مبتورو الأطراف في غزة يتعلّقون بالأمل

فريق التحرير
كتب فريق التحرير 7 دقيقة للقراءة

غزة- قاربت الساعة الثالثة من فجر 16 مايو/أيار الماضي، حينما استيقظت إسراء الدلو من حالة الإغماء. كان الظلام دامسا، والغبار يملأ الأجواء، ولم تكن تشعر بجسدها، وكانت غير قادرة على تحريكه، فأدركت الفتاة البالغة من العمر 17 عاما أن الصاروخ الإسرائيلي الذي سقط على منزلها قذف بها عشرات الأمتار في الهواء، وألقى بها على قارعة الطريق، قبل أن تفقد وعيها مرة أخرى.

حينما استيقظت داخل سيارة إسعاف مجددا، سألت المُسعف على الفور “هل هناك شيء مبتور من جسمي؟”، لكنه فضل عدم الإجابة، وحتى الآن، لا تدري الفتاة الفلسطينية ما الذي دفعها لطرح هذا السؤال، لكن حدسها كان صحيحا، لأنها فقدت رجليها الاثنتين فعلا.

اسودّت الحياة في وجه إسراء التي تعيش في مدينة غزة شمال القطاع، وشعرت أن كل شيء قد انتهى، وأصبحت حياتها أكثر قسوة وصعوبة، فقد كان عليها أن تتأقلم مع العزلة في المنزل، وأن تتعلم الزحف على الأرض، وصعود الدرج على يديها ورجليها.

إسراء الدلو فقدت رِجليها جراء غارة إسرائيلية وعانت كثيرا على مدى عام كامل (الجزيرة)

ولم تجد الفتاة الشابة من يدفعها على الكرسي المتحرك، حيث إنها تعيش برفقة أمها الكبيرة في السن، في حين أُجبر والدها وأشقاؤها على النزوح لجنوبي القطاع.

ووسط الآلام والخوف، وضعف العلاج، واستمرار الحرب بمآسيها التي لا تنتهي، تسلل خبر سار إلى حياة إسراء التي يملؤها العدم، لم تتخيل إمكانية حدوثه إبان الحرب، فلقد علِمت أن مركز الأطراف الصناعية التابع لبلدية غزة قد عاد للعمل، بتمويل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التي نجحت في إدخال المواد الخام لتشغيله، فتوجهت الفتاة للمركز، وبدأت في عملية التأهيل لتركيب طرفين صناعيين.

مرّ أمير شمالي برحلة رعب مروعة خلال تلقيه العلاج عقب إصابته التي أسفرت عن بتر رجله شمالي: تركيب الطرف سيعيدني إلى الحياة وسأقدر على حمل طفلتي كأي أب
شمالي: تركيب الطرف سيعيدني إلى الحياة وسأقدر على حمل طفلتي كأي أب (الجزيرة)

بصيص أمل

داخل مركز الأطراف الصناعية الذي تديره بلدية غزة، تنبعث أصوات الأجهزة الطبية، مختلطة بأنفاس المرضى المُثقلين بذكريات مُفجعة تسببت بتغيير حياتهم إلى الأبد. ويبدأ المصابون المبتورة أطرافهم رحلة استعادة الحركة والحياة، من خلال تمارين علاج طبيعي، وتدريب قد يستغرق فترة 3 شهور، لتكييف أجسادهم مع الوافد الجديد.

فهذا أمير شمالي، الشاب البالغ من العمر 26 عاما، لا يقدر على نسيان بقائه يوما كاملا ملقى على الأرض في مستشفى الشفاء، لعدم وجود طاقم طبي يقدم له العلاج، بينما جُرحا رجله وبطنه ينزفان، حتى شارف على الوفاة، لولا نقله لمركز صحي آخر، وإمداده بـ10 وحدات دم كاملة، وبتر رجله المُصابة.

لم يكن هذا حال أمير فقط، فقد كان العشرات من الجرحى مرميّين على الأسرة وطرقات المستشفى، ينزفون دون وجود طواقم طبية تعالجهم، بعد أن أجبرها الاحتلال آنذاك على مغادرة المستشفى.

ولم يفقد أمير رجله من قذيفة إسرائيلية، بل بنيران قناص كان يهدف إلى قتله، وكان هذا في شهر نوفمبر/تشرين الأول 2023. وبعد انسحاب الدبابات خاطر إخوته بأنفسهم ونقلوه إلى المستشفى على عربة فقدت الدابّة التي تجرها، وهم يتوقعون الموت في كل لحظة برصاص القناصة والطائرات المُسيرة.

ومنذ أكثر من عام، يعاني أمير الويلات جراء إصابته، وعجزه عن تلبية احتياجات أسرته، والحصول على قوت يومه، وصعوبة الهرب من الاجتياحات الإسرائيلية المفاجئة. ويمثل الطرف الصناعي، بالنسبة لأمير “ماء الحياة” الذي سيمكنه من الصمود في قادم أيامه، وعلى الأقل سيساعده على حمل طفلته والسير بها.

