قال موقع مودرن دبلوماسي إن موجة من الاضطرابات المدنية التي اجتاحت فرنسا قبل بضعة أشهر غذتها الخصومات العرقية المتزايدة.
وأضاف الموقع -الذي يهتم بالقضايا الدولية خاصة الأوروبية- أن العالم كله شهد اندلاع الفوضى في دولة أوروبية كبرى، تعرض خلالها الناس للضرب ونهبت فيه الأموال وأحرقت المركبات وارتكبت أعمال تخريب لا حصر لها، وذلك في وقت غاب فيه منطق الدولة عن الإليزيه، واهتزت الحكومة الفرنسية، التي لم تقدر على الاستجابة بفعالية، بسبب زلزال الصدمات السياسية التي تلت ذلك.
وقد أظهر رد فعل المواطنين العاديين مزيجا من عدم التصديق والقلق والفزع والغضب وعدم اليقين، وكأنهم أدركوا في لحظة عدم وجود ضمان موثوق لاحترام حياتهم وسلامتهم وممتلكاتهم، خاصة أن هذه الأحداث وقعت قبيل الذكرى السنوية للثورة الفرنسية، ويمكن تفسيرها من منظور بعيد المدى، باعتبارها تأكيدا قويا على أن الأوهام المتعلقة بالسلام والوئام الدائمين قد تحطمت بفعل الواقع.
فك رموز الأزمة
ورأى الموقع -في مقال لخوسيه ميغيل ألونسو ترابانكو- أن ربط هذه الأحداث بقتل قوات الشرطة الفرنسية مراهقا عربيا في إطلاق نار مأساوي تبسيط مبالغ فيه للواقع، لأن مثل هذا الحدث كان مجرد الدافع الذي أشعل فتيل أعمال الشغب.
ويقول ترابانكو إن الأزمة كانت تختمر منذ فترة، وهي نتيجة لخلل بنيوي غير شخصي، حيث تبنت فرنسا في العقود الأخيرة نمطا من الهجرة الجماعية يأتي في معظمه من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، للتعويض عن انخفاض معدلات المواليد بين السكان المحليين وكذلك لاستيراد عمالة رخيصة، استفاد منها السياسيون المهتمون ببناء كتلة للتصويت.
وعلى عكس الدول الأخرى، لم تبذل باريس جهدا سياسيا منهجيا لتشجيع استيعاب يضمن درجة معقولة من التماسك الاجتماعي، وتبنت التعددية الثقافية كنموذج يسهل التعايش المتناغم، باعتبارها الوريث الشرعي الرئيسي لعصر التنوير، إلا أن الأمور سارت بشكل مختلف، ولم يحقق النموذج ما كان يرتجى، لتصبح فرنسا معقلا للإسلاميين المتشددين والتوترات العرقية، حسب الكاتب.
ورغم أن بعض المهاجرين الأفراد يندمجون بسلاسة وينجحون في جميع مناحي الحياة -كما يرى الكاتب- فإن المواطنين الفرنسيين الليبراليين ينظرون إليهم باستخفاف باعتبارهم مجموعات غير مستنيرة ومتخلفة يجب أن تتبنى معتقدات ليبرالية، وكذلك بالنسبة للقوميين المتشددين، فإن الوجود المتزايد للمهاجرين الأفارقة والعرب ممن يفضلون عدم الاندماج يجب ألا يكون موضع ترحيب، لأن خلفياتهم الاجتماعية والثقافية والدينية واللغوية مختلفة إلى حد كبير، ووجودهم يضعف نسيج المجتمع ويتحدى الحفاظ على “أسلوب الحياة الفرنسي”.
وفي المقابل، يرى بعض هؤلاء المهاجرين أن فرنسا التي منحت بعضهم جنسيتها، كجزء كبير من العالم الغربي، تزدريهم، وأنها مجتمع متدهور مليء بالفردية والكفر والغطرسة الفكرية وانعدام الجذور والبحث عن المتعة والفساد الأخلاقي والاختلاط الجنسي، وهم لا يريدون الانتماء إلى ذلك، بل هم هنا لكسب لقمة العيش لا للتشبه بالفرنسيين.
