لندن- أعاد الموقف من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة رسم خريطة الاصطفاف في صفوف الطبقة السياسية البريطانية، وذلك في عام انتخابي لا تمكن فيه قراءة أغلب المواقف بمنطق عائد الأصوات فقط، بل أيضا بانقسام سياسي وأيديولوجي واضح بشأن التعاطي مع القضية الفلسطينية.
ففي الوقت الذي تتماهى فيه الحكومة البريطانية -بقيادة حزب المحافظين– مع السياسات الإسرائيلية، وتؤيد استمرار الحرب على القطاع، يبرز حزب الخضر في بريطانيا ليكون أحد الأصوات الأشد نقدا لسلوك صناع القرار في لندن.
ودعا حزب الخضر -في بيان له- الحكومة البريطانية إلى تبني نهج أكثر صرامة مع إسرائيل، لدفعها للاستجابة للدعوة لوقف إطلاق النار في غزة، وطالب بمنع إمداد تل أبيب بصادرات الأسلحة، وملاحقة مرتكبي جرائم الحرب من القادة الإسرائيليين ممن يحملون الجنسية البريطانية، إلى جانب فرض مقاطعة على إسرائيل تمنع مشاركة وفودها في الفعاليات الرياضية والفنية.
وحذر الحزب مما وصفه بـ”تواطؤ الحكومة البريطانية مع حكومة إسرائيلية لا يبدو أنها تُلقي بالا للتحذيرات الدولية بشأن التداعيات الكارثية لأي عملية عسكرية محتملة في رفح”، مطالبا المجتمع الدولي بالتدخل لوقف عمليات القتل الجارية بحق المدنيين في قطاع غزة.
تمرد على التقليد
يتبنى حزب الخضر في بريطانيا (المعروف أيضا باسم حزب الخضر في إنجلترا وويلز) أيديولوجية يسارية مناهضة للسياسات التقليدية للأحزاب السياسية البريطانية، ومنحازة لقضايا العدالة الاجتماعية وحقوق الأقليات وسياسات حماية البيئة، وتزامن صعوده في الساحة السياسية البريطانية مع ما وُصفت بـ”الموجة الخضراء” في أوروبا.
وشهدت تلك الفترة بروزا لأحزاب الخضر وتحول عملها السياسي من “جماعات ضغط” مناهضة لسياسات الرأسمالية إلى أحزاب سياسية تنافس ببرامج انتخابية على مقاعد البرلمانات الأوروبية، إذ يعد حزب الخضر في بريطانيا رابع قوة سياسية في البلاد، ويتطلع لحصد نسبة تمثيل كبرى خلال الانتخابات البرلمانية المقبلة المرتقبة العام الجاري.
وفي حين دأب خصوم الخضر على وسم خطابهم السياسي بـ”الطوباوي” الذي لا يتسق مع التحديات الآنية التي تواجهها البلاد، فربما لا تغيب حسابات فوز أو خسارة أصوات الناخبين عن أجندة الحزب هذه المرة، وسعيه لتعزيز حظوظه في الانتخابات المقبلة، في الوقت الذي تتصاعد فيه المخاوف في الجوار الأوروبي القريب من استحواذ اليمين الشعبوي على أغلبية مريحة في انتخابات البرلمان الأوروبي المرتقبة منتصف العام الجاري.
وتعد هذه الانتخابات الأولى من نوعها بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وهو ما يطرح تحديا جديدا بالنسبة لأحزب يسار الوسط وأحزاب الخضر، التي تحاول فرض أجنداتها على قادة القارة، ويبدو أن وجودها مهدد أمام الصعود القوي المتوقع لليمين الشعبوي.
ورقة الحرب
ورغم أن التحديات الداخلية تعد الخيط الناظم للبرامج الانتخابية لمختلف الأحزاب السياسية البريطانية، وفي مقدمتها دخول البلاد في حالة انكماش اقتصادي وأزمة القطاع الصحي، فإن تداعيات الحرب على غزة، وحالة الاستقطاب السياسي الحاد التي أثارها الموقف البريطاني من العملية العسكرية الإسرائيلية على أهالي القطاع، يتوقع أن تحتل مركزا متقدما في سلم أولويات الناخب البريطاني.
فبعد أن شهدت البلاد طول الأشهر الأربعة الماضية مظاهرات حاشدة تطالب بوقف الحرب على القطاع، وسط ارتفاع نسبة البريطانيين المؤيدين لتبني بلادهم موقفا يدعو لوقف فوري لإطلاق النار، كان حزب الخضر قد طالب بوقف استهداف المدنيين منذ بدء الحملة العسكرية، معتبرا أن الفراغ السياسي وغياب حل يلبي الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني أدى إلى تنامي خطاب الكراهية واتساع دائرة العنف والصراع في المنطقة.
وواصل الحزب خلال الأشهر الماضية تبنيه خطابا ناقدا للدور الذي تلعبه الحكومة البريطانية في هذا الصراع، ودعمها غير المشروط للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضد ما يصفها بـ”المذبحة المروعة” ضد أهالي قطاع غزة.
انتقاد حزب العمال
لكن دائرة النقد الحاد الذي وجهه حزب الخضر للحكومة امتدت لتشمل أيضا حزب العمال، أحد أبرز أحزاب المعارضة، الذي تتقاطع أدبياته السياسية مع التوجه اليساري لأحزاب الخضر، إذ يرى الخضر أن تلكؤ زعيم العمال كير ستارمر في الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار في غزة يوازي السلوك السياسي الذي تتبناه الحكومة البريطانية الداعمة لإسرائيل.
في المقابل، يحاول زعيم حزب العمال، الذي عمقت مواقفه المؤيدة لاستمرار الحرب ضد القطاع الشروخ في صفوف كوادر حزبه وقواعده الانتخابية، تدارك أزمة حزبه الداخلية، عبر صياغة موقف متمايز عن توجه خصمه السياسي حزب المحافظين، لكن من دون إثارة غضب اليمين وداعمي إسرائيل.
و قال ستارمر -خلال خطاب له أمام مؤيدي حزبه في أسكتلندا- إن “وقفا دائما لإطلاق النار في غزة يجب أن يحدث الآن”، في الوقت الذي يستعد فيه مجلس العموم البريطاني يوم الأربعاء للتصويت للمرة الثانية على قرار بوقف فوري لإطلاق النار في غزة طرحه الحزب الوطني الأسكتلندي، يُخشى أن يدخل الحزب على إثر ذلك في طور آخر من الانقسامات والسجالات الحادة.