-الطفلة سيلا هي الناجية الوحيدة من أسرتها حيث استشهد والداها وشقيقاتها الثلاث وفقدت رجلها -تحاول الطفلة سيلا أبو عقلين استئناف طفولتها المتعطلة عقب بتر رجلها وتتدرب على تركيب طرف صناعي -الطفلة سيلا "5 سنوات" فقدت رجلها في غارة إسرائيلية فأصبحت مثل فراشة فقدت أحد جناحيها
الطفلة سيلا هي الناجية الوحيدة من أسرتها وتحاول التدرب على تركيب طرف صناعي بعد بتر رجلها (الجزيرة)

“سبقوني للجنة”

لا تذكر الطفلة سيلا أبو عقلين البالغة من العمر 5 سنوات، من مأساتها سوى أنها كانت نائمة مع شقيقاتها، صِبا وفرح ولِيلِي، في غرفتهن، بينما كان والداهم في غرفة أخرى، قبل أن يتعرض منزلهم للقصف في 6 ديسمبر/كانون الأول 2023، وهو ما أسفر عن استشهاد جميع أفراد أسرتها، وبقيت هي وحيدة.

استيقظت سيلا لتجد نفسها بين الركام، بدون رجل، حيث بُترت من أعلى الفخذ، ووجد أقاربها الذين احتضنوها بعد رحيل أسرتها صعوبة بالغة في التعامل معها، حيث كانت طوال الوقت تنادي على أمها وأبيها وشقيقاتها الثلاث.

بعد عدة شهور، بدأت سيلا في التأقلم مع فقدان الأسرة، وحينما تُسأل عنهم تُجيب “بابا وماما ماتوا، وصِبا وفرح ولِيلِي ماتوا، هم الآن في الجنة، ورِجلي في الجنة”.

وتبدو سيلا سعيدة اليوم داخل المركز، وهي تتدرب على استخدام الطرف الصناعي داخل ممشى مكون من جسرين معدنيين، على أمل أن يساعدها على استئناف طفولتها المتعطلة.

-تأسس مركز الأطراف الصناعية ببلدية غزة عام 1975، لمساعدة ضحايا الجرائم الإسرائيلية
من الصعوبات التي تواجه المركز عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل مولد الكهرباء الذي يغذي الآلات (الجزيرة)

الآلاف ينتظرون

تأسس مركز الأطراف الصناعية ببلدية غزة شمال القطاع عام 1975، لمساعدة ضحايا الجرائم الإسرائيلية، لكنه توقف عن العمل مع بداية الحرب في أكتوبر/تشرين الأول 2023.

ونظرا للحاجة الماسة له في ظل الأعداد الكبيرة من الجرحى المبتورة أقدامهم، استأنف عمله بشكل جزئي في 22 يوليو/تموز الماضي، بتمويل من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ثم توسع العمل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بحسب نيفين الغصين، القائمة بإدارة أعمال رئيس المركز.

وبحسب الغصين، تسلم 7 جرحى أطرافهم الصناعية بشكل فعلي، بينهم 5 أطفال، كما ينتظر 13 آخرون دورهم بعد انتهاء عملية التأهيل، بينما يواجه المركز صعوبات جراء عدم توفر الوقود اللازم لتشغيل مولد الكهرباء الذي يغذي آلاته.

الناطق باسم الصليب الأحمر هشام مهنا: من 5 إلى 6 آلاف حالة بتر في قطاع غزة جراء الحرب
مهنا: سجّل في برنامج الدعم نحو 5 آلاف جريح بغرض توفير أطراف صناعية لهم (الجزيرة)

ورغم الدور المهم الذي يلعبه المركز، فإن خدماته تبقى محدودة في ظل عدم قدرة الجرحى في جنوبي قطاع غزة-حيث الغالبية العظمى من السكان- على الوصول إليه.

ولا توجد معلومات دقيقة عن أعداد الأشخاص الذين بُترت أطرافهم خلال الحرب، لكن التقديرات تشير إلى أنهم ما بين 5 إلى 6 آلاف شخص، بحسب الناطق باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر هشام مهنا.

ويضيف أن الصليب الأحمر أطلق برنامجا لمساعدة هذه الفئة، سجّل فيه نحو 5 آلاف جريح بغرض توفير أطراف صناعية لهم، موضحا أن تنفيذ البرنامج لا يخلو من تحديات، أهمها قلة الدعم الإنساني الذي يسمح الاحتلال بإدخاله لقطاع غزة، بما فيه الأجهزة المساعدة والأدوات اللازمة لتجهيز وتركيب الأطراف الصناعية، بالإضافة إلى صعوبة التنقل بين محافظات القطاع.

شارك المقال
اترك تعليقك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *