القاهرة- أبدى حقوقيون شكوكا تجاه نوايا الحكومة المصرية بالتسامح المفاجئ مع منظمات المجتمع المدني التي ظلت نحو 13 عاما متهمة بتلقي تمويلات أجنبية، ثم جرى قبل يومين إغلاق ملف القضية عقب صدور أمر قضائي بعدم وجود وجه لإقامة دعوى جنائية ضد تلك المنظمات.
وجاء إغلاق القضية في أعقاب مباحثات بين مسؤولين أوروبيين ومصريين، أسفرت عن منح الاتحاد الأوروبي مصر قروضا بنحو 12 مليار دولار على دفعات لعدة سنوات، وربط متابعون بين القروض وضغوط صاحبتها لغلق القضية، وسط تفاؤل بأن يكون الغلق مؤشرا على عودة عمل تلك المنظمات.
وأبدى بعض القائمين على تلك المنظمات مخاوف من أن تكون الإجراءات على الورق فقط، ولا صدى لها في الواقع، حيث لا أثر لرفع المنع من السفر ولا للقيود المضروبة على حساباتهم البنكية.
قضية عقاب
واتُهمت هذه المنظمات، خلال الأشهر التي تلت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، بتلقي تمويل أجنبي بشكل غير مشروع من جهات خارجية، وتم فرض إجراءات منع السفر وحظر التصرف في الأموال بحق قرابة 300 من مسؤولي 85 منظمة مدرجة بالقضية.
وجاء غلق القضية بعد سلسلة تحقيقات استمرت منذ عام 2011، قبل أن يسدل قاضي التحقيق المنتدب، المستشار أحمد عبد العزيز قتلان، الستار على أوراق القضية المعروفة إعلاميا بالتمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني لـ”عدم وجود وجه لإقامة الدعوى الجنائية ضد المنظمات”.
وحُفظ التحقيق ليكتب نهاية هذه القضية المثيرة للجدل التي نظر إليها مراقبون بأنها عقاب من المجلس العسكري الحاكم وقتها للمنظمات الحقوقية لدورها في ثورة 25 يناير.
ورأى قانونيون أن سقوط القضية كان يُفترض أن يجري عام 2012، عقب سماح المجلس العسكري الحاكم وقتها بسفر 15 ناشطا أجنبيا متهمين على ذمة القضية نفسها، بينهم 8 أميركيين، بقرار قضائي مفاجئ جاء بعد تدخل الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، ومطالبته المجلس بالسماح لهم بالسفر.
ثمة تفاؤل لدى البعض باحتمال أن تلي هذه الخطوة انفراجة في تعامل أجهزة الدولة مع المؤسسات الحقوقية مستقبلا، في مقابل توقعات باستمرار “اليد الغليظة للسلطات”.
بيد أن قرار قاضي التحقيق لم يشمل، حسب حقوقيين، كل المنظمات ولم يغلق القضية نهائيا، إذ لا يزال ملف المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة من دون حسم بعد، بعد اقتحام مقره والتحفظ على ملفاته وحواسيبه وإحالة ملفه إلى نيابة أمن الدولة العليا منذ عام 2017، وما زال مؤسسوه مدرجين على قائمة الممنوعين من السفر.
وتشمل الإجراءات الأخيرة المنظمات التي بدأ النظر في ملفاتها منذ عام 2016 فقط، من دون تلك التي يجري التحقيق معها منذ عامي 2011 و2012 ولم يُحسم أمرها حتى الآن.
ضمانات
وطالب المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، في بيان له، السلطات المصرية بأن يشمل القرار كل المنظمات المدرجة بالقضية، وأن يوضح قاضي التحقيق موقف المركز، كما يطالب بضمانات لكي يتمتع كل الحقوقيين المصريين بكافة حقوقهم المدنية.
ووصف مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان جمال عيد إغلاق القضية بأنه “تصحيح نظري لخطأ كبير استمر قرابة 13 عاما من دون سند قانوني وأي أدلة جادة تعزز الاتهامات التي طالت أغلب المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان والمجتمع المدني”.
وقال للجزيرة نت إن هناك “شكوكا حول إغلاق هذه القضية بشكل نهائي، في ظل ما يتردد عن عدم حفظها بحق بعض المراكز الحقوقية”، متسائلا: “هل سيترجَم هذا الإغلاق النظري بشكل عملي، ويرفع المظالم عن عشرات منظمات حقوق الإنسان والنشطاء والعاملين في هذا المجال؟”.
وعانى نشطاء، ممن تضرروا بسبب هذه القضية، من المنع من السفر، والتحفظ على الأرصدة، والمنع من استخراج توكيلات أو إجراء أي معاملات مالية، علاوة على التضييق على المنظمات الحقوقية وإغلاق المكتبات التابعة، مثل مكتبات الكرامة.
