على بعد أيام قليلة من الدخول المدرسي للعام الحالي، وفي الوقت الذي كان فيه الفرنسيون من أولياء أمور ورجال تعليم ينتظرون خبرا سعيدا، يطمئنهم بتحقق معجزة وجود عدد كاف من المعلمين أمام المقاعد الدراسية، كان لوزير التعليم الفرنسي حينها غابريال عتال اهتمام آخر، إذ إن اهتمامه بالتعليم المدرسي كان قد توارى أمام انشغاله بحلبة السياسة، وظهوره مع إعلان وصفه المتابعون بـ “الغريب” وسوَّق له إعلاميا بـ”منع العباية في مدارس الجمهورية”.
بدا القرار مستهدِفا للمسلمين بوضوح، في محاولة جديدة لإثارة مشاكل غير موجودة في الأوساط التعليمية الفرنسية، تماما كما سبق أن حدث مع قانون منع الرموز الدينية في المدارس عام 2004، فلم تكن العباية حينها موضوعَ رأي عام، بل لم تكن معروفة في الأوساط المجتمعية الفرنسية، وهو ما أكده مقال لجريدة لوموند نُشِر بعد إصدار القانون للتعريف بهذا اللباس “الإسلامي”، شارحا للقراء الفرق بينه وبين ملابس أخرى إسلامية أو غير إسلامية.
لم يلبث عتال كثيرا في منصبه على رأس وزارة التعليم، بل صعد بسرعة إلى كرسي رئاسة الوزراء، مفتخرا أثناء حفل تسلمُّه منصبه الجديد بذلك الإنجاز الكبير الذي حققه في وقت قياسي، وهو “منع أمتار من القماش الفضفاض” من الجلوس على مقاعد مدارس الجمهورية الخامسة، على حد وصفه. وتعتبر هذه القصة القصيرة حلقة بسيطة في مسلسل طويل اسمه “التضييق على المسلمين” في فرنسا، وهو مسلسل بدأ منذ عقود طويلة، ويعيش اليوم أبرز مَشاهده، وهي صعود ظاهرة الهجرة المُعاكسة من طرف المسلمين بحثًا عن مُتنفَّس جديد لا تُفرَض فيه قِيَم “التحرر والتقدم” بالسوط والحديد.
حرية بالإكراه
حينما اشتعلت نيران مقاطعة المنتجات الفرنسية كالنار في هشيم الدول العربية والإسلامية ردًّا على تبني الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرسوم المسيئة للنبي محمد عليه الصلاة والسلام، مع تسليط بعض الضوء على الواقع المعيش للجالية المسلمة، خصوصا بعد إقرار قانون الانعزالية الإسلامية؛ رفض محمد موسوي، رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، جميع الادعاءات التي تقول إن المسلمين في فرنسا يعيشون اضطهادا دينيا، وأكد في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية (AFP) أن المسلمين يعيشون حياة عادية، ويبنون مساجدهم ويمارسون ديانتهم بحرية، مختتما كلامه بتوجيه رسالة إلى مسلمي فرنسا حاثا إياهم على الدفاع عن “بلدهم” في مواجهة دعوات مقاطعة المنتجات الفرنسية.
يعكس تصريح رئيس المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية التوجه الرسمي الذي طالما حاولت الحكومات الفرنسية الترويج له، فهو يتسق تماما مع تصريح ماكرون بأن الهدف من جميع القوانين التي تصدرها حكومته هو التضييق على “الأصولية الإسلامية” لا الدين الإسلامي نفسه. وبإمكاننا أن نقرأ الطرح نفسه في تصريحات مارين لوبان، سليلة الأسرة اليمينية العريقة في فرنسا، التي أكدت غير ما مرة أن إشكالها القائم هو مع الإسلاموية (أي الإسلام السياسي)، وليس مع الإسلام نفسه.
بيد أن هذا الرأي لا يتبناه الجميع، والاستثناء هنا يتزعمه أقصى اليمين الجديد برعاية إيريك زمور وماريون ماريشال لوبان اللذان يعتقدان أن المشكلة في الإسلام نفسه. والرجل المهم الذي ينتمي إلى هذا الاستثناء هو جيرارد دارمانان، وزير داخلية ماكرون الذي يختلف عن رئيسه بالتعبير عن موقف واضح حول الإسلام نفسه، لا الإسلاموية فحسب كما يصفها ماكرون أو لوبان. وتُترجِم العديد من القصص الصحافية اليومية هذه التوجهات الرسمية أو غير الرسمية، حيث تعيش فرنسا على وقع صناعة كراهية سياسية وإعلامية لا تخطئها عين المشاهد، وتتصدر المشهد قنوات من قبيل “سي نيوز” المملوكة لرجل الأعمال اليميني فانسون بولوري وقناة “بي إف إم” المملوكة لرجل الأعمال الإسرائيلي الفرنسي المغربي الأصل باتريك دراهي.
