سلطت العمليات العسكرية التي يشنها الجيش الإسرائيلي على لبنان، منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول الجاري، الضوء على واقع اللاجئين السوريين المقيمين على الأراضي اللبنانية بوصفهم حلقة ضعيفة تفتقر إلى الأمان وتواجه خطر الموت من جديد، بعد أن نجت منه في سوريا.
وذكرت تقارير حكومية لبنانية أن أكثر من 100 سوري لقوا حتفهم بهجمات صاروخية شنتها مقاتلات حربية إسرائيلية على بلدات ومدن جنوب ووسط وشمال البلاد، بينهم 36 سيدة و50 طفلا، في حين أصيب 237 آخرون.
وبهذا الخصوص، قال بيان للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين إن الآلاف من اللبنانيين والسوريين دُفعوا للهرب إلى سوريا، مع استمرار حصاد الغارات الإسرائيلية لأرواح المدنيين.
وأشار البيان إلى أن عديدا من الأشخاص وصلوا سيرا على الأقدام، في حين تنتظر حشود كبيرة -تضم نساء وأطفالا ورضعا- دورها للعبور بعد أيام من المبيت بالعراء تحت تأثير درجات حرارة منخفضة، ويعاني بعضهم إصابات حديثة جراء القصف الأخير.
وتقدر وحدة إدارة مخاطر الكوارث التابعة للحكومة اللبنانية عدد الذين عبروا الحدود الدولية خلال أسبوعين بنحو 400 ألف شخص، أغلبهم سوريون.
الصواريخ تلاحق السوريين
وتزامنت الضربات الجوية الإسرائيلية على المدنيين في لبنان، مع ضربات مماثلة شنها الجيش السوري النظامي بمساعدة القوات الروسية على مناطق آهلة بالسكان في ريفي إدلب وحلب شمال البلاد (خارج سلطة النظام) أسفرت عن مقتل وجرح العشرات، معظمهم من الأطفال والنساء.
وعبّر نائب منسق الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية مارك كتس عن مخاوفه من تفاقم الأوضاع -في إحاطة قدمها للصحفيين بنيويورك- قائلا “إننا قلقون للغاية بشأن الوضع في شمال سوريا، وكما تعلمون فإن واحدة من بين أكثر الفئات السكانية ضعفا في العالم تعيش في تلك المنطقة”.
وتضم المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة في الشمال السوري -حسب تقارير الأمم المتحدة– نحو2.8 مليون نازح هربوا من مناطق الصراع وتعرضوا لمعاناة كبيرة حين فروا من مكان لآخر ولحقت بهم القنابل، وفق كتس.
ويختصر عبد الفتاح الأحمد الاختبار المؤلم الذي واجهه اللاجئون السوريون خلال العقد الأخير بقوله “لقد فررنا بأرواحنا من المذبحة السورية إلى لبنان، وها نحن نفر من جديد من مذبحة أخرى، لكننا لا نعرف بعد إلى أي منفى، فكل الأمكنة أصبحت غير آمنة بالنسبة إلينا”.
في أبريل/نيسان 2018، استطاع الأحمد أن ينجو مع أفراد أسرته من المجزرة المروعة التي ارتكبتها قوات الأسد، عندما شنت هجوما بأسلحة كيميائية محظورة دوليا على مدينة دوما بالغوطة الشرقية (10 كيلومترات عن دمشق) سقط ضحيته المئات.
وتمكن بعد معاناة شديدة من الفرار إلى لبنان، حيث أقام مع عائلته لفترة قصيرة في منطقة البقاع، ثم انتقل إلى أحد أحياء بيروت.
وبعد التصعيد العسكري الإسرائيلي، تعرضت العمارات التي تجاور مكان إقامته لهجوم صاروخي دمرها بشكل كامل وتضرر منزله بشكل جزئي، فوجدت العائلة نفسها مضطرة من جديد للبحث عن ملاذ آمن آخر في منفاها، وسط فيضان بشري لبناني يتحرك هو الآخر نحو أحياء أكثر أمنا.
أضاف الأحمد في محادثة هاتفية “لقد نجونا ثانية من الموت، لا أستطيع التعبير عما رأيناه، وكل الذي أريد قوله هو أن حجم العنف الذي جرى إيقاعه بنا من خلال تجربتنا في سوريا ولبنان ليس ساحقا فحسب، بل هو جريمة حرب لا يمكن تصورها إنسانيا وأخلاقيا”.
