بين لبنان وإسرائيل كرس دوره منذ اتفاق ترسيم الحدود البحرية قبل أكثر من عام”.
وقبل نحو أسبوع، زار هوكستين تل أبيب دون أن يعود إلى بيروت لنقل الرسائل كما يفعل عادة، وهو يؤكد -وفق بزي- أن الحراك ما زال في إطار الأفكار والطروحات، ولا يستند إلى ورقة تفاوض ببنود جدية، لذا “لم يكن لدى هوكستين أي جديد يُنقل إلى بيروت”.
من جانبه، يضع رمال حركة الموفدين في إطار “تقديم النصيحة للبنان” بعدم الانجرار إلى الحرب مع إسرائيل، حتى لو تمادت حكومة نتنياهو باستفزازاتها، وربط مصلحة لبنان بتطبيقه الكامل للقرار رقم 1701. علما بأن هذا القرار صار خارج الخدمة برأيه “بدليل أن وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون، في زيارته الأخيرة لبيروت، تحدث عن ترتيبات أمنية جديدة خارج 1701، وكأنها تلويح للدفع إلى قرار دولي جديد بين لبنان وإسرائيل، لكن حدوثه سيبقى متعذرا قبل تثبيت الحدود البرية بينهما”.
التفاوض مع الحزب
لكن ثمة من يرى أن من أهم مكاسب حزب الله سياسيا وإقليميا، في هذه الحرب، هو استدراجه الدول الغربية التي تصنفه معظمها “منظمة إرهابية” إلى التفاوض المباشر معه بندية، حيث يلتقي الموفدون الأمنيون بقياديي حزب الله، بينما يتواصل معه الموفدون الدبلوماسيون عبر رئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل نبيه بري.
ويقول بزي إن بري هو المفاوض السياسي والدبلوماسي الأول لدى أمين عام حزب الله حسن نصر الله. وما يريده الموفدون من الحزب -برأيه- هو “التجهيز لمرحلة ما بعد حرب غزة، وضمان ضبط الجبهة الشمالية لإسرائيل، وفقا لشروط يرفضها حزب الله، ويرفض بحثها قبل انتهاء حرب غزة”.
من جانبه، يرى رمال أن حزب الله لم يعد بحاجة إلى وسيط، باستثناء بري، وهو ما أكدته زيارة أولي ديال نائب مدير المخابرات الألمانية.
أما أبرز ما تحمله المباحثات مع حزب الله، فتتمحور- وفق رمال- حول مطلب انسحابه إلى شمال خط الليطاني، وتكثيف حضور الجيش اللبناني عند الحدود عبر رفع عدده إلى 12 ألفا ثم 15 ألف عنصر، والقضاء على المظاهر المسلحة، مع إعطاء صلاحيات ليونيفيل بالتدخل جنوب لبنان.
ويقول رمال إن “هذه الطروحات لا يعني أنها قابلة للتنفيذ، لأن الأمور مرهونة بوقف النار في غزة” يليها سؤال في حال نجحت مفاوضات الهدنة في مصر بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل، هل ستتوقف الأخيرة عن شن الضربات على حزب الله؟
وبينما يربط المحلل السياسي حسم الواقع العسكري باتفاق ترسيم حدود برية بين لبنان وإسرائيل -وفقا للخرائط المدعمة في الأمم المتحدة– يعتبر أن حزب الله ما زال عند جوابه “لتتوقف حرب غزة حتى تتوقف عملية الإشغال بالجبهة الجنوبية للبنان، وبالتالي يمكن الحديث بمختلف الطروحات”.
سيناريوهات
يرى بزي أن مصير الجبهات المساندة لغزة مرتبط بمصير المفاوضات في مصر، لكن جنوح إسرائيل إلى تصعيد الحرب، عبر معركة رفح، قد يعني عقبات هائلة في التفاوض، ستضع غزة والجبهات الأخرى أمام سيناريوهات خطيرة و”حينها قد تفشل الدبلوماسية بمواكبة التدحرج العسكري والميداني، مع حكومة نتنياهو الانتحارية”.
بينما يعدّ رمال أن إسرائيل تذكرت اليوم بأن هناك ما يسمى تفاهم “نيسان” صدر أعقاب الحرب التي شنتها في أبريل/نيسان 1996 على لبنان، وارتكبت فيها أبشع المجازر في “قانا” يوم استهدفت النازحين الجنوبيين بمقر للأمم المتحدة. ويقول “تريد إسرائيل إحياء بند بتفاهم نيسان، وينص على حماية المدنيين بأي مواجهة قد تحصل مع لبنان لضمان أمن مستوطنيها”.
لكنه يدعو إلى التعامل مع التهديدات الإسرائيلية بجدية، معبرا عن خشيته “إذا دخلنا بهدنة إنسانية طويلة في غزة، ألا تتوقف المواجهات العسكرية جنوب لبنان” خصوصا أن لدى إسرائيل لائحة أسماء على قائمة من تنوي اغتيالهم، معظمها بين لبنان وفلسطين، و”هذه العمليات التي قد تمضي بها، حتى لو توقفت الحرب كليا أو بهدنة، كفيلة بإشعال جبهة الجنوب اللبناني”.