لقد أضحت البرامج في هذه القنوات خصوصا، وفي المشهد الإعلامي الفرنسي عموما، تقتات على المشاهدات الواردة من برامج نشر الإسلاموفوبيا. ففي فرنسا، وعكس دول غربية أخرى، ظهر النقاش منذ مدة طويلة عن الحق في التعبير عن “الإسلاموفوبيا”، وقال كثيرون إنها لا تُعتبر شكلا من أشكال التمييز العنصري، كما صار السياسيون في غالبيتهم الأهم يتجنبون استعمال لفظ “الإسلاموفوبيا” مستبدلين إياها بعبارات أخرى من قبيل “الكراهية ضد المسلمين” أو “العنصرية ضد المسلمين”. في فرنسا اليوم يُصوَّر المسلمون والمتعاطفون معهم على أنهم أشخاص خطيرون على حرية التعبير؛ لكونهم يرغبون في منع أي نقاش حول دينهم، ولذلك يعتبر الرأي العام السياسي والإعلامي في غالبيته أن “الإسلاموفوبيا” ما هي إلا محاولة لفرض رقابة دينية على الأفكار الحرة.
عاشت باريس منذ عقود طويلة على وقع التخوف من الوجود الإسلامي في مستعمراتها السابقة، وعلى وقع التحرج من وجود المسلمين على “أراضيها العلمانية المقدسة”. ففي عام 2017 تمكن ماكرون من منع اليمين المتطرف الفرنسي من الوصول إلى الحكم بعد تفوقه على مارين لوبان في الانتخابات الرئاسية، لكنه سمح بوصول أفكار هذا التيار الأكثر راديكالية إلى تشكيلاته الحكومية، فكانت النتيجة قانون “النزعة الانفصالية” السيّئ السمعة. وقبل إقرار هذا القانون الذي جاء في سياق صحي واقتصادي صعب بسبب وباء كوفيد 19، بدت بوادر التضييق صارخة من خلال حملة سياسية وإعلامية شرسة ضد الجالية المسلمة بعد اغتيال المدرس صامويل باتي، وكان الهدف من هذه الحملة واضحا: “تجريم الإسلام والمسلمين”.
يحكي رفائيل كمبف، المحامي وعضو نقابة المحامين بباريس قصة تُظهِر التناقض الكبير الذي أصبحت تعاني منه فرنسا العلمانية في حربها الضروس على المسلمين داخل أراضيها، هي حكاية جاكلين أوستاش-برينيو، وهي عضو في مجلس الشيوخ من حزب “الجمهوريون” اليميني، وعمدة سابقة لبلدية سان جراتيان في الضاحية الباريسية، كانت قد رفضت منح المسلمين حق استغلال قاعة تابعة للبلدية أثناء شهر رمضان عام 2011. وقد رفع المتضررون دعوى ضد البلدية وعُمدتها أمام القضاء الإداري، واعتبر مجلس الدولة حينها أن أوستاش-برينيو خرقت بطريقة خطيرة وغير قانونية حرية التجمع والعبادة التي ينص عليها الدستور، وبالتحديد قانون 1905 المتعلق بالفصل بين الكنائس والدولة. يعني ذلك فعليا انتهاك علمانية الدولة دفاعا عن علمانية الدولة على حد وصف كمبف. ولم تقف حكاية أوستاش-برينيو هنا، فقد عملت في لجنة التحقيق التابعة لمجلس الشيوخ، التي شُكِّلت عام 2019 من أجل تتبُّع التطرف الإسلامي وسبل مكافحته.
جاء التقرير النهائي لتلك اللجنة خادما لتصور عرضه ماكرون لاحقا يعتبر أن الوجود الإسلامي في فرنسا تجاوز التطرف ووصل إلى حدّ إيجاد أراضٍ شبه منعزلة غير تابعة للدولة تُطبَّق فيها الشريعة الإسلامية بدل القانون الفرنسي. بل قال التقرير إن أعضاء البرلمان الفرنسي، الذين يسهرون على الحفاظ على مكتسبات الثورة الفرنسية وشعارها الخالد “الحرية والمساواة والإخاء”، أبدوا مرارة وحسرة على عدم تبني السياسات العربية القمعية اتجاه الإسلاميين كما كان يفعل نظام بن علي في تونس، والنظام العسكري في الجزائر أثناء العشرية السوداء.
تمخضت هذه اللجنة العلمانية الراغبة في الحفاظ على “الحرية وحقوق الإنسان” عن 44 اقتراحا، منها على سبيل المثال لا الحصر توسيع التحقيقات الإدارية “الأمنية” لتضم جميع الوظائف التي تعتبر “حساسة” لكونها ذات علاقة مباشرة بالقاصرين، مثل مهن التربية والتعليم، بحيث يتم التأكد من عدم وجود أي ميول أو تفضيلات دينية لدى المرشح الذي سيعمل في هذه المجالات. أظهر التقرير أيضا رغبة جامحة لدى أعضاء مجلس الشيوخ في منح الحرية المطلقة للسلطات الأمنية وأجهزة المخابرات في تحديد مستويات التديّن التي لا يجوز تجاوزها حسب فهم الضباط للتفسيرات الدينية الشرعية.
الهروب الكبير
منذ انفجار حمى الدفاع عن الأفكار المتطرفة في فرنسا، ظهر مفهوم “الاستبدال الكبير” وتناقلته القنوات بطريقة توحي بأن الاحتلال العربي والإسلامي لفرنسا أصبح واقعا. ولكن على الجهة المقابلة، لا يتحدث كثيرون عن الهروب الكبير الذي تفشى بالفعل في وسط المسلمين، وليس الحديث هنا عن المهاجرين الحديثين، بل عن الجيل الثاني أو الثالث من أبناء المهاجرين، من حاملي الجنسية الفرنسية.
قبل تشريح هذه الظاهرة، يجب علينا توضيح نقطة مهمة، وهي أننا لسنا بصدد الحديث عن هروب المتدينين في هجرة “شرعية” من بلد غير مسلم إلى بلد آخر مسلم، بل الحديث عن هروب مواطنين من أصول عربية وإسلامية، أيا كان مستوى تدينهم، أو إيمانهم بالدين الإسلامي؛ وذلك لأن التمييز ضد الجالية العربية الإسلامية لا يستثني أحدا، فالاسم والشكل بحد ذاتهما أصبحا وصمة، والدين مصيبة فردية يحملها المواطن الفرنسي المسلم سواء كان من أصول مهاجرة أو معتنقا جديدا للديانة الإسلامية.
يمكننا هنا على سبيل المثال لا الحصر النظر في التجربة المجتمعية التي قامت بها جمعية “SOS RACISME” من أجل مقارنة حظوظ المهاجرين أو أبناء المهاجرين بحظوظ الفرنسيين ذوي الأصول “البيضاء” في الحصول على السكن. وقد أفادت الجمعية أن الردود الإيجابية على طلب استئجار سكن كانت بمعدل 48% للفرنسيين ذوي الأصول البيضاء، و46% لذوي الأصول الآسيوية. ثم تنخفض هذه النسبة إلى 15% فقط عندما يتعلق الأمر بالمهاجرين ذوي الأصول المغاربية، ثم 12% للمنحدرين من أصول أفريقية. يخضع هذا التمييز هنا للعرق حصرا، فهو لا يتدخل أبدا بمدى تدين الراغب في السكن، ولا مدى التزامه الأخلاقي، بل يكتفي بالحكم على أصوله واسمه بعيدا عن جنسيته التي قد تكون فرنسية أصلا. ويدفع هذا التمييز العديد من المواطنين الفرنسيين ذوي الأصول المهاجرة، إلى ترك البلاد أملا في غد أفضل لهم ولأبنائهم، وهم مهاجرون من حملة الشهادات العليا وجدوا أنه في آخر النفق الفرنسي ليس هناك أي أمل.
نار الهجرة خير من جنة العلمانية الفرنسية
في تقرير لها بعنوان “الرحيل الصامت للمسلمين في فرنسا”، ذكرت صحيفة نيويورك تايمز قصة مواطن من أصول مسلمة ترك “بلاده” مباشرة بعد هجمات عام 2015. ويقول المتحدث شارحا سبب تركه فرنسا إنه عَلِم بعد هذه الهجمات “أنهم لن يسامحوه”، لذلك اختار الرحيل إلى فيلاديلفيا، لأن الحياة هناك أقل توترا بكثير من الحياة في قلب باريس التي أصبحت معادية للمسلمين أكثر من أي وقت مضى. وأشارت نيويورك تايمز إلى نزيف العقول المسلمة الذي تعيشه فرنسا حاليا، حيث يقول موظفون مؤهلون وأساتذة جامعيون وأصحاب شهادات عليا إن التمييز والعنصرية شائعان، وإن ندرة فرص الترقي الوظيفي والمجتمعي ناتجة عن هذين السببين بالأساس. هذا وتبلغ نسبة حاملي الشهادات العليا بين الفارين من فرنسا حوالي 54%.
تفاعلا مع تقرير الصحيفة الأميركية، تساءلت صحيفة لو نوفيل أوبسيرفاتور عن سبب ندرة الدراسات الفرنسية التي تتناول موضوع هجرة المسلمين في بلد يمنع أي إحصاءات إثنية أو دينية. وأضافت الصحيفة الفرنسية أن الرقم الذي تم التوصل إليه هو أن 200 ألف مواطن فرنسي مسلم تركوا البلاد حتى عام 2015، أي قبل دخول فرنسا في دوامة الهجمات التي تبناها في غالبيتها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وأشارت الصحيفة إلى أن النقطة التي أفاضت الكأس بالنسبة للأغلبية المهاجرة هي الحدود الوظيفية والسقف الزجاجي الذي لا يمكن لشخص قادم من خلفية غير الخلفية الفرنسية البيضاء أن يتجاوزه. وينطلق الأمر من مجرد البحث عن تدريب في إحدى الشركات، حيث يكون الأمر صعبا على أصحاب الهويات ذات الأصول المهاجرة، ومستحيلا على كل من تظهر ميوله الدينية من خلال مظهره الخارجي (مثل الحجاب أو اللحية).
بعد الخروج من فرنسا والوصول إلى الدولة المُستقبِلة، تقول الشهادات، تبدأ الحياة في اتخاذ بعد جديد، بحيث تصبح الهوية والدين مجرد تفصيلة من تفاصيل الحياة غير المؤثرة في أي طموحات علمية أو وظيفية، كما لم تعد الأسر تخشى المصير الضبابي لأبنائها الذين كانوا سيعيدون في أحسن الأحوال استنساخ التجربة المريرة التي عاشتها الأجيال الأولى من المهاجرين في فرنسا. وهناك نقطة أخرى لا تقل أهمية ذكرها بعض المهاجرين من فرنسا من أبناء المهاجرين، وهي الإحساس بالهوية الفرنسية، إذ يحس هؤلاء بأنهم فرنسيون حقيقة أمام أنفسهم وأمام الآخرين حينما يهاجرون من فرنسا، في حين يعيشون بحثا عن تأكيد ذلك لعقود طويلة دون أي نجاح يذكر في البلد الذي ولدوا وعاشوا فيه.
أما عن الدول التي يتم اختيارها لترك فرنسا، فغالبية المصادر تشير إلى بلدين على رأس القائمة هما بريطانيا وكندا، ثم بعد ذلك تأتي دول أخرى مثل الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة، ثم الدول المغاربية التي قدم منها غالبية الأجداد. وعن تفسير هذا الاختيار، يقول أوليفي استيفيز، الباحث الفرنسي وأحد مؤلفي كتاب “تحبها وستتركها”، إن بريطانيا لم يتم اجتياحها من طرف النازيين ولم تتعاون مع هتلر، ومن ثمَّ فهي ليست مهووسة بموضوع معاداة السامية، التي يتم اتهام الجالية الإسلامية الآن بتصدر الحاملين لشعاراتها في فرنسا، دون نسيان أن بريطانيا وضعت منذ ستينيات القرن الماضي سياسات صارمة لمحاربة التمييز، أما كندا فهي بلد متعدد الثقافات يشجع الهجرة وخصوصا هجرة العقول والكفاءات العليا من دون التفات لأي عامل آخر مثل الأصل العرقي أو الإيمان الديني.
فلسطين: المعضلة الجديدة
سيكون من نافلة القول الحديث عن الزلزال السياسي الكبير الذي تسبب فيه طوفان الأقصى منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حيث وجد “العالم الحر” نفسه فجأة في مواجهة مباشرة مع المبادئ التي تحدث عنها طويلا، واحتل بلادا من أجل التبشير بها. لم تشكل فرنسا استثناء فيما رآه الكثيرون ازدواجية للمعايير الغربية، بل لعلها منذ البداية كانت من أشرس الداعمين لحكومة نتنياهو في الضرب بيد من حديد، كما اقترح ماكرون تشكيل تحالف دولي للقضاء على حماس، مثل التحالف السابق الذي استهدف داعش. لقد وضعت القضية الفلسطينية الجالية العربية والإسلامية أمام مفترق طرق، فكل إظهار للتعاطف مع فلسطين يعتبر “ترويجا للإرهاب”، في الوقت الذي كانت المسيرات الداعمة لإسرائيل تردد هتافات داعمة لنتنياهو وحكومته اليمينية المتهمة اليوم بالضلوع في جرائم حرب ضد الإنسانية.
يذكر تقرير لموقع “أورينت 21” قصة موظف فرنسي من أصول عربية أكد أنه من دون طلب من أي أحد، فضل فرض رقابة شخصية على نفسه، وعدم الخوض أبدا في موضوع الحرب على غزة لأن أي رأي يتهم تصرفات دولة الاحتلال يعني بالضرورة دعما لحماس المصنّفة منظمةً إرهابية، وهو ما تترتّب عليه أضرار كبيرة قضائيا واجتماعيا ووظيفيا. ليس الأمر مجرد مخاوف قادمة من العدم، فقد شهدت فرنسا ارتفاعا كبيرا في عدد الدعاوى القضائية بتهمة “دعم إرهاب حماس”، فقد ذكرت صحيفة لوموند أن عدد القضايا التي عرفتها المحاكم الفرنسية حتى 30 من يناير/كانون الثاني 2024 وصلت إلى 626 دعوى قائمة من بينها 278 دعوة مصدرها المركز الوطني لمكافحة الكراهية عبر الإنترنت. لا تستثني هذه الاستدعاءات أحدا، لكونها تمسّ نشطاء مجتمع ونقابيين وزعماء سياسيين ومسؤولين محليين ونوابا برلمانيين.
يشير تقرير لموقع “أورينت 21” إلى قصة نادية، وهي مواطنة فرنسية نشرت على حسابها الشخصي بأحد مواقع التواصل مقالا لصحيفة لوبوان مع اقتباس لأبي عبيدة قال فيه إن ما يحدث من إبادة للسكان الفلسطينيين في غزة سيدفع ثمنه الرهائن الإسرائيليون. بعد أسابيع من التدوينة، تلقت نادية اتصالا هاتفيا من شخص قدم نفسه على أنه موظف شركة كهرباء يريد التأكد من وجودها في المنزل للقدوم لقراءة العدادات، وبعد دقائق أتتها مكالمة من مقر الشرطة تطلب حضورها، وأرسلت 3 سيارات شرطة لتفتيش منزلها فصودر حاسوبها الشخصي والتُقِطَت صور لأغراضها الخاصة وبينها سجادة صلاة ومصحف وبعض الكتب.
في قسم الشرطة واجهت نادية مجموعة من الأسئلة حول إدراكها أن مشاركة هذه المنشورات تعني تمجيدها “لمذبحة اليهود وقطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء” كما تلقت أسئلة أخرى حول طقوسها الدينية وحياتها الخاصة. وأضاف هذا الاضطهاد سببا إضافيا إلى عدد من العرب والمسلمين من أجل أخذ قرار ترك فرنسا قبل أن تتخطفهم أيادي القبضة الأمنية الفرنسية التي أصبحت تهلث وراء أي حرف عربي أو رمز إسلامي أو ذكر لإله ينافس آلهة العلمانية المتعددة. أما الذين لم يفكروا في الهجرة الطوعية، فإن قدر الطرد من التراب الفرنسي أصبح خيارا ممكنا وواضحا، كما يحدث حاليا لرئيس مجلس بيساك في ضواحي بوردو، الذي صدر قرار ترحيله بسبب الضجيج الكبير الذي يحدثه دعما لفلسطين ولغزة.
“ماذا تفعل هنا؟” كان هذا هو السؤال الذي طرحته مالكة السوق الممتاز ذات الأصول العربية. أصبح هذا السؤال يزداد إلحاحًا في السنوات الأخيرة، بسبب اقتناع مفاده أن البقاء في فرنسا لمن يملك خيارات أخرى أمر شديد الغرابة. بعد تلك الواقعة مباشرة انتشر خبر الاعتداء على مسجد غير بعيد من السوق الممتاز نفسه، وكُتب على المسجد “كونوا عنصريين، صوتوا للبيض”. بعدها بأيام، وبالتحديد في يوم 6 يونيو/حزيران، اكتسح حزب مارين لوبان انتخابات البرلمان الأوروبي في فرنسا، فارضا بذلك إعادة تشكيل حكومة جديدة على رئيس البلاد إيمانويل ماكرون، الذي قد يكون أول رئيس في تاريخ الجمهورية الخامسة يعمل جنبا إلى جنب مع رئيس وزراء من اليمين المتطرف العنصري.