لا توجد خيارات أمام السوريين
ونفى الأحمد في حديثه للجزيرة نت أن تكون لدى العائلات السورية اللاجئة خيارات مفتوحة في ظل الإبادة التي ترتكبها إسرائيل، وقال إن معظم الفارين من مناطق القصف يلجؤون في معظم الأحيان إلى المدارس والحدائق ودور العبادة بعد أن امتلأت مراكز الإيواء الحكومية والأهلية باللبنانيين الذين تضررت مناطقهم.
ووصف مشهد الخوف والفرار والنزوح الجماعي السوري بأنه معتاد، “فقد عشنا لسنوات تحت وابل من صواريخ نظام الأسد وقذائف المدفعية، التي كانت تنهال علينا يوميا في الغوطة الشرقية”.
ويقيم الأحمد مع عائلته المؤلفة من 4 أفراد، مع فارين آخرين، في موقف سيارات أسفل عمارة سكنية قريبة من كورنيش بيروت، حيث يمضي وقته بعد أن توقف عمله الخاص (في ديكور المنازل) بتأمين احتياجات أسرته، ومتابعة أخبار النازحين العائدين إلى سوريا، لعل خبرا يعيد إليه الأمل بإمكانية عودته بعد أن حالت دونها دواع أمنية، حسب قوله.
وذكر ناشطون حقوقيون أن عددا كبيرا من السوريين الذين فروا من الجنوب إلى مناطق الشمال والبقاع، والذين غصت بهم مراكز الإيواء في العاصمة وطرابلس وبر الياس وسعد نايل وشتورة ومجدل عنجر، يترقب العودة إلى سوريا بعد أن يتأكد لهم الوضع الآمن بمساعدة المفوضية السامية لشؤون اللاجئين.
واستبعد الناشط الحقوقي السوري طارق الحلبي المقيم في بيروت أن يوفر نظام الأسد هذا الأمان لمن يتهمهم بالخيانة، زاعما وقوفهم إلى جانب المعارضة ضد نظامه.
وقال للجزيرة نت إنه حتى اللحظة لم يبد النظام أي مرونة تجاه عودة اللاجئين، خاصة أولئك الذين تندرج أسماؤهم على لوائح المطلوبين، نظرا لمشاركتهم في الاحتجاجات التي شهدتها المدن عام 2011، ويزيد عددهم على 3 ملايين سوري.
ويرى أن الدلائل كلها تشير إلى أن التكتيكات التي اتبعها طوال السنوات الـ13 الماضية قامت على أسس معادية للآخر بهدف تفريغ الساحة من الرافعة الشعبية للمعارضة ودفعها نحو الفرار لخطورتها على استقراره، ولذلك “لا مصلحة له في عودة أي لاجئ إلى مدينته” لسببين:
- تفريغ الحواضن التي رفعت في مطلع الثورة شعارات “إنهاء حكم الفرد، وتداول السلطة وعدم الاستئثار بها، وإتاحة الحريات السياسية واحترام حقوق الإنسان”.
- عجزه عن ممارسة مسؤولياته تجاه شعبه، بعد أن استهلكت الحرب موارد الدولة ومدخراتها من العملات الصعبة، وانهار الاقتصاد لدرجة الهشاشة، وأصبح فشله واضحا في تأمين روافع الطاقة، والغذاء والمواد غير الغذائية الأساسية.
وتشير تقارير إعلامية ميدانية إلى أن أغلب السوريين الذين عبروا الحدود إلى بلادهم هم من المقيمين بسبب ارتباطهم بنشاط اقتصادي أومن النازحين لأسباب معيشية، وقد استفادوا من الإجراء الذي علقت الحكومة السورية بموجبه العمل بقرار يلزم السوريين العائدين من الخارج تصريف 100 دولار إلى الليرة السورية عند المنافذ الحدودية.
في حين يتجنب نحو أكثر من نصف مليون لاجئ الحديث عن عودة مفترضة نتيجة ما يعانون في الواقع من رهاب العودة لدواع أمنية، والخوف من خطر الاعتقال والتعذيب حتى الموت داخل السجون.
وفي الإطار نفسه، يعزز الأستاذ المحاضر في جامعة ليون فابريس بالانش ما ذهبت إليه التقارير -عندما أوضح على موقع لوريون توداي اللبناني- أن الذين لديهم أسباب سياسية -وتحديدا أولئك الذين كانوا جزءا من المعارضة أو ببساطة أولئك الذين عاشوا في أحياء أو مناطق شهدت تمردا- فإن العودة بالنسبة إليهم مستحيلة حتى لو أعلن الأسد عن عفو، فإنهم لن يثقوا به، ويرى أنه من الممكن اعتقالهم في أي وقت من قبل جهاز المخابرات، وهناك عديد من الأمثلة على ذلك.
