كامبالا- خرجت أوغندا، الجمهورية الواقعة على ضفاف بحيرة فيكتوريا في وسط أفريقيا، من الاستعمار البريطاني في 1962 بإرث ثقافي وسياسي ثقيل، تمثّل بمملكة حاولت الجمهورية الناشئة على أنقاضها أن تحل محلها، مشتبكة مع تاريخ وهُوية مستحكمة في نفوس مواطنيها، لكن الاشتباك أسفر عن تعايش فريد حيث يتوسط تاج المملكة مركز الجمهورية.
يحكم مملكة “بوغندا” -الواقعة داخل أراضي وحدود جمهورية أوغندا- ملك متوّج، ويتبع له رعية قوامها 12 مليون نسمة، وبرلمان وحكومة ومجلس مستشارين قبليين، وأراض تمتد على قرابة 61 ألف كيلومتر مربع. وتعدّ بوغندا واحدة من أقدم ممالك أفريقيا التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
يعود تاريخ المملكة للقرن 13، وكانت حينها بوغندا واحدة من 5 إمارات عشائرية صغيرة متناثرة على طول الشاطئ الشمالي لبحيرة فيكتوريا، ومتناحرة فيما بينهما، وعلى رأس كل إمارة منها “موتاكا”؛ أي رئيس عشيرة.
بداية غامضة
يغيب التاريخ المدوّن للحظة نشوء المملكة، لذا تتضارب الأخبار حول كيفية اجتماع تلك الإمارات المتناثرة لتستحيل واحدة من أقوى ممالك شرق أفريقيا.
يقول البروفسور والمؤرخ سيماكولا كيوانوكا، في مقابلة مع الجزيرة نت، إن بدايات مملكة بوغندا تعود للحظة عبور العشائر من نظام محلي صغير، وهش إلى تشكيل نظام أكثر قوة وتماسكا، وسلطة مركزية تتمدد وتتوسع.
ويضيف أن هذا الانتقال لم يحصل بالضرورة بحثا عن المكاسب الاقتصادية، فمن المرجح -حسب الروايات المتناقلة- أن الإمارة الأكثر قوة تمكنت من إخضاع جيرانها لسلطتها، لتتشكل تباعا المملكة بالشكل الذي استمرت عليه حتى يومنا هذا.
ويُعتقد أن “كاباكا كانتو كنتو” -وكلمة “كاباكا” تعني الملك- كان أول من بدأ بمحاولات توحيد العشائر في القرن 13، لكن من غير المحقق أنه شخصية حقيقية، حسب البروفسور؛ نظرا لأنه يحمل اسم أحد الشخصيات الأسطورية في الروايات الشفهية لشعوب بوغندا.
وللتعرف إلى ما تقوله مؤسسات المملكة الرسمية عن تاريخها، توجهنا إلى مقر حكومة المملكة في مبنى مهيب يعود إلى خمسينيات القرن 20 في قلب كمبالا؛ عاصمة أوغندا الجمهورية، لنلتقي بالمتحدث الرسمي باسم المملكة وزير الإعلام أوييك كازيبوي.
يقول كازيبوي إن “كاباكا تشووا” في بداية القرن 14، شكّل حلفا من 5 عشائر، ليتمكن خلال حكمه من توسيع السيطرة الجغرافية لأولى ممالك بوغندا. وضم الحلف آنذاك عشائر: ففومبيه، ولوغافيه، ونونغيه، ونجازا، ونيونيي، ومع التوسع انضمت 6 عشائر إضافية للحلف.
وبهدف تمتينه وإشراك “الشعوب” أي العشائر المنضوية تحت لوائه، عقد “كاباكا تشووا” مجمعا عشائريا، وشكّل مجلس مستشارين ملكيين يتألف من زعماء العشائر. في ذلك المجمع أرسى الملك ركائز حكمه، التي ستتحول لاحقا لدستور المملكة.
ركائز المملكة
يجول بنا الوزير كازيبوي في مقر السلطة التنفيذية “الحكومة” والسلطة التشريعة “البرلمان”، بينما يشرح ركائز آليات الحكم وانتقاله في المملكة.
تتمثل الركيزة الأولى في السلالة الملكية، التي قد تختلف عن الملكيات التقليدية، فهي لا تنتقل بالضرورة بالوراثة المباشرة، إذ يمكنها الانتقال داخل أفرع العائلة المالكة، بأن يختار كاباكا أي الملك ولي عهده، أو من يراه الشخص المؤهل لتولي شؤون المملكة. وعند تسمية الخلف، يرسل للعيش في منازل كبار الشخصيات العشائرية ليتعلم منهم آداب السياسة والدبلوماسية، واحترام التقاليد والموروث.