كما أن هؤلاء المهاجرين يخزنون كثيرا من الاستياء السياسي، لتصرفات فرنسا في الشرق الأوسط والمغرب العربي وأفريقيا، رغم ولائها الخطابي لمبادئ الحرية والمساواة والأخوة.
وبغض النظر عما قد يتصوره المرء حول الشرعية النهائية لهذه المطالبات المتضاربة، فمن الواضح أن التوصل إلى تسوية مؤقتة وظيفية يشكل مسعى صعبا على أقل تقدير، خاصة أن الدولة الفرنسية لم تفعل شيئا لمعالجة هذه القضايا ولا لبناء الجسور، لأن القادة والمحللين الليبراليين في نهاية المطاف، يفتقرون للأطر المعرفية المناسبة لتحديد هذه التحديات وتشخيصها والتعامل معها.
رغم أن الموجة الأخيرة من أعمال الشغب في المناطق الحضرية في فرنسا تبدو كأنها قد هدأت، فإن جذورها البنيوية الأساسية تظل دون تغيير، وعليه فإن هذه الحلقة -حسب الكاتب- تنذر بتصاعد العنف عاجلا أم آجلا، ومن المرجح أن يكون حجم الأزمة المقبلة أكبر من الناحيتين الكمية والنوعية
وقد أدى ذلك إلى تصاعد التوترات وانتشار أعمال العنف وصعود القوى القومية المتشددة، وتركز المهاجرين غير المندمجين في جيوب عرقية لا ترى اعتبارا للدولة الفرنسية، أصبح يطلق عليها “المناطق المحظورة”، حيث يختفي القانون الدستوري، حتى أن أعضاء نشطين وسابقين في الجيش الفرنسي حذروا من احتمال تصاعد التوترات مما يؤدي إلى “حرب عنصرية”.
وأشارت رسالتهم الأخيرة -الموقعة من قبل 100 ألف جندي نشط حسب زعمهم- إلى أن الجيش الفرنسي قد يتعين عليه استعادة النظام في حالة التمرد أو الحرب الأهلية، إلا أن هذه التوقعات رفضت باعتبارها تهدف لإثارة الخوف بدافع من التسييس.
ونبه الكاتب إلى وجود عامل رئيسي آخر هو تأثير التطورات الخارجية، مثل آثار الربيع العربي التي سهلت وصول “الجهاديين” إلى فرنسا، وكذلك التدخلات العسكرية الروسية والأميركية العلنية والسرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، المدفوعة بمصلحة خفية في إثارة نزوح جماعي لا يمكن استيعابه أو إدارته أو السيطرة عليه من قبل دول أوروبية مثل فرنسا بغرض زرع بذور الاضطراب، في إجراء متسق مع السياسة الواقعية المكيافيلية.
العواقب المحتملة
ويبدو أن النتيجة الأكثر وضوحا حسب معظم وسائل الإعلام والمعلقين الرئيسيين لهذه التطورات هي صعود القوى القومية المتشددة سياسيا ونيل رسالتها صدى مجتمعيا أكبر، وهو ما يفيد ساسة من أمثال مارين لوبان وإيريك زمور والشبكات التي تشترك في أيديولوجيتهم بدرجات متفاوتة، كما يرى الكاتب.
وهناك 3 آثار أخرى تحتاج إلى دراسة -حسب الكاتب- منها فشل التعددية الثقافية، علما أن التوترات العرقية هي التي أشعلت شرارة التفكك العنيف في يوغسلافيا السابقة، ولعبت دورا مهما في سقوط الاتحاد السوفياتي، وهي أحد المكونات الرئيسية في العديد مما يسمى “الصراعات المجمدة”، كما أنه محرك رئيسي للصراع في مناطق المواجهة.
ومنها -يضيف الكاتب- أن تورط فرنسا، التي تتمتع بقدرات صناعية متقدمة وترسانة نووية خاصة بها وهي عضو رئيسي في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فضلا عن كونها أحد المحركين للاتحاد الأوروبي، في صراع داخلي قد ينطوي على مخاطر تهدد توازن القوى الإقليمي في أوروبا، وربما حتى الاستقرار الإستراتيجي، خاصة أن الانتصار المحتمل لأي من القوى القومية أو الإسلاميين من شأنه أن يغير على الأرجح التوازن الدولي.
كما أن من شأن الحرب الأهلية في فرنسا أن تفتح فرصا للتدخل الأجنبي، سواء كان سريا أو علنيا، وبالتالي قد تعتمد الدول الأخرى، حسب مصالحها وميولها الأيديولوجية، دعم الليبراليين أو القوميين أو الإسلاميين أو الأفارقة، ويمكن لدول مثل روسيا أن تدعم أكثر من فصيل وأن تنخرط في “إجراءات نشطة” من أجل إثارة الفوضى في أوروبا وتقويض وحدة ما يسمى “الغرب الجماعي”.
فرنسا ربما تكون بالفعل في حالة حرب أهلية منخفضة الحدة، ويبقى أن يتضح هل ستبقى الاشتباكات متقطعة أم أنها ستخرج عن نطاق السيطرة
ما المتوقع؟
وخلص الكاتب إلى أن فرنسا ربما تكون بالفعل في حالة حرب أهلية منخفضة الحدة، ويبقى أن يتضح هل ستبقى الاشتباكات متقطعة أم أنها ستخرج عن نطاق السيطرة، ويعكس رد الفعل غير الحاسم من جانب الحكومة الفرنسية عدم الرغبة في مواجهة الوضع الصعب، إلا أن توقع أن تختفي المشاكل من تلقاء نفسها أشبه بدفن الرأس في الرمال، ومن المرجح أن تستجيب سياسة “النعامة” هذه لمصالح ماكرون السياسية على المدى القصير، لكنها لن تحل الأزمة.
ومع ذلك هناك خيارات يجب أن تعتمد عليها فرنسا -حسب الكاتب- مثل سياسات الاستيعاب، بما تتطلبه من تحقيق تكامل أفضل بين المجموعات الديموغرافية الشديدة التباين، وذلك بعدد أكبر من حالات الزواج المختلط وتشجيع ارتفاع معدلات المواليد، ومثل مكافحة التمرد، إذ لا يمكن كسب الصراع غير النظامي عن طريق تطبيق القانون التقليدي -كما يرى الكاتب- وبالتالي يتطلب الأمر استهداف القادة الأيديولوجيين والسياسيين والعملياتيين الأساسيين للشبكات الإسلامية المسلحة، كما أن التقاعس عن العمل من شأنه أن يشجع نمو الجماعات شبه العسكرية اليمينية مثل “جيل الهوية” و”رابطة الدفاع اليهودية”، مما يعزز مناخ العصيان.
وإضافة إلى سياسات الاستيعاب ومكافحة التمرد، لا بد من إعادة صياغة سياسات الهجرة، وذلك بفرض لوائح أكثر صرامة للهجرة استنادا إلى معايير انتقائية، وتذهب القوى القومية المتشددة إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، إذ يطالبون باتخاذ إجراءات جذرية مثل الحد من الهجرة القانونية، ومراقبة الدولة المشددة للمساجد، وحتى إزالة المهاجرين الحاليين الذين يرفضون الاندماج.
ورغم أن الموجة الأخيرة من أعمال الشغب في المناطق الحضرية في فرنسا تبدو وكأنها قد هدأت، فإن جذورها البنيوية الأساسية تظل دون تغيير، وعليه فإن هذه الحلقة -كما يختم الكاتب- تنذر بتصاعد العنف عاجلا أم آجلا، ومن المرجح أن يكون حجم الأزمة المقبلة أكبر من الناحيتين الكمية والنوعية.