اللاجئون والمجتمع الدولي
من جهة أخرى، يشكل اللجوء السوري القسري أحد التحديات التي يواجهها المجتمع الدولي خلال العقد الأخير، وصدرت سوريا أكبر عدد منهم على مستوى العالم، حيث يوجد -بحسب نائب المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا نجاة رشدي- أكثر من 13 مليون سوري غادروا بلداتهم ومدنهم قسرا، في حين نزح عام 2023 وحده 174 ألف شخص آخرين داخل البلاد، ليصل العدد الإجمالي إلى 7.2 ملايين نازح داخليا، و6.5 ملايين لاجئ وطالب لجوء قسرا تستضيفهم 137 دولة.
وأكدت رشدي -في تصريحات إعلامية- أن هذه الأرقام تمثل كوارث إنسانية لا حصر لها، وكل منها قصة خسارة، وهذه المعاناة يجب أن تدفع المجتمع الدولي إلى معالجة الأسباب الجذرية للنزوح القسري بشكل عاجل، على حد قولها.
غير أن انخفاض التوقعات حول دور جدي للمجتمع الدولي في تبني معالجة كهذه، دفع أوروبا التي تستضيف أكبر عدد من اللاجئين السوريين لاعتماد نهج جديد في تعاملها مع قضايا الهجرة، في تحول لافت، بدأته إيطاليا التي تراهن رئيسة وزرائها جورجيا ميلوني على إعادة نحو مليون لاجئ غير شرعي، بينهم سوريون، وفق خطة قالت إنها نجحت في خفض عدد اللاجئين إلى شواطئها من 140 ألف عام 2023 إلى 55 ألفا فقط هذا العام.
وتحاول بريطانيا وألمانيا وفرنسا إلى جانب دول أوروبية أخرى دعم النهج الذي يركز على تفويض السيطرة على الحدود إلى دول العبور والاستفادة من تجربة إيطاليا، إثر تصاعد حركة النزوح السوري من لبنان نتيجة حرب الإبادة التي تخوضها إسرائيل على أراضيه وظهور مخاوف أوروبية من موجات هجرة جديدة.
وفي المسار ذاته، قررت مجموعة الدول السبع -في اجتماعها الأخير الذي انعقد في إيطاليا مطلع الشهر الجاري- إنشاء وحدة عمليات مشتركة ونشر فرق دولية لمكافحة الجريمة وضباط استخبارات في بؤر الهجرة الساخنة للحد من تحركات المهاجرين، وإيقافهم قبل الإبحار إلى سواحل الاتحاد الأوروبي.
كما اتفقت على استكشاف شراكات منصفة ومفيدة مع بلدان المنشأ والعبور والمقصد بهدف التعاون في مجال مكافحة تهريب المهاجرين، والاتجار بالأشخاص وأمن الحدود.
واليوم، أعلنت المفوضية الأوروبية أن نصف مليون مهاجر غير نظامي تسلموا أوامر لمغادرة دول الاتحاد.
الأسد: عودة اللاجئين مشروطة
من جانبه، لا يرى الرئيس السوري بشار الأسد أي مانع يحول دون عودة اللاجئين إلى وطنهم، ففي كلمة له أمام رؤساء مجالس المحافظات السورية، دعا كل من غادر الوطن بفعل الإرهاب للعودة إليه، للقيام بواجباته الوطنية، والمساهمة في بناء بلده، فالوطن لجميع أبنائه الذين ينتمون إليه بصدق، بالروح والعقل والقلب لا بالهوية وجواز السفر، على حد قوله.
غير أنه في مقابل السماح بهذا الحق اشترط على المجتمع الدولي سلسلة من المطالب، أوضحها في بيان رئاسي لاحق أبرزها “ضرورة تأمين البنية الأساسية، ومتطلبات الإعمار والتأهيل بكافة أشكالها، ودعمها بمشاريع التعافي المبكر التي تمكن العائدين من استعادة دورة حياتهم الطبيعية”.
كما كشف الرئيس السوري -في لقاء تلفزيوني- شروطا أخرى تتمثل في عودة أقل من نصف مليون لاجئ بقليل، لم يسجن أي شخص من بينهم، وأضاف “بالنسبة لنا في سوريا، أصدرنا قانون عفو عن كل من تورط بالأحداث خلال السنوات الماضية، طبعا ما عدا الجرائم المثبتة التي فيها حقوق، خاصة حقوق الدم كما تسمى”.
سردية أبعد ما تكون عن الحقيقة
ورغم محاولته الظهور على الساحة الدولية بوصفه رئيسا متسامحا يقدم مراسيم عفو في خطوة تصالحية، على أمل القبول بنظامه، فإن رئيس الائتلاف الوطني السوري المعارض هادي البحرة يراها -من جانب آخر- أداة من الأدوات التي يعتمدها النظام للتلاعب بالمشهد السياسي.