الركيزة الثانية هي العشائر، حسب كازيبوي، واختيار الاسم “عشيرة وليس قبيلة” ليس له أي مدلول عن حجم المجموعة المقصودة، بل لأنه الاسم المستخدم منذ القِدم. وتحمل كل عشيرة “طوطما” أو رمزا تستمد منه اسمها، (منها فأر القصب، الزباد، السنجاب، الماعز، الظبي، الغراب، وغيرها)، نظرا لارتباط شعوب بوغندا بالبيئة المحيطة وتقديرهم للكائنات الحية، إذ إن احترام الطبيعة جزء أساسي من ثقافة ونمط حياتهم.
أما الركيزة الثالثة، فهم رعية كاباكا، أي عامة الشعب. وهؤلاء ليسوا على هامش صنع السياسة أو آلية اتخاذ القرار حسب الوزير، فمنهم ينتقي كاباكا القادة والوزراء والمسؤولين، وبهذه الطريقة يتاح للرعية “خدمة مملكتهم وملكهم، عبر لعب أدوار قيادية إن تم اختيارهم”. حسب تعبير المتحدث باسم المملكة.
الإسلام والاستعمار
يعدّ البوغنديون النصف الثاني من القرن 19 بداية وصول الإسلام إلى مملكتهم، وكان ذلك في عهد كاباكا موتيسا الأول في 1876، الذي استقبل تجارا عربا قدِموا من الشمال، وأسهموا في نشر الإسلام بين السكان. وغالبا ما كان موتيسا الأول يستقبلهم في قصره، وفي 1877 صام شهر رمضان بعد اعتناقه الإسلام.
ويعدّ كاباكا موتيسا الأول من أبرز الملوك الذين حكموا بوغندا، وهذا ما يؤيده البروفسور كيوانوكا. ثم خلفه كاباكا موانغا الثاني، الذي قاتل الاستعمار البريطاني وحكم لفترتين ما بين 1884-1888 ثم 1889-1897 ويعتقد أنه الشخصية نفسها التي يسميها باقي المسلمين في أوغندا “كاباكا نوهو كالما”.
“يدل اسم بوغندا على رِزمة من الأغصان المرصوصة بجانب بعضها، ومن هذا التشبيه ربما يمكنني أن أقرّب لك فكرة بقاء مملكة بوغندا”، هكذا فسّر المؤرخ صمود بوغندا أثناء حقبة الاستعمار.
ويضيف “يتميز شعبنا بتعدد الأديان، هناك من يؤمنون بالمسيحية، وآخرون مسلمون أو من بقوا على الديانة الوثنية القديمة، لكن ما يجمعهم هو الإيمان -أيضا- بأن وحدتهم هي سبب قوتهم”.
كما يعدّ البروفسور كيوانوكا أن شعب بوغندا لديهم مناعة مجتمعية تمكنه من التأقلم والتأثير أكثر من التأثر، وهذا ما مكّنهم من إحداث تغييرات لا تمس جوهرهم، لكن تمكنهم من التأقلم مع المتغيرات السياسية.
ويقول “تشبهنا اليابان، بداية لم يكن من الممكن رؤية الإمبراطور من عامة الشعب، لكنه الآن يتحدث إليهم ويخاطبهم، وشعبي فعلوا شيئا مشابها أثناء حقبة الاستعمار”.
بعد محاولات مخفقة للإفلات من قبضة المستعمر البريطاني، خضعت بوغندا لما سُميت بـ”الحماية البريطانية” في 1884، آنذاك أطلقت بريطانيا اسم “أوغندا” على المملكة، وهو اشتقاق الاسم من المصطلح السواحيلي.
يلخّص البروفسور كيوانوكا تاريخ ملوك بوغندا مع المستعمرين، فيقول “إن كاباكا المسلم موانغا الثاني، قاتل في البداية القوات البريطانية، إلا أن جيشه المحدود لم يتمكن من الصمود أمام قوة الإمبراطورية، فوقع في الأسر ونُفي إلى سيشيل ومات في زنزانته خارج أرضه، لذا تعارفت المصادر البوغندية، وكذلك المفتون على تسميته الملك الشهيد”.