عرفت بمنعي من السفر في مطار القاهرة من ٨ سنوات وشهر،
عرفت بوجود قرار تحفظ على حساباتي من الجرائد من ٨ سنوات،
عرفت اليوم بغلق القضية، من الاعلام!!
اتمنى يكون قرار جاد بتصحيح خطأ ، والعودة للقانون.
والفرحة الحقيقية بعودة كل الأبرياء والمظاليم لأسرهم واحبابهم.
شكرا لاي جهد صادق…— Gamal Eid (@gamaleid) March 20, 2024
ونال الحقوقي جمال عيد نصيبا من هذه الأضرار، حيث تعرض لاعتداء من مجهولين قرب مكتبه، اشتبه في انتمائهم لأجهزة الأمن، ويقول “أريد شخصيا إزالة هذه القيود، لكي أتمكن من تجديد الحساب البنكي الخاص بي، وإجراء معاملات مالية لدعم الأنشطة الحقوقية”.
وأشار إلى أن الجميع “لا يدرك إذا ما كانت هذه القيود قد أزيلت حتى الآن أم لا، وحين تُزال، يمكن حينها الجزم إذا تم تصحيح هذا الخطأ أم لا”. واستبعد أن يكون غلق القضية مؤشرا على إمكانية حدوث انفراجة بخصوص عمل مؤسسات المجتمع المدني خلال المرحلة القادمة، نافيا وجود أي “إرادة سياسية” لحدوث هذه الانفراجة التي تحتاج إلى “تسوية عدد من المشكلات”.
ومن هذه المشكلات، يضيف جمال عيد، وجود آلاف المعتقلين السياسيين في السجون، ومئات الآلاف مغتربين قسريا في الخارج، وآلاف الممنوعين من السفر، وما دامت هذه الملفات مفتوحة، “فلا يمكن الحديث عن انفراجة”، بتقديره.
وأشار إلى ضرورة توافر بيئة تشريعية غير مقيدة لعمل هذه المنظمات، مثل قانوني الإجراءات الجنائية والعقوبات، موضحا أن قانون العقوبات لا ينظم مسألة المنع من السفر بينما يتضمن أحكاما مشددة قد تصل إلى المؤبد، بالإضافة إلى أنه لا توجد ضمانة لعدم تكرار تلك القضية، “في ظل ما تعانيه أجهزة العدالة من تغول للسلطة، بما يضع استقلالها على المحك”.
صفقة
من جانبه، ربط الأمين العام الأسبق للمجلس القومي لحقوق الإنسان عبد الله الأشعل بين إغلاق ملف مؤسسات المجتمع المدني والدعم السخي الذي قدمه الاتحاد الأوروبي للحكومة المصرية في صورة قروض مليارية.
ولم يستبعد الأشعل وجود ضغوط من قبل الاتحاد على الحكومة المصرية لإغلاق هذا الملف، وانتزاع تعهدات قد تُنفذ أو لا تنفذ لتخفيف الضغوط على مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية.
ويوضح أن سفر نحو 15 ناشطا أميركيا وأوروبيا تم عام 2012 بضغوط أميركية عقب اتصال هاتفي بين أوباما والمشير حسين طنطاوي، حيث تعاطت مصر بإيجابية مع المطالب الأميركية من دون وضع في الاعتبار أحكام القضاء بالمنع من السفر.
ورجح الأشعل إمكانية استخدام النظام المصري إغلاق هذا الملف لتحسين سجله في مجال حقوق الإنسان، لافتا للجزيرة نت إلى أن الضغوط على النظام قد تراجعت خلال السنوات الماضية بفعل تطورات حديثة كان آخرها حرب غزة، في ظل حاجته الماسة للمساعدات الغربية لتجنب تكرار أزمة الدولار خلال المستقبل المنظور.
وشاطره الرأي المحلل السياسي المصري عمار علي حسن حول وجود دور للمساعدات الأوروبية الأخيرة في دفع النظام المصري لإغلاق ملف منظمات المجتمع المدني، وأنها قد تكون من شروط صندوق النقد الدولي لإبرام صفقة تمويلية ضخمة لإنقاذ النظام من الأزمة الاقتصادية التي أقضت مضاجعه خلال السنوات الأخيرة.
واستعبد علي حسن أن تشهد المرحلة القادمة انفراجة في تعامل الحكومة المصرية مع منظمات المجتمع المدني ومؤسسات حقوق الإنسان، مؤكدا للجزيرة نت أنه لا توجد أي مؤشرات على تخفيف قبضة النظام على هذه المنظمات خلال المرحلة القادمة.
وأضاف أن إغلاق هذا الملف قد يكون مجرد تحرك تكتيكي من قبل الحكومة المصرية لإزالة أي عوائق تحول دون وصول المساعدات الأوروبية والدولية بشكل سلس. وأعرب عن أمله في ترجمة القرار على الأوضاع القانونية لهذه المؤسسات والقيود المفروضة على النشطاء.