وأوضح في مقال، خص به موقع الجزيرة نت، أن الفحص الدقيق لها يكشف أنها تركت مساحة واسعة أمام الأجهزة الأمنية للتلاعب بمصائر الأفراد الذين يُفترض أنهم مشمولون بالعفو.
ومع أنها تخص بعض الجرائم، إلا أنها تستثني -برأيه- التهم الملفقة التي يوجهها النظام إلى معارضيه السياسيين، مثل “الإرهاب” و”الخيانة العظمى”، مما يعني -بحسب البحرة- أن غالبية المعتقلين السياسيين والنشطاء يبقون خارج نطاق هذه المراسيم، وهو ما يجعلها غير فعالة في توفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين.
أما الكاتبة مي السعدني فقد اعتبرت دعوة الأسد لعودة اللاجئين إلى البلاد، حسب الوقائع، أبعد ما تكون عن الحقيقة، وقالت إن الغائب من هذه الدعوة هو تحذير واحد غير قابل للتفاوض “ليس كل سوري مرحبا به، بل كل سوري مخلص للنظام فقط”.
ودعمت رأيها بتصريحات نقلتها عن لسان مدير المخابرات الجوية جميل الحسن، الذي أصدرت ألمانيا بحقه مذكرة توقيف دولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، إذ قال فيها إن “سوريا مع 10 ملايين شخص موثوقين مطيعين للقيادة أفضل من سوريا مع 30 مليون مخرب، ولن نقبل بوجود خلايا سرطانية، وسيتم استئصالها”.
وكشف الحسن عن أن أكثر من 3 ملايين سوري مطلوبون حاليا، وتم إعداد ملفات قضائية لجميعهم، معتبرا أن كل مواطن سوري يكون عائقا أمام خطة النظام في توطيد السلطة سيصنف “إرهابيا”، وسيتم التعامل معه وفقا لذلك.
وأكدت السعدني -في مقال بصحيفة ذا هيل الأميركية- أن تصريحات الحسن لم تكن مجرد كلمات أمام أنصار الأسد خلف الأبواب المغلقة، ففي وقت مبكر واجه عديد من اللاجئين العائدين إلى سوريا تهديدات كبيرة واعتقالات، وكذلك الموت.
ونوهت إلى أن “الأسد الذي يحاول بناء دبلوماسية على أمل أن يفتن الغرب، لا تبدي تصرفاته أي استعداد لتحمل المسؤولية عن الفظائع التي ارتكبت ويعمل مع مختلف أدواته الإدارية والقانونية وغيرها على إعادة إدخال استبداد أقوى من ذي قبل، مبني على عدم التسامح مطلقا مع المعارضة والاعتراف بالخطأ”.
العودة تبدأ برحيل النظام
ويؤكد المختص بالقانون الجنائي الدولي وحقوق الإنسان المعتصم الكيلاني -المقيم في باريس- الرأي ذاته، ويصف موقف النظام تجاه اللاجئين بالخطير نظرا لانتهاكه قواعد القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان التي تضمن حرية الحركة، بما في ذلك حق العودة الطوعية.
وشدد في حديثه للجزيرة نت على ضرورة أن يزيد المجتمع الدولي الضغط على حكومة دمشق لمعالجة قضية اللجوء وفق قرارات مجلس الأمن الدولي ذات العلاقة، والانتقال لحل على المستوى السياسي يوفر المناخ المناسب لعودتهم بأمان وحرية وكرامة.
ويخشى أغلب اللاجئين الذين فروا لأسباب سياسية أو أمنية أو لأسباب تتعلق بمسألة الخدمة العسكرية -حسب الكيلاني- من العودة في ظل الإجراءات القمعية التي لايزال النظام السوري يعمل بها، ويهدد بها معارضيه.
وفي المقابل، يرى معارضون وهيئات وناشطون سوريون -أطلقوا قبل 4 سنوات حملة متزامنة مع مؤتمر بحث ملف عودة اللاجئين عقد في العاصمة دمشق برعاية روسية- أن العودة لا يمكن أن تبدأ إلا بعد رحيل النظام، ووقعت 40 منظمة وهيئة سورية قادت الحملة -وفق وكالة الأناضول- على بيان تضمن إضافة إلى الشرط السابق 4 شروط أخرى للعودة الطوعية والكريمة، وهي “وقف قصف النظام للشمال السوري، وإنجاز الانتقال السياسي في البلاد، وتوفير البيئة الآمنة، والبدء بإعادة الإعمار”.