الاستقلال والهوية الثقافية
بدأ طريق بوغندا نحو الاستقلال في مارس/آذار 1961 بالحكم الذاتي، وأصبحت دولة مستقلة في أكتوبر/تشرين الأول 1962، ولم يؤمن الجميع حينها بمفهوم الحكومة المركزية القوية.
عاصرت المملكة حقبات متعددة، يقول البروفسور كيوانوكا “عندما تولى ميلتون أوبوتي رئاسة الحكومة مررنا بأخطر مراحل وجودنا، هاجمت قواته القصر الملكي في 1966 وكادت أن تقتل الملك، ثم علّق أوبوتي العمل بالدستور وألغى كل الممالك، وحتى اليوم لم نغفر له فعلته هذه”.
ويضيف “عاصرنا حكم عيدي أمين دادا، وشهدنا إلغاء المؤسسات الثقافية، لكن البوغندا ظلوا صامدين ملتفين حول ملكهم”، حتى تسلّم الرئيس الحالي يوري موسيفيني الحكم، فأعطى الدستور التأسيسي لأوغندا 4 ممالك تقليدية، ومنها مملكة بوغندا، منزلة اتحادية داخل الحكومة. واختير كاباكا موتيسا الثاني، ملكا لبوغندا وتولى العرش في 1993 بوصفه الملك 36 للمملكة.
أصرت مملكة بوغندا على الحفاظ على هُويتها السياسية حينا والثقافية دوما، كما يقول الوزير كازيبوي. ويضيف “تتلخص تقاليدنا بأمور رئيسة؛ منها: طريقة الحياة في المنزل حيث نتعلم آداب الحديث إلى الناس واستقبال الزوار وقواعد الضيافة، ماذا نقول وماذا نمتنع عن قوله، وهكذا”.
ويضيف “هناك تقاليد أساسية للحفاظ على التماسك المجتمعي؛ مثل: زيارة الأهل والعائلة الممتدة، صلة الرحم نتعلم أهميتها ونحافظ عليها حتى اليوم، سن البلوغ وسن الزواج ومهر العروس، ومجلس الحكماء الذين يختصون بشؤون العائلة وتماسكها، ويفصلون في أي خلاف بين الزوجين، هذه مهمة جدا، كلها ضمن أسلوب حياتنا”.
ويتناقل التاريخ الشفاهي للمملكة أن الرداء التقليدي للرجال الذي يطابق الثوب العربي أُخذ من لباس التجار العرب الذين زاروا المملكة وأقاموا علاقات تجارية معها.
المملكة اليوم
تحتفل مملكة بوغندا بيومها الوطني، قبل يوم واحد من اليوم الوطني الأوغندي، ولا يقدم البروفسور أو الوزير تفسيرا سوى أن للمملكة تاريخا أقدم من الدولة.
وعن التعايش بين المملكة والدولة، يقول الوزير “عندما تمت استعادة حقوقنا الثقافية، حرصنا على الحفاظ عليها ضمن قوانين الدولة المركزية، لذلك فالسلطة الممنوحة للمملكة هي سلطة ثقافية تقليدية، ولا نلعب أدوارا سياسية مباشرة. ولكن فعليا على أرض الواقع نحن منخرطون بالعمل السياسي عبر مؤسساتنا”.
أما المؤرخ فيقول “كاباكا هو الشخص الأكثر شعبية في المملكة، وحتى على الصعيد الوطني. عندما يخرج من قصره الذي يقع على بعد ميل واحد عن مقر الحكومة لمرة واحدة، يمكنك أن ترى عشرات الآلاف من الناس يصطفون للترحيب به. وإذا قال الآن إننا سنقاتل فسنقاتل”.
من يراقب المشهد السياسي الحالي في أوغندا التي تحتضن مملكة بوغندا، لن يحتاج إلى جهد كبير ليلمح أن مملكة بوغندا أقرب إلى دور المعارضة منها إلى الشراكة في الحكم؛ فمواطنو البوغندا يفخرون بمملكتهم ولا يخفون تحفظاتهم على كثير من سياسة حكومات أوغندا المتعاقبة.
وتبدأ هذه التحفظات بالتساؤل عن سبب اعتماد اللغة الإنجليزية لغة رسمية للبلاد، ولا تنتهي بالخشية من ازدياد أعداد المهاجرين من الدول المحيطة وتحولهم إلى مواطنين، بدافع الخوف على الهوية المؤسسة للدولة، وتراث كلفهم كثيرا في رحلة الحفاظ عليه منذ نشوء مملكة